}

"العمران النيوليبرالي" في فلسطين

يوسف الشايب 9 مارس 2025
ارتبط ما اصطلح عليه بـ"العمران النيوليبرالي" في فلسطين بمرحلة ما بعد أوسلو، بشكل أساسي، حيث رافق هذا التحوّل السياسي تحوّل معماري، خاصة في مدينة أو بلدة أو قرية رام الله، وهو ما تطلب تغييرًا في التنظيم القانوني للأراضي، وتسجيل الملكية الفردية للأراضي، والسماح للأفراد والشركات، وفي وقت لاحق للأجانب أيضًا، بتملك مساحات من الأراضي التي تتبع المناطق المنصفة "أ"، والتي تتبع السلطة الفلسطينية، وفق الاتفاقية التي مر عليها أكثر من ثلاثين عامًا، ولم تعد سلطات الاحتلال تعترف بها علنًا، بل إن حكومة نتنياهو لطالما أكدت مرارًا على رفضها قيام دولة فلسطينية، ما ينسف أوسلو من أساساتها.
وفي ندوة حول هذا النمط من المعمار، استضافتها "عليّة" مركز خليل السكاكيني الثقافي في مدينة رام الله، أخيرًا، أشارت الأكاديمية والمعمارية شادن عوّاد، الأستاذة المساعدة في دائرة الهندسة المعمارية والتخطيط بجامعة بير زيت، إلى أن هذه الظاهرة المعمارية وتبعاتها كانت سائدة في فلسطين، نهاية القرن التاسع عشر، ولكن بمظاهر مختلفة، حيث تشترك تلك الحقبة مع ما نعيشه اليوم، خاصة في مدينة كرام الله، بــ"فورة البناء"، فما حدث قديمًا في نهاية حقبة الحكم العثماني، وتعمق في فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، لا يختلف كثيرًا عمّا يحدث في فلسطين معماريًا، وارتباطات ذلك اقتصاديًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، تحت إدارة السلطة الفلسطينية، منذ عام 1994، وهو ما تعمق بتسلم د. سلام فياض رئاسة الحكومة الفلسطينية في عام 2007، في أعقاب الانقسام الفلسطيني ما بين غزة والضفة الغربية.

رام الله

وتحدثت عوّاد عن كتاب لمجموعة من الباحثين صدر بالإنكليزية بعنوان "رسم الخرائط الحاسمة"، تحدث عن هذا الجانب، مشيرًا إلى أن تلك الحكومة كانت تهدف بالأساس، بل وسوقت، لخطة إنشاء الدولة بحلول أيلول/ سبتمبر 2011، وعليه بدأ تركيزها على تسهيلات الاقتراض لأغراض استملاك العقارات، من ضمن السياسات النيوليبرالية الجديدة التي تبنتها حكومة فياض، لإقناع المجتمع الدولي بأن الفلسطينيين جديرون بأن تكون لهم دولة، وهي سياسات وفرت للمستثمرين والمطورين العقاريين بيئة ملائمة، وربما من دون قيود.





وشددت عوّاد على أن التحوّلات نحو "العمران النيوليبرالي" في فلسطين جاءت في ضوء الحالات المتغيّرة للحلم الفلسطيني من الحلم بالتحرر والأرض إلى حلم الدولة، وما رافقه من حلم البيت والشقة والسيارة، علاوة على ارتباط ذلك بالتحولات النيوليبرالية وسياسات العولمة في العالم العربي والعالم، ولذا "شهدت حقبة ما بعد أوسلو مشهدًا مضطربًا إلى حد ما، خضع في السنوات اللاحقة للقوى النيوليبرالية والعالمية التي شكلت وتشكل المشهد المعاصر"، والذي كان من المفترض أن يتم بناء "الدولة" في ظله.
وهنا كان لا بد من العودة إلى كل من رجا الخالدي وصبحي سمور، في تفسيرهما العلاقة بين إنشاء الدولة النيوليبرالية، بحيث وجدا أن "التحول النيوليبرالي للسلطة الفلسطينية عمومًا، ارتبط بحكومة سلام فياض (2007- 2013)، والتي كانت تهدف إلى إنشاء دولة بحلول أيلول/ سبتمبر 2011، وفي هذه الفترة، تركز برنامج السلطة الفلسطينية على افتراض أن الحقائق على الأرض ستقنع المجتمع الدولي بأن الشعب الفلسطيني اكتسب النضج الكافي ليعهد إليه بالدولة، ومن ثم، تبنّت الحكومة الليبرالية الجديدة كنموذج لإثبات الحقائق على الأرض".
أما ليزا تراكي فوجدت أن مدينة رام الله، ما بعد أوسلو، "تبنّت المناحي المعولمة للمدن العربية الكوزموبوليتانية، كدبي بالأساس، وعمّان وبيروت والقاهرة، حيث غدت تشبه هذه المدن أكثر مما تشبه مدنًا فلسطينية أخرى، ما أدى إلى زيادة الفجوة الطبقية، ونشوء نمط حياة استهلاكي مُعولم، تتبنّاه طبقة وسطى جديدة"، مشيرة، أي تراكي، إلى أن "هناك العديد من التأثيرات المتنوعة، والتي اجتمعت معًا لتشكل الواقع الحالي لمدينة رام الله، والتي تبلورت بحلول السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن إنشاء السلطة الفلسطينية، بعد أوسلو، كان بمثابة نقطة تحوّل أخرى في رحلة رام الله من القرية الصغيرة إلى المدينة المركز للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فبالرغم من أن اتفاقية أوسلو سياسية بالدرجة الأولى، إلا أنه كان للنظام الجديد الذي نشأ عن هذه الاتفافية، آثار اجتماعية بعيدة المدى أيضًا، وخاصة بالنسبة للشكل الذي ستصبح عليه رام الله".

جانب من رام الله الجديدة ما بعد أوسلو

وفي ذات الإطار يشير توفيق حداد إلى أنه تم بناء عملية السلام بشكل ينسجم مع التنمية النيوليبرالية، سواء في نهجها الشمولي أو المُصغّر في التعامل مع تسوية النزاع، ناسبًا لإيال وايزمان إشاراته حول أدوات السيطرة على الأراضي الفلسطينية، والتي يرى أنها تحولت إلى "مختبر لتكنولوجيا السيطرة"، والتي لا تقتصر فقط على التكنولوجيا العسكرية، ولكن تمتد لأدوات الحكم والهندسة الاجتماعية، لذا "فالتكوين المعماري للاحتلال الإسرائيلي كان بمثابة تسريع للعمليات السياسية العالمية الأخرى، وفق أسوأ سيناريو للعولمة الرأسمالية، وتداعياتها المكانية".
أما شكل المدينة والعمارة فيصفه الفنان والباحث يزيد عناني، في مقاله حول حالة الفصام ما بين الواقع الاستعماري وما بعد الاستعماري، بأنه حالة الوهم بالتحرر في ظل وجود الاحتلال، فغدا المشهد مضطربًا ومُشوشًا، لافتًا إلى أنه "منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، أصبحت رام الله مركزًا لمشاريع التطوير العقاري الكبيرة، حيث جرت عمليات هدم للمباني والأحياء القديمة بالجرافات الفلسطينية، وانتشرت الحفريات في معظم الأحياء استعدادًا للمباني الجديدة، وبدأت الرافعات تتزايد بسرعة في أفق المدينة...".




وأضاف: "اختفت العديد من المعالم، خاصة تلك التي تحمل قيمة تاريخية واجتماعية، مثل دور السينما والفنادق والبيوت، وحلت محلها الأبراج الخرسانية والزجاجية... تغيّرت ملامح الأحياء التي كانت تتمتع بروح محلية أصيلة، ليحل محلها مشهد من أبراج الأعمال، كما تلاشت الهوية المحلية للأحياء، تحت تأثير المناطق التجارية، وانتشار المقاهي والمطاعم والحانات".
وعن تحوّلات "عمارة السكن" ما قبل وما بعد أوسلو، نعود لعوّاد التي تحدثت بداية عن الفترة ما بين 1967 إلى 1993 في الضفة الغربية، لافتة إلى أن "بناء المساكن  الفردية كان تلبية للحاجة، خاصة مع وجود نسبة قليلة من المباني السكنية متعددة الطوابق، لتلبي حاجة العائلة الممتدة، أو الإيجار كمصدر دخل إضافي للعائلة"، كما برزت "تعاونيات سكنية مرتبطة بمهن أو نقابات أو اتحادات أو إسكانات شعبية، كإسكانات الأطباء والمهندسين، وإسكانات الجامعات والمعلمين، بالإضافة للمساكن الشعبية والفئوية الدينية والمجتمعات اللاجئة"، علاوة على ظهور "المشاريع التعاونية في العديد من الحالات كانت جزءًا من عمارة مُقاومة لحماية الأرض من الاستيطان".
وأشارت عوّاد إلى أنه ضمن سياق شعب يتعرض للمحو والإبادة المكانية، وتمثلت ولا تزال في سياسات الاستعمار الاستيطاني للسيطرة على المكان الفلسطيني منذ 1948، والتي تغولت بعد انتفاضة الأقصى في عام 2000، ولها آثارها على تخطيط ونمو القرى والمدن الفلسطينية، كان لا بد من تعديلات على القوانين، فتم تعديل قانون الملكية، حيث سمح بتملك أكثر من وحدة سكنية على قطعة الأرض الواحدة، وتم تعديل على قانون البناء والتخطيط، بحيث تم تسهيل عمليات الترخيص والبناء، فزادت عدد الطوابق.
ورافق ذلك، في مرحلة "عمارة السكن ما بعد أوسلو"، سياسات مالية نيوليبرالية، هدفت إلى "دعم وتشجيع الاستثمار، بدأت بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، وتبلورت انطلاقًا من سياسات حكومة سلام فياض، التي تناغمت مع سياسات البنك الدولي، وشملت نظام القروض العقارية، والتسهيلات البنكية".
وخلصت عوّاد إلى أن الفترة ما بعد أوسلو، وبالذات في ظل خطة الإصلاح، "شهدت تعزيزًا لثقافة الاستهلاك، وتحوّل السكن إلى سلعة، يتم ترويجها كأنماط حياة جاهزة مثالية، ضمن سياق استهلاكي بحت، تنظمه أدوات وسياسات نيوليبرالية، ما أدى إلى تحوّلٍ في عمارة السكن، من عمارة تقضي الحاجة إلى عمارة تهدف للربح، وبالتالي أصبح الاهتمام مُنصبًا على قيمة المساكن التبادلية في السوق، عوضًا عن القيمة الاستعمالية، ومنفعة السكن".
وهنا تعود عوّاد ونعود معها إلى ما قاله مريد البرغوثي في "رأيت رام الله"، وكتبه بعد عودته إليها في عام 1996، بعد سنوات طويلة في المنفى: "رام الله السرو والصنوبر، أراجيح المهابط والمصاعد الجبلية، اخضرارها الذي يتحدث بعشرين لغة من لغات العالم، مدارسنا الأولى... تجوّلت في شوارع رام الله يوميًا، أردت استعادة تلك الإيقاعات والصور العتيقة للمكان... كان الإيقاع محمومًا كأنني أريد أن أستعيد رام الله بأكملها دفعة واحدة إلى حواسي الخمس، تلك الرام الله التي أستعيدها بخيالي هي الوهم ذاته الآن... إنها ليست رام الله التي أقدّمها لتميم اليوم، كأنها كانت وهمًا في خيالاتنا لا حقيقة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.