كان في واردي أن أجعل عنوان الموضوع: "عمارة وسط القاهرة: حكايات الزمن الجميل" لولا أنني وصلتُ، وقد قفزتُ فوق الستين من عمر التجارب، أن الزمنَ المصريَّ/ القاهريَّ/ الاسكندرانيَّ الذي حسبناه جميلًا ما كان كذلك. وإلا فكيف لم تنفع تلك الأيام أهلها عندما احتاجوها ليواجِهوا التطرّف والحقد الطبقيّ القارّ في وجدان أهل المحروسة؟ ولِيقفوا بصلابةٍ منعًا لِطغيان حُكّام مصر على اختلافِ مرجعياتِهم وتحالفاتِهم؟ وكيف لم تسعفْهم تلك الأيام الخوالي (منذ ملهى أوبِرْج، مرورًا بجروبّي وماسبيرو وجاردن سيتي، وليس انتهاء بالأفلام والأغاني) حين احتاجوا تبيّنَ ملامحَ هويةٍ واضحةٍ صادحةٍ لهُم؛ عروبيةً إسلاميةً قبطيةً فرعونيةً جامِعةً مانِعة؟
على كل حال ليس هذا موضوعنا بل عمارة وسط القاهرة بمختلفِ ما تحمله مبانٍ عريقةٌ هناك من تعدُّدِ مدارس معمارية وروحٍ تنوعيّةٍ لا تنسى بلدًا أو حضارة إلّا وتقْتَبِسُ في تفاصيلِها بعضًا منه ومنها؛ من المماليك، إلى زمن الخديويين، إلى لمسةٍ طليانيةٍ/ رومانيةٍ/ أوروبيةٍ لا تخفى على مطّلع، إلى حنينٍ نحو العمارة الإسلامية وأقواسِ شبابيكِها وتعشيقِها (تلك النوافذ) بالأزرقِ المحسوب، حصرًا، على هذا النوع من العمارة.
بعض المعنيين يطلقون على هذه المباني مصطلح "المباني التراثية" قاصدين بتسميتِهِم الأبنيةَ والعَقارات التي تمْتاز بطرازٍ معماريٍّ فريدٍ يمثّل حقبةً مهمّةً من تاريخ الفن والعِمارة، ويشكل تصميمُه إبداعًا متفرّدًا لمعماريٍّ أو فنان محليٍّ أو عالميّ. وللدقّة، هذا جزء من تعريف المبنى التراثي، وهو المختص بالشكل، إذ يفترضُ أن للمبنى التراثيّ، إلى ذلك، قيمة تاريخية اكتسبها من ارتباطه بحدث تاريخيٍّ قوميّ، أو أن تكون سكنت فيه شخصيات مهمة ومؤثرة، فضلًا عن عمره وقيمته المعنوية والاجتماعية. وفق هذا الجانب من تعريف المباني التراثية، يضم وسط البلد القاهريّ، وعلى امتداد شوارعِه وميادينِه، مئات العقارات والمباني التي تتحقّق فيها هذه الشروط مجتمعة.
في سياق التمهيد للموضوع، فإن مباني وسط القاهرة المتعلّقة بقراءتنا هذه عانت خلال القرنيْن الماضييْن من إهمال مؤلم، وتعرّض كثيرٌ منها للتشويه والتغيير، سواء في بنْيتها، أو في شكلها الخارجي، بل إن بعضها اختفى تمامًا، للأسف، وأُزيل من الوجود. فتلك المباني والعَمايِر التي تحمل هذه السمات التراثية المعمارية اللافتة في وسط القاهرة، تجلّت بوصفها المعبّرَ الأوضحَ عن المتغيّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التى شهدتها مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، وجسّدت الانتقالات الكبرى للسّلطة السياسية من الملكية إلى الجمهورية، وانْتقال طبقات وفِئات اجتماعية من القاهرة الإسلامية إلى وسط البلد، ذات الطابع الكوزْموبوليتي، وكذلك هجرة هذه الفئات إلى أماكن أحدث، لتحل محلّها طبقات أخرى (عمارة يعقوبيان نموذجًا).
عمارة "لوفر موبل"
المتابع للسينما والدراما التلفزيونية المصرية لا بد أنه شاهد عمارة "لوفر موبل" مئات المرّات، حيث بموقعها عند جادّة حيوية مشكّلة رأسَ مثلّثٍ نصفَ دائريٍّ ملفتٍ للنظّر بلونِ حجارتها وتفاصيل النقوش المحفورة فوق تلك الحجارة، ولون نوافذها (الترْكواز) الأخّاذ (بين الأخضر والأزرق)، والأعمدة التي تحمل تلك النوافذ، والأقواس التي تعلو كل نافذة من نوافذها، شكّلت إغراء جماليًا بصريًّا لجعلها فاصلًا بين كل مشهد وآخر، فهي تناوبت وما تزال تتناوب مع عمارة جروبّي التي سنفصّل لها لاحقًا، حظوة التصوير السخيّ، جروبّي لأنها عند ملتقى جادة طلعت حرب حيث النصب المكتوب عليه "محمد طلعت حرب" المحتفي بمؤسس بنك مصر بهدف التحرّر من الاحتكار المصرفي الأجنبي، وصاحب الرؤية الاقتصادية المصرية التي تمخض عنها عشرات المصانع المصرية الخالصة ليس ابتداء بمصنع مصر للغزل والنسيج، ولا انتهاء بمصنع مصر للمناجم والمحاجر، وبينهما كل ما يعزز الهوية المصرية الساعية أيامها للتخلص من المحتل والمستعمِر بغض النظر عمّن يكون ومن أين جاء. اسم العمارة يتعلّق بمحل مفروشات وتحف "لوفر موبل" العريق الذي تأسس عام 1910، وهو موجود في طابق العمارة الأرضي، وواجِهته نحو الجادّة التي ينفتح المبنى عليها وفي ظهره الطرق والشوارع التي تؤدي إلى ميدان التحرير وما حوله. لون حجارة العمارة الورديّ الآسِر كما لو أننا أمام خزنة البتراء الأردنية، وازدحام قوامها بتفاصيل دقيقة ومتداخلة، وارتفاعها أعلى من معظم المباني التراثية وسط القاهرة، كل هذا وغيرُه جعلها تحفة تحتاج إلى من يحافظ عليها من جهة، وإلى من يتأمّلها بصمتٍ من جهة ثانية، لعله يصل في تأمّله إلى ما وصلته أغنيةِ شارةِ مسلسل قديم: "والّلي بنى مصر كان في الأصل حلواني".
عمارة مظلوم
لعل لها من اسمها نصيب، فعمارة "مظلوم" التي تحمل هذا الاسم كونها موجودة في شارع مظلوم داخل تفاصيل "باب اللوق"، هي من المباني التراثية الجمالية التي تسقط، عادة، من تعداد المعددين الراغبين برصد مباني وسط القاهرة المحتفية بجماليات عمارةٍ وفنونِ إبداعٍ إنسانيٍّ خلّاق. ورغم أن "باب اللوق" هو في الأصل شياخة من شياخات حي عابدين وسط القاهرة، شيّد في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ليكون بوابة ميدان ألعاب الكرة والفروسية والرماية، إلا أن كل هذه العوامل الكفيلة بإشهار العمارة واعتمادها بوصفها واحدةً من مباني زمن العزّ القاهريّ العتيد؛ العراقة العتيقة، والجمال الأخاذ، وشهرة باب اللوق القريب من شارع مظلوم حيث العمارة الشاهدة على زهاء ألف عام من تاريخ أرض الكنانة، لم تسهم بمنح العمارة الشهرة التي تستحقها رغم جمالياتها المعمارية اللافتة، بدءًا من اعتلاء قبة جميلة بلونها القريب من الأحمر الفاتح وتجليها كما لو أنها تاج يزيّن قمّة العمارة، مرورًا بشرفاتها نصف الدائرية لجهة الخارج تتوارى خلفها نوافذ متعددة الحلول المعمارية من المستطيلة إلى القوسية، إلى كل تفصيلة معمارية من تفاصيل العمارة التي بدأ تشييدُها عام 1925، فوق أرض كانت تعود ملكيتها للخديوي إسماعيل. ورثة الخديوي هم من أمروا بتشييد العمارة وتبرعوا بها بعد الانتهاء منها عام 1928، لوزارة الأوقاف المصرية حيث ما تزال محسوبة على هذه الوزارة حتى يومنا هذا. العقار مكوّن من خمسة طوابق إضافة إلى طابق أرضي ورُوف حيث القبّة الشامخة. إضافة للطرز التي كانت شائعة في مصر الخديوية، فإن طرازيّ عمارة النيو- باروك الفرنسي والآرتي- ديكيو الإنكليزي وجدا لهما موطئيّ قدمٍ في تفاصيل البناء وهندستهِ وروحِه، من دون أن ننسى تأثير عمارة حوض البحر الأبيض المتوسط على بعض تفاصيلها. مساحة المبنى 810 أمتار مربعة. اسم العمارة يحمل اسم الشارع الموجودة فيه: شارع مظلوم نسبة إلى أحمد مظلوم باشا المولود في تركيا عام 1878، والذي تولى مرّة منصب وزير الأوقاف في مصر أيام حكومة سعد زغلول، علمًا أن والده محمد مظلوم كان مديرًا للأوقاف قبل أن تصبح وزارة.
عمارة جروبّي
من أشهر العماير المصرية، إن لم تكن أشهرها جميعها. وإضافة إلى جمالها المعماريّ الذي لا لبس فيه، فإن جزءًا كبيرًا من هذه الشهرة يعود إلى وجودها، كما أسلفنا، في رأس الجادّة التي يتوسطها تمثال طلعت حرب، علاوة على شهرة جروبّي في الزمن الكوزموبولاتيّ داخل سيرورة المشهد الحضاريّ والحضريّ المصريّ. عمارة شامخة مرّ على تشييدها عقود، ذات بنيانٍ بطرازٍ أوروبيّ، تعلو مقهى شكّل جزءًا من تاريخ مصر الحديث وقصصه ومؤامراته. تفاصيل كافية لأن تبقى عمارة جروبّي بكل عنفوانها حتى يومنا هذا. العمارة من تصميم المهندس المعماري الإيطالي جوزيبي مازا، على الطراز الأوروبي الممْزوج بالروحِ المصرية. تقوم جماليات "جروبي" على عامليْن رئيسيين: وجود انحناءات في معظم قوامها المعماريّ، واعتماد هذا القوام على أعمدة ذات روح طليانيّة/ رومانيّة تتوزّع ثلاث جهاتها التي تتصدّر المشهد. جاكومو جروبّي حلواني سويسري، وجوزيبي مازا معماريّ إيطالي، وإذا استثنينا إفطار أم كلثوم اليوميّ فيه، فإن معظم زبائنه كانوا من الإنكليز والفرنسيين وأجانب مصر أيام ما كان أجانبها يتزاحمون على حظوةٍ فيها؛ هكذا كانت مصر، ليس كل مصر، فقط عاصمتها التي ظل المصريون حتى وقت قريب يطلقون عليها اسم البلد كلّه (نازل مصر... راجع من مصر) قاصدين في مصر هنا القاهرة. ومدينة ثانية تحمل اسم الاسكندرية الذي تحمله مدن كثيرة في العالم وصولًا إلى ولاية فيرجينيا الأميركية القريبة من عاصمة الفيديرالية الحاكمة بأمر البيت الأبيض، حيث هناك اسكندرية أخرى ينتمي إليها كثير من مشاهير الولايات المتحدة من بينهم جورج واشنطن (George Washington) الذي تحمل العاصمة اسمه. وتشتهر اسكندرية أميركا بشوارعها التقليدية الجميلة المرصوفة بالحجارة، وفيها العديد من الأبنية التاريخية المعتّقة، والمعارض الفنية المنمّقة.
عمارة الإيموبيليا
لعلّنا لا نجانب الحقيقة حين نقول إن عمارة الإيموبيليا على وجه التحديد لا تتمتع بعمارة جميلة، ومع ذلك ما تزال تحتفظ بشهرة كبيرة سببها هذا العدد اللافت من الفنانين الذين توارثوا الإقامة فيها جيلًا بعد جيل، وفي المقدمة منهم جميعهم ليلى مراد وأنور وجدي ونجيب الريحاني، حتى أن العمارة ارتبطت ردحًا من الزمن بليلى مراد وأنور وجدي اللذين جابت قصة حبهما الآفاق العربية على الأقل، بوصف علاقتهما وزواجهما شكّلا نموذجًا للروح المصرية التي كانت تستوعب في وجدانها أبناء الديانات السماوية الثلاث. العمارة موجودة عند ناصية شارع شريف وقصر النيل في وسط البلد، وتم الانتهاء من بناء برجيْها عام 1938. كل برجٍ من برجيْها مكوّن من 13 طابقًا على شكل حرف U.
عمارة تيرينج
تقع عمارة "تيرينج" في منطقة العتبة وسط القاهرة، وتتكوّن من خمسة طوابق في أعلاها كرة تحملها أربعة تماثيل. هي بقبّتها وتماثيلها وتفاصيلها تحفة معمارية لم يصمم معماريُّها سوى نسختيْن أُخريين منها. هي اليوم مُهملة كما معظم العماير التي نتحدث عنها.
عمارة تريستا
من تصميم المهندس المعماريّ الإيطاليّ أنطونيو لاشياك. طرازها كلاسيكي مُستحدث. تاريخ تشييدها عام 1911. بزخارفها الإسلامية ونوافذها العريقة وطوابقها الخمسة ومساحتها التي تزيد على 1330 مترًا مربعًا، تشكّل "تريستا" تحفةً أخرى من تحف وسط القاهرة.
عمارة يعقوبيان
رغم أن عمارة يعقوبيان حققت شهرة مضاعفة بعد عرض فيلم "عمارة يعقوبيان" من إخراج مروان حامد عن رواية تحمل الاسم نفسه من تأليف علاء الأسواني، وبطولة عادل إمام ويسرا في أحد أدوارهما المهمة والبعيدة عن المبالغة، إلا أن الفيلم، حقيقة، لم يصوّر داخل العمارة التي يحمل اسمها، ولعل للأمر علاقة بتفاصيل لوجستية أو شيء من هذا القبيل. مالكها جاغوب (أو هاغوب) يعقوبيان من أصول أرمنية وكذلك مصممها المعماري جاليو باليان، وهي تشبه إلى حد بعيد عمارة "لوفر موبل" بطرازها المتقاطع مع عدة مدارس معمارية في المقدمة منها مدرسة الآرت- ديكيو (أو ديكو) الإنكليزية.
عمارة بهلر
مكان فندق قديم اسمه "سافوي" قرّر السويسري تشارلز بهلر تشييد مبنى يحمل اسمه، فكان أن استدعى المهندس المعماريّ الفرنسيّ ليو نافليان الذي لم يبتعد في تصميمه للمبنى عن روح المباني حوله: "لوفر موبل" و"يعقوبيان" وغيرهما، وأُنجز المبنى، بالتالي، بين عاميّ 1928 و1929، وفق معطيات الآرت- ديكو مع إضافة لمسات إسلامية وجمالية وأُخرى مُستقاة من عدة مدارس معمارية.
إن ما يتبيّن بوضوحٍ لا لبس فيه أن الوعي المعماري الذي كان سائدًا حين جرى إعمار وسط القاهرة، هو وعيٌ متنوّعُ المشارب، متعددُ المرجعيات، مع بروزٍ لافتٍ للروح الأوروبية المُعشّقة بكنوز الحضارات التي تعاقبت على أمّ الدنيا ليس أوّلها الزمن المملوكيّ، ولا آخرها المرور الخديويّ.