بالاتكاء على عنوان وعديد تفاصيل كتاب شارون روتبارد، المحاضر في "أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم"، والموسوم بـ"مدينة بيضاء مدينة سوداء: أسلوب بناء وحرب في تل أبيب يافا"، انتظمت في "عليّة" مركز خليل السكاكيني في مدينة رام الله، ندوة بعنوان "المدينة البيضاء والمدينة السوداء: الاستعارات الاستعمارية عن تل أبيب ويافا"، للباحثة والأكاديمية الفلسطينية يارا السعدي إبراهيم، ضمن سلسلة ندوات "الشعبي والحضري واللارسمي".
وكان روتبارد لفت في كتابه الذي أثار غضب اليمين المتطرف، وهم الغالبية في إسرائيل الآن، إلى أن تل أبيب أقيمت على حساب مدينة يافا الفلسطينية، والتي يقول علماء الآثار إن عمرها خمسة آلاف عام، وذلك بهدف قضم وهضم المدينة الفلسطينية ومحو آثارها.
ركزت يارا السعدي إبراهيم على ثنائية المدينة البيضاء والمدينة السوداء، حيث تم استعراض تاريخ مدينة يافا قبل وبعد عام 1948، وتحدثت عن السياقات التاريخية والاجتماعية التي أثرت على هذه المدينة الفلسطينية الأيقونية، قبل أن تتجه إلى استعراض أمثلة من الصحافة والخطابات السياسية التي تعكس هذه الثنائية، مثل النظافة في يافا مقارنة بتل أبيب، والمخططات العمرانية التي اقترحها المهندس المصري المليجي مسعود، والتي تأثرت بالتصاميم الحديثة في بريطانيا، وكيف أن الخطاب حول ثنائية يافا وتل أبيب استمر حتى بعد عام 1948، مع الإشارة إلى استعارات استعمارية استخدمها كتّاب مثل جانيت أبو لغد وفرانس فانون، ما يعكس الانقسام في العالم الاستعماري.
وواصلت السعدي إبراهيم الحديث عن الفجوة بين "المدينة البيضاء والمدينة السوداء"، حيث تم التركيز على الاستعارات المستخدمة لوصف المدن، مثل وصف المدينة البيضاء (تل أبيب) بالنظافة والمدينة السوداء (يافا) بالقذارة، متناولة كيفية استخدام هذه الثنائيات بشكل نقدي، مشيرة إلى أن هذه الاستخدامات عادة ما تكون غير موضوعية، بل تعكس استشراقًا أو نظرة استعلائية، كما أنها تحصر المدن في سرديات معينة، ما يؤدي إلى تجاهل تاريخها وسياقاتها الأوسع.
وأشارت الباحثة الفلسطينية إلى كتاب روتبارد، واصفة إياه بأنه "ليس مجرّد سرد عن المدينتين، بل يتعمق في تفاصيل تاريخية ومعمارية، مثل أسماء المهندسين المعماريين الذين ساهموا في بنائها، ويتناول يافا من أكثر من زاوية".
وطرحت الندوة تساؤلات حول هذه الثنائية باعتبارها تعكس واقعًا استمر إلى ما بعد النكبة ولا يزال، وتحدثت السعدي إبراهيم عن استراتيجيات تكوين الأساطير المعمارية، والتي هي ليست محصورة في تل أبيب، بل تشمل أيضًا يافا، ما يستدعي "إعادة النظر في كيفية قراءة تاريخ هذه المدن من منظور فلسطيني".
وأشارت إلى أن إسرائيل وضعت أملاك اللاجئين تحت إدارة الوصاية على أملاك الغائبين، ما أدى إلى هدم العديد من المباني في يافا، ما يُظهر ذلك التأثير العميق للتهجير على المدينة وسكانها، مشيرة إلى أن حوالي 6162 مبنى، بقي منها 658 مبنى فقط بحالة جيدة، وهذه المباني المتبقية تم هدم العديد منها في العقود التي تلت النكبة، وتم تأجير واستخدام أخرى منذ عام 1949، مما يستدل، من خلاله، على دور الوصي الإسرائيلي على أملاك الغائبين، وكان معنيًا، كما هو معلن زيفًا، بالحفاظ على تلك الأملاك، لكنه استخدم صلاحيّاته في الواقع لتمويل توطين مهاجرين يهود جدد.
أما قانون عام 1953 والذي أنشأ سلطة التطوير، فكان حسب المتحدثة، بمثابة نقطة تحول، حيث كان للسلطات الإسرائيلية "الحق في بيع العقارات، بينما الوصي على أملاك الغائبين لم يكن بإمكانه ذلك"، مؤكدة أنه بعد عام 1953، تغيرت ملكية العقارات في يافا، ما أتاح بيعها تحت الملكية الجديدة، مُبرزة أهمية توقيت وسياسة عرض هذه المباني للبيع، ما يشير إلى تضرر النسيج العمراني والثقافي للمدينة.
وتناولت الندوة الحديث عن المنطقة التي كانت تُعرف بحي المنشية في يافا، وكانت تراه قيادات الصهيونية وعصاباتها بوابة تل أبيب إلى البحر، لذا شهد الحي بعد عام 1948 هدمًا كبيرًا، وتم تحويله إلى متنزه.
تطرقت الندوة إلى كيفية تطويع المستعمرين للتاريخ كوسيلة لتبرير عمليات الهدم والاستيلاء على الأراضي، وكيف أن الاحتلال، خاصة في سياقاته الاستيطانية، تذرع ببعد تاريخي يربطه بالماضي، ولكن هذا الماضي، في حالة يافا، غالبًا ما كان موجهًا نحو الفترات الرومانية بدلًا من التاريخ الفلسطيني.
وكشفت السعدي إبراهيم عن أن عمليات الهدم تضمّنت أيضًا حفر الأرض لإنشاء متحف يربط المدينة بالفترة الرومانية، ما يعكس محاولة خلق أسطورة حول المدينة البيضاء، مُظهرة كيف أن هذه الأسطورة تجاوزت المباني لجهة استخدام مصطلحات وهمية ذات طابع ثقافي، مثل "الغاليري" و"حي الفنانين"، وفي سياقات مختلفة، ما يعكس محاولات الحفاظ "الكاذبة والمضللة" على الهوية الثقافية.
وعند الانتقال إلى حي العجمي، أشارت المتحدثة إلى أنه تم تحويله إلى "غيتو" للفلسطينيين الذين بقوا بعد النكبة، حيث عاشوا تحت حكم عسكري حتى عام 1966، لافتة إلى أنه، وخلال تلك الفترة، كانت هناك محاولات لتهجير الفلسطينيين، وتم هدم أكثر من 3000 مبنى في الحي، ما أدى إلى تدهور كبير في النسيج العمراني، عارضة صورًا جوية تُظهر الكثافة السكانية قبل وبعد عمليات الهدم، ما يعكس التغيرات الكبيرة التي حدثت في المنطقة.
وخلصت الندوة أيضًا إلى أن الهدم كان يتم تحت ذرائع متعددة، حيث كان هناك منع لترميم المباني منذ خمسينيات وحتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ما ساهم في تدهور حالة المباني القديمة، بهدف إفراغ يافا من سكانها الأصليين، ما يعكس استراتيجيات الاستعمار في السيطرة على الأراضي وتغيير هويتها الثقافية.
وواصلت الندوة في تناول تأثير الحروب على المباني التاريخية، حيث تم منع الترميم في العديد من الحالات، ما أدى إلى تصنيف المباني كـ"خطرة" ومعرضة للهدم، في حين كانت شركات إسرائيلية تقوم بإدارة بيوت اللاجئين، وغالبًا ما كانت تفرض مبالغ كبيرة على السكان لترميم منازلهم، ما جعلهم غير قادرين على تحمل هذه التكاليف، وهو ما كان من بين استراتيجيات تهجير الفلسطينيين من حي العجمي.
وعادت يارا إبراهيم السعدي إلى كتاب روتبارد، الذي يذكّر القراء بأن تل أبيب حظيت بمجموعة من الجوائز بمقدار الجرائم التي ارتكبت بحق المدينة الفلسطينية العتيقة، وتعاطيه مع الجانب الهندسي من تخطيط مدينة تل أبيب الذي كان مواكبًا للسياسة القائمة على التدمير والبناء في يافا، وهو المبدأ الذي يشكل جوهرها.
أما توصيف "المدينة البيضاء" لتل أبيب، فيأتي من كونها تحوي أكثر الأبنية المقامة على طراز "باوهاوس" الأوروبي، قبل أن تفضح طبيعة تل أبيب التي يدّعي الصهاينة ومن بعدهم الإسرائيليون إنها أول مدينة يهودية صافية أقيمت في العصور الحديثة، حيث أشارت السعدي، كما صاحب الكتاب، إلى أنه ورغم كل ما سبق عرضه من "حقائق معروفة"، تم منحها ما يمكن وصفه بـ"الشرعية الأيديولوجية"، بحيث انتزعت تل أبيب اعترافًا من "اليونسكو"، في عام 2003 - بينما كانت قوات الاحتلال تجتاح كامل مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية، فيما عرف، وقتذاك، بعملية "السور الواقي"- بكونها من مواقع التراث الإنساني، مع أن عمرها لا يتجاوز القرن، ومع أنها جاءت على حساب مدينة يافا المحتلة التي بقيت مأهولة بدون انقطاع لخمسة آلاف عام.