جرّافاتُهم تشبههُم حتى أن رئيس وزراء منهم (نفتالي بينيت) يحمل لقب "الجرّافة" حيث كان استهل فترة رئاسته حكومة العدو باستصدارِ قراراتٍ لِفتح الطّرقات وتوسيعِها حول المستعمرات في الضفة الغربية، واقتلاعِ الأشجار وبخاصّة أشجار الزيتون، وكل ذلك من دون أي غطاءٍ قانونيّ.
وهي فرضت، بسبب جرائمهِم وأحقادِهم، تصورًا بشعًا لمفهوم الجرّافة داخل جوّانيات الوجدان الفلسطينيّ المتزنّر بوعيٍ عنيدٍ يرفضُ أن ينكسر، ويأْبى أن ينسى؛ فلا تحضرُ مفردةُ جرّافة وإلا وتحضر معها لحظةُ هَدْمِ بيتٍ، أو تجريفِ بُستان، أو تخريبِ شارع.
مشهد الجرافاتِ المصطفّة بالعشرات قرب معبر رفح تنتظر الإذن لها بالدخول للبدء بإزالة آلاف أطنان الركام، حرّضني لأكتب عن هذه الآلية التي تحمل أحيانًا ألوان زهوٍ وبِناء، ويُحمّلها الصهيونيُّ دائمًا لونَ الرّثاء.
القاص الفلسطيني حسين حمدان يقول إن الجرافة ارتبطت داخل وعي الإنسان الفلسطيني بصورٍ ومشهديّات "وفقًا لرغبتِهِ وحاجتهِ لها، بعيدًا عن مسميّاتها وأنواعها التي لا تعنيه بأي شكل من الأشكال. فهي بالنسبة للإنسان البالغ وفّرت عليه عناء التعب واختصرت الوقت واستثمرها في الإنماء. وفي وجدان الطفل الفلسطيني ليست الجرّافة سوى لعبة ساهمت في تنميةِ قدراتهِ وفي توثيق عُرى علاقته بوالديْه وباقي أفراد أسرته. كل هذا كان قبل أن تهدم الجرّافة بيت هذا الطفل، وتعتدي على مزرعتهم، وتعْبث في البُنية التحتيّة لبلدتِهِم، أو مخيمهِم. لقد أصبحت ملعونةً ومطليةً بألوانٍ غير ألوان الجرّافة/ اللعبة التي أهداه إياها والده في عيد ميلاده الأخير. صارت الجرّافة تشبه عند هذا الطفل الغولَ في خراريف الجدّات وقصصهِم، لكنّها لم تثنِهِ من أن يتقمّص منها القوة ويقْذفها بالحجارةِ ويلْعنها. كما أنها لم تُزِل منه الإيمان أنها من أفضل ابتكارات البشريّة لِمن يُجيدُ امتطاءَها كالخيلِ في الميدان مثلما حدث في صبيحة السابع من أكتوبر، عندما تمكّنت جرّافات غزّة ورغم حجمها الصغير من هدم الحواجز الإسْمنتية والإلكترونيّة والأمنيّة لِتمْنح العبور في يومهِ الخالد لِفرسان العصر الأوفياء".
إنها جرافاتٌ مدجّجةٌ بحقدِ الخرافات كما يرى الشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى صاحب ديوان "سماء غزة... تلال جنين" والفائز بجائزة فلسطين لعام 2024، إذ يقول في سياق وصفه لمدينةِ جنين خلال حوارٍ أجراه معه توفيق عابد لموقع الجزيرة الإلكتروني: "هي ذاتها عين الجنائن كما سُميت قديمًا، وبتلالِها تطلّ على مرج ابن عامر وتحْمي أثر الفراشات في مراعيهِ، وتصبحُ شجرةً لأسمائِنا ككلِّ مدن فلسطين عبر التاريخ، كونها شجرة للحياة. لم يدرك قاتلونا أننا نفقد وطنًا مع استشهاد أي منّا كما نفقد أرواحنا كلما اجتثّ أشجارَنا بفؤوسهِ العمياء، أو جرافاتهِ المدجّجة بالحقدِ المقدّس".
بدورهِ يكشف الشاعر الفلسطيني عبد السلام عطاري، مدير عام الآداب والنشر والمكتبات في وزارة الثقافة الفلسطينية، أن توظيف العدو الصهيوني للجرّافة لِتحقّق بعض أطماعه، أو تنفّذ بعض جرائمه، "ليس أمرًا حديث العهد، بل هو موجود منذ أن وطيء هذا الاحتلال أرض فلسطين، واستخدمها (الجرّافة) كسلاحٍ من عشرات الأعوام الماضية.
وكما يستهدف العدوّ البشر، فإنه يستهدف، إلى ذلك، الحجر والشجر والتاريخ، وبالتالي رافقته هذه الآلية بوصفها بالنسبة له آلةَ بطشٍ. وأوّل مرّة شاهدتُ فيها، شخصيًا، فعلًا عدوانيًا يرتكبه عدوّنا الصهيونيّ باستخدام جرّافة، كانت في سبعينيات القرن الماضي، عندما هدموا بيتًا في جنين بحجّة عدم الترخيص. هم، على وجه العموم، كيّفوا معظم قوانينهم لِتيسّر لهم فعل الهدْمِ متى عنّ على بالِهم (وما أكثر ما يعنّ) القيام بفعل هدْمٍ، أو تجريفٍ، أو دفْعٍ باتجاه التهْجيرِ، وبالتالي، التطْهير". عطاري يقول: "يستخدمونها لإنفاذ أوامر هدْمٍ عسكريةٍ أو قضائية أو مزاجية... يستخدمونها لكي لا نعود نراها إلا آلة بشعة"، ويوضح أن حجم استخدام العدو للجرّافة ازداد بعد اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، كما حدث، على سبيل المثال، خلال اجتياحهم مخيم جنين، حيث لعبت الجرّافات بشِعةُ الضّخامة دورًا حاسمًا في إتاحة المجال أمام القوات المُعتدية من لواء غولاني وغيره لدخول المخيم بعد تسوية معظم مبانيه وبيوته المتراصّة بِالأرض". عطاري يستعيد كذلك حجم استخدام العدو لتلك الجرّافة التي باتت مرتبطة بجرائمه، خلال الانتفاضة الكبرى (انتفاضة الحجارة في عام 1987)، حيث اُستخدمت أيامها "بضراوةٍ" لإزالةِ الحواجز الترابية والحجريةِ التي كان يشيّدها المنْتفضون على مداخل مدنهِم وقُراهُم. عطاري يخلُصُ إلى أن استخدام العدو للجرّافة قديم، وأنه طوّر، على مدى العقود الماضية، هذا الاستخدام كمًّا ونوعًا، وزادَه شراسةً، وجعلهُ أكثرَ فاعلية.
بحسب الخبير العسكري العراقي كريم الفلاحي فإن جرّافة (D 9) لها أدوار متعددة في العمل العسكري، وتسمى "الكتائب القتالية" لأنها تعمل عمل الدبابات والمدرّعات، "ولولاها لما تمكّن جيش الاحتلال من التقدّم في شمال قطاع غزة وفي خان يونس". الفلاحي يوضح أن هذه الجرّافة تقوم بتجريف الشوارع بشكل كامل، وشقّ طرق جديدة للعجلات والآليات بدون أن تدْخل في حقول ألغام، أو في مناطق مزروعة بالألغام. كما تُستخدم مثل هذه الجرافات، بحسبِهِ، في إقامة السواتِر الترابيّة والتحْصينات في المنطقة، بالإضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي يتحدّث عن تزويدها بِمدافع ورشاشاتٍ في الفترة المقبلة لكي تكون قادرة على القتال.
بدأت إسرائيل اعتماد الجرافات عسكريا منذ العدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956، واستخدمتها أيضا في حرب حزيران/ يونيو 1967، وحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كما تستخدمها بشكل أساسي في اقتحاماتها البرّية بالضفة الغربية وحروبها على قطاع غزة.
على كل حال ليس في واردي الإبحار في أنواع جرّافاتهم (باندا، وسي إكس 1، وجي سي بي، وإتش إم إي إي وغيرها وغيرها) ولا في أحجامِها ومهامِها، ولكن يكفي أن نعرف أن وزن بعض أنواعها يصل إلى زهاء 60 طنًّا. وأن نعرف أن السكّير العاطل عن العمل موشيه نسيم يفخر أنّه عاث بجرّافته فسادًا فوق أرض مخيم جنين في العام 2002، وكرّر أكثر من مرّة في رسالة من صفحة واحدة، أو صفحتين، أنه لم يكن يأبه لمن هم داخل البيوت التي هَدَمها بجرّافته، وأنّه واصل الهدم والتجريف 75 ساعة متواصلة، وأن معينهُ كان لِيواصل جريمته عدة زجاجات من الويسكي!
في قصته "الجرّافة والحصن" المُهداة إلى كل فلسطينيٍّ صامد، يسأل الشاعر والقاص الجزائري بختي ضيف الله: هل تعرف الجرّافة الصهيونية الخوف؟ ثم يجري حوارًا مع جدّه الذي ما يزال يحتفظ بصورته، وعندما يسمعه الجنود يتحدّث مع نفسه، يسألونه مع من يتحدث، فيخبرهم أنه يتحدث مع جدّه، فإذا بهم يقهقهون قائلين له إن جدّه الذي يحاوره كالمجنون مات من زمان عندما دهستْه جرّافة تأتمِرُ بأمرِهم!
في كل العالم ترتبط الجرّافة بالبناء، بإزالة ركام، بتسهيلِ سُبُل الحياة، إلا عند الصهاينة فقد (شَحطوها) نحوَهم فإذا بِها جزءٌ من أدواتِ قتلهِم ومسهّلات تدميرهِم.
تواصل الطائراتُ والدباباتُ والجرّافاتُ الصهيونية عدوانَها، ويواصل الشعب الفلسطينيّ صمودَه، وكلّه يقينٌ أن روح المقاومة هي الوحيدة القادرة على تفكيك آلة القتل، وتجفيف منابعِ مشروعهِ التوسعيّ الإحلاليّ الوَضيع.
يأخذ المقاومون بأيدينا إلى ينابيع الحياة، فنعرف أننا قادرون على الثباتِ ضدَّ الزلْزلة، والفرحِ ضدَّ الحزن والكآبة، والأملِ ضدَّ اليأس، والانتصارِ ضدَّ الهزيمة.
ينابيعُ باقية إلى الأبد، لا تجفّ ولا يسمّمها الاحتلال، أو يدمّرها بأنياب جرافاتهِ ومخالِبها، وقنابل وصواريخ طائراته ودباباته. ينابيع فيّاضة تؤكد في كل صبح، وفي ولادةِ كل طفل، وزنْبقة، وسنْبلة قمح، وفراشة، وقطْرة ندى، أن هذا الاحتلال زائل، وأن المقاومةَ الفلسطينيةَ المشبعةَ بروح شعراء فلسطين ومبدعيها وشبابها وزهراتها وفنّانيها أقوى من همجيّة جنرالات إسرائيل وترسانتهِم العسكرية الوحشيّة، وأقوى من جنازيرِ الجرّافةِ الخائفةِ من الياسين.