وللتمثيل لا الحصر نستشهد بكتاب "العصر الأندلسي: العمارة والفنون الأندلسية في غرناطة وطليطلة وقرطبة" (2022) لِمؤلّفه البروفِسور محمد حسن العيدروس. ولا ننسى الأطروحة التي نالت عليها رغد جمال درجة الدكتوراه حول "العمارة الأندلسية من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري"، متأمّلة الرقيّ العمرانيّ الذي شهدته بلاد الأندلس خلال عصر الولاة (عهد الفتوحات الإسلامية حتى سقوط الخلافة الأموية وبداية عصر ملوك الطوائف). كما أن الروائي والناقد والباحث الفلسطيني/ السوري تيسير خلف نشر في جريدة "العربي الجديد" بتاريخ 22 نيسان/ أبريل 2023، مادة صحافية حملت عنوان "العمارة الأندلسية: هويةٌ عربية تُلخّص فنون العالم"، وأحسبها، تجلّت، في هذا السياق، بوصفها مادةً بحثيةً معمّقةً وموسّعة. وعلى صعيد الأوراق البحثية والدراسات فهي مما يصعب حصره، ويكفي أن نورد هنا الورقة البحثية المعنونة "نماذج من العمارة الإسلامية في بلاد الأندلس: قراءة في تمظهرات التأنّق وخبايا المعنى" التي خاض صاحبها حاجي يحيى خلال انكبابه عليها في تفاصيل بعض النماذج من العمارة الإسلامية في حاضرة الأندلس وشبه الجزيرة الإيبيرية، وأن نستشهد بِدراسة "العمران الأندلسي في العصر الإسلامي الوسيط بين الإيحاءات الطبيعية والإبداعات الفنية المعمارية: العصر الأموي أنموذجًا" التي نشرها الباحث الموريتاني محمد عليلي في "مجلة الدراسات التاريخية والاجتماعية" الموريتانية.
لا سبْقَ هنا إذًا، فما الجديد الذي سأسعى إلى طرْقِ أبوابه؟ إنه جديدٌ (يَتَعَنْقَرُ) ثلاثةَ رؤوسٍ صلْبة: أن الإضافة الرئيسية التي قدّمها العرب للعمارة التي كانت موجودة في جنوب إسبانيا قبل وصولهم هي السّخاء. وأن المنتصرين، ثانيًا، يصنعون العناوين؛ فالعمارة تصبح أندلسية لأن هذه المفردة على وجه التحديد ارتبطت تاريخيًا ووجدانيًا بزمن الانتصارات العربية على الجانب الآخر من المتوسط، فإذا بِالعمارةِ أندلسية، والغناءِ زمانُ وصلٍ أندلسيّ، والعدلِ أندلسيّ، والأطايبِ من مأكلٍ ومشربٍ أندلسيّةٌ وهلمّ جرّا، علمًا أن معظم مفردات العمارة التي شيّد الأمويون والمرابطون عبرها مساجدهم وقصورهم وحدائقهم ومدنهم هي خليطٌ أكيدٌ من كل ما كانت وصلته الحضارة الإنسانية أيامها عمرانيًا ومعتقديًا ورفاهيًا وخدماتيًا وكل شيء. الرأس الثالث يتعلّق بالبصمة، فرغم أن ملامح جلود أصابع بني البشرٍّ متشابهة إلى حدٍّ بعيد، إلا أن لكلٍّ منّا بصمته الفريدة الوحيدة غير المتكرّرة. هل أزيد فأضيف رؤوسًا فرعيةً منها على سبيل المثال أن ربط كل مجد القرون الواقعة بين القرن الثاني والخامس الهجري بالأمويين يحمل في طياته بعض المغالطات الإغفالية، والخلط الذي، لعله غير مقصود في بعض الأحيان، وما أدرانا فقد يكون مقصودًا في بعضٍ آخرَ من هذه الأَحايين؛ فَعدم التّفريق بين الأمويين المنحدرين من قريش، الآتينَ إلى الشام وبلادِها من حواضر نجدٍ والحجازِ (في مكّة ويثرب والرياض والقَسيم وَحائل والجُوف وحفْر الباطِن وغيرِها)، ومعهم كلُّ من انخرط في الدين الجديد من أبناء الجزيرة العربية وما حولها من يمنٍ إلى تُهامةٍ إلى غيرِها، هو خلط سوف يفضي إلى نتائج مغلوطة حول هويات العمارة التي وجدوها حين حطّوا رحالهم في دمشق وما حولها شمالًا وشرقًا وغربًا، والعمارة الساكنة حين انطلاق حملات فتوحاتهم وجدانهم، والعمارة الثالثة المشكّلة تلاقح عمارة الشام قبلهم وعمارة الوجدان في مخيلات علاقتهم مع الأرض والسماء بعدما غيّر الإسلام، إلى الأبد، شكل علاقتهم بالوجود على اختلاف تجلياته من برٍّ إلى بحرٍ إلى ضَواري فلاةٍ إلى دواجنِ حلالٍ إلى ثمارِ حقولٍ إلى غنائمِ حربٍ إلى رفْضِ أنصابٍ أو قبولِها. ومن لم يلتقطْ تفاصيل التحوّل الذي تبنّاه أبناءُ الجزيرةِ وهم يحملون راياتِ دينٍ جديدٍ ويجوبونَ بها أركان َالعالمِ المعروف أيامهم، فلن يفلح بتبيّن سمات العمارة التي تخصّهم، ولا حقيقة العمارة التي وجدوها قبلَهم. حتى قصّة أن القباب والمآذن هي في صلب الإضافة التي قدمها الإسلام للعمارة الإنسانية، فكلنا يعرف أن القباب، وبتنحية القباب البدائية أيام الإنسان الأول جانبًا، فإن السومريين، ومن بعدهم الآشوريين، وأبناء الحضارتيْن الرومانية والبيزنطية بدأوا بناء القِباب على المعموديات والأضرحة المسيحية منذ القرن الميلادي الرابع، أي قبل ظهور الإسلام بقرنيْن من الزمان، علمًا أن البوذيين سبقوا الرومان بقرون في اعتماد القبّة وسيطًا بين المعبد وبين السماء (المجازية في معتقداتهم).
ما أود أن أخلُص إليه (وأَراني أكادُ أضيعُ في تفاصيلِه)، أن ادّعاء حضارة ما، شرقية أو غربية، امتلاكها رؤية معمارية نقية تمامًا، خالية من تأثير الرؤى المعمارية حولها من أربعة اتجاهات الأرض، هو ادّعاء باطلٌ في كل ظرف، وعند كل مفصلٍ تصنيفيّ ومفترقٍ تاريخيّ. وبالتالي فالقول إن العمارة الأندلسية تحمل في طياتِ مرحلةٍ من تجلياتِها ملامحَ عمارةٍ أمويةٍ هو خلطٌ يجهل كل ما أسلفناه، وهو استسهالٌ لم يقرأ تاريخ المساكن في الشام وغوطتِها قبلَ استقرارِ معاوية فيها، ولم يخُض في روح العمارة الكنعانية المنتقلة من شكيم إلى حواضر كبرى في سورية ولبنان والأردن كما صار التقسيم بعد سايكس وبعد بيكو!
كل ما تقدّم لا يعني أن مصطلح العمارة الأندلسية هو مصطلحٌ غير قابل للتمثّل فوق أرض الواقع، فمع اطلاعنا على آليات تجلي المصطلح في الحواضر التي صنع العرب مجدًا لهم فوقها من قرطبة إلى غرناطة إلى إشبيلية إلى ملقة إلى طُليطلة إلى غيرها، والتقاطِنا أنها عمارةٌ جامعةٌ لِما وجدته قبلَها وما حملته معها، مضافًا إلى كل ذلك لمسة المنتصرين، وتمتينًا لفكرةِ ربْط الأرض بِالسماء، فإن عمارةً أندلسيةً جديدةً في المبنى والمعنى سوف تجد لها مكانًا تحت شمس الأزمان، وسوف تسطع منجزاتُها الكبرى، ويبقى بعضها حتى يومنا هذا شاهدًا على نوعية ما يمكن أن يحققه التلاقي والتلاقح حين تصفو النوايا، وينتصرُ الطّرفان للوصْل في مواجهة كلِّ أسباب القطْع.
سخاءٌ مُبين
مع إقرارِنا أن الأقواس، كمفردةٍ معمارية، موجودة قبل فتح الأندلس، وكذلك الأعمدة، فإن الإضافة اللافتة التي يمكن إدراجها ضمن منجزات العمارة الأندلسية هي السّخاء المُبين الذي جرى من خلاله استخدام الأقواس والأعمدة وباقي مفردات العمارة الجميلة/ الجليلة عند تشييدِ مسجد قرطبة عام 758 ميلادي، على سبيل المثال. ففي قاعة صلاة مسجد قرطبة التي يبلغ عرضها زهاء 73 مترًا، وعمقها 37 مترًا، نجد أن العمارة السخية وزّعتها إلى 11 رواقًا، بواسطة عشرة صفوف من الأقواس، يضمُّ كلٌّ منها 12 قوسًا، ترتكز على أعمدة رخامية وتمتدُّ عموديًا على الجدار الخلفي. وهذه الصفوف تتألّف من طبقتَين من الأقواس؛ السفلي منها على شكل حدوة الحصان، والعليا تنقص قليلًا عن نصف دائرة، وهي تحمل سقفًا منبسطًا، يرتفع حوالي عشرة أمتار عن الأرضية، وفوقها 11 سقفًا جملونيًا متوازيًا، بينها أقنية عميقة مُبطّنة بالرصاص. أترون السخاء الذي أمطر مفردات عمارة المسجد الأهم في تاريخ العمارة الإسلامية؟ أترون إلى أي مدى حاول أمويو الأندلس الذين دانت لهم شبه الجزيرة الإيبيرية أن يستعيدوا الجامع الأمويّ الدمشقيّ بنسخةٍ موسّعةٍ مسكونةٍ بالسّخاءِ في قلب قرطبة؛ قاعة صلاة وصحن تتوسطه مئذنة، كما استلهموا من جامع معاوية في الشام قوس حدوة الحصان، ونمط البناء الأبْلق ذي اللوْنين المتناوبيْن. سيصبح قوس حدوة الحصان لاحقًا ثيمة رئيسية في باقي العمارة الأندلسية ومن بعدها بعض مفردات العمارة الإسلامية في المغرب العربي وفي مشرقهِ وجهاتهِ جميعها.
ما بين صقر قريش عبد الرحمن الداخل (731-788)، والوالي الأمير محمد بن أبي عامر (938- 1002)، الشهير باسم المنصور الحاجب، حظي مسجد قرطبة بكثير من سخاء الأمراء، وإبداع المِعماريين، وبكثيرٍ من التحولات الكبرى من العمارة الكلاسيكية المُقنطرة بالأعمدة والتيجان الكورنثية، إلى العمارة الطالعة من أمجاد استثمارٍ بنّاء للمقدّراتِ بين يديها، والطبيعة حولها، والحوار الممتد بين محيطها وبينها.
لم يكتف صقر قريش بمسجد قرطبة، فشيّد مجمعًا حكوميًا استعاد من خلاله روح الرّصافة، وفجّر في تفاصيله المعمارية كلَّ حنينهِ لقصرِ جدّه هشام بن عبد الملك في بادية الشام، حيث قضى طفولته وشبابه. هل فعل ذلك بسخاء أيضًا كما فعل بالمسجد الجامع الكبير؟ بلا أدنى شك نعم فعل. فها هو، وليَضمن أرقى مراتب السخاء في تمثّل النوسْتالجيا الساكنةِ أعماق روحِه، يستدعي من أجل بناء رصافتِهِ عمّالا ومهندسين من الشام ويجْزل لهم العطاء، ويشرف، بحسب المصادر التاريخية، على عمليات البناء بنفسه؛ لتخرج "منيتُه" صورة عن رصافة هشام.
سخاء العمارة العربية في شبه الجزيرة الإيبيرية لم يقتصر على المباني من مساجد وقصورٍ ومنشآتٍ رسمية، بل امتد ليشمل الفضاء الحضري (landscape) وعموم عمارة قرطبة وما حولها في ذلك الزمان المشعّ بالشّعر والموشّحات والصّبابة، فالمدينة التي شُيِّدت على أنقاض مدينة رومانية، كانت تتفرّع من طريقها الرئيس شوارع فرعية عريضة تؤدّي إلى سبعة أبواب، وكلّ تفرّع كان يُفضي إلى دروب أصغر، حيث ذكرت المصادر العربية الكثير من أسمائها، مثل درْب شراحيل نسبة إلى قاضي قرطبة محمد بن شراحيل، وثمة مسجد باسمه في هذا الدرب، ويرد اسم درْب الزجالي نسبة إلى متنزّه الزجّالي القائم قرب النهر، ودرْب الفضل بن الكامل، ودرْب بني الأشهب، ودرْب بني فطيس، ودرْب ابن زيدون. وبين هذه الدروب ساحات رحبةٌ منها رحْبة أبان، ورحْبة خولان، ورحْبة ابن درهمين. وهناك أسواق صغيرة في كلّ ناحية من المدينة مثل سويْقة القومَس، وسويْقة ابن نصير، وسويْقة ابن أبي سفيان.
السّخاء كلّه وبما زاد عمّا كان في مسجد قرطبة وأشواق الرصافة، فجّر ينابيع من الإبداع حين قرر عبد الرحمن الناصر تشييد مدينة الزهراء التي جنّد من أجل إنجازها كما يريدها جيوشًا من العمّال المَهَرة، أشرف عليهم خيرة المهندسِين والمعماريّين في ذلك الوقت، واشتملت مبانيها على أربعة آلاف عمود (يا لكلِّ هذا السخاء)، ما بين كبير وصغير، حامل ومحمول، جُلب بعضها من روما والبعض الآخر من القسطنطينية. أما مصاريع أبوابها فكانت تزيد على خمسة عشر ألف باب، ملبّسة بالحديد والنحاس المموَّه (انتقلنا من السخاء إلى البذخ)، وجلب الرخام المستخدم في بنائها من مدن اشتُهرت بهذه المادة، فمنه ما جُلب من مدينة ألمِرية، وأصناف منه جُلبت من المغرب، ومن مدينتَي صفاقس وقرطاجة في تونس، واجتهد الناصر باختيار التُّحف النادرة من الشام والقسطنطينية.
في الزهراء جرى توحيد العناصر المعمارية الأندلسية، خصوصًا الوحدات الزخرفية المحفورة بالحجر الجيري، المتأثّرة بزخارف قصور الأمويّين في بلاد الشام، وكما أسلفنا، تم اعتماد قوس حدوة الحصان رسميًا كشكل هندسي موحّد في جميع العمائر الأندلسية. وحين زارها الرحالة الشهير الشريف الإدريسي وصف مدينة الزهراء بقوله: "مدينة عظيمة مدرّجة البُنية، مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى يُوازي على الجزء الأوسط، وسطح الثلث الأوسط يوازي على الثلث الأسفل، وكلّ ثلث منها له سُور، فكان الجزء الأعلى منها قصورًا يقصرُ الوصف عن صفاتها، والجزء الأوسط بساتين وروضات، والجزء الثالث فيه الديار والجامع". وقد بيّنت التنقيبات الأثرية في موقع الزهراء دقّة وصف الإدريسي، خصوصًا إشارته إلى أن قصور الخلفاء كانت تقوم في القسم الأعلى من المدينة؛ بينما كانت الدُّور العامة والأسواق تقع في القسم الأدنى منها؛ بحيث تفصل بين القسمَين بساتين وروضات.
هي إذًا، مدينةٌ طبقيةٌ بامتياز تلكم الزهراء التي ما يزال كثيرٌ من معالمها يتنفّس حتى يومنا هذا لِيخبرنا حكاياتها، ويشير إلى المدى الذي وصله أحفاد بني أميّة محاولين، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، تعويض ما جرى فيهم من أحفاد العبّاس في حواضر الدولة الناشئة شرق البحر الأبيض المتوسط في الشام وبغداد ومكّة ومصر ابن العاص وغيرها.
مقاماتُ النّصر
إضافة إلى مسجد قرطبة ورصافتها ومدينة الزهراء قربها (المسافة بين الزهراء وقرطبة لا تزيد على 13 كيلومترًا)، فقد شيّد الأمويون في حواضر مجدهم جنوب إسبانيا تحفًا معمارية كثيرة ترسم كلٌّ منها قوسًا سامقًا للنصر، وتفرد له في دفاتر الخلود مقامًا بديعًا أين منه مقامات بديع الزمان. من هذه التحف:
* قصر الحمراء في غرناطة، الذيّ يُعد من أروع الأمثلة على العمارة الأندلسية، حيث يجمع بين الفخامة والبساطة، ويتميز بتصميمه الفريد وزخارفهِ البديعة، يضم العديد من الأقواس والقباب والزخارف التي تعكس روعة الفن الإسلامي.
* قصر الجعفرية في سرقسطة، يُحيط بـ"الجعفرية" سُورٌ محصّن يتخلّله فناء تشغله برك وحدائق مائية، وقاعات واسعة تُواجهها أروقة في كلا الطرفين.
في قلب دينامياتِ تفاعُلٍ حضاريٍّ خصبٍ وفريد؛ سَطَعَت العمارة الأندلسية صاهرةً في بوتقتِها عناصر العمارة الأموية القادمة من الشام، بما استوعبته تلك العمارة من عناصر بيزنطية وسريانية وقبطية، وعناصر من العمارة المحلّية في شبه الجزيرة الإيبيرية من رومانية متأخّرة وقوطية، وعناصر من عمارة البربر وفنونهم التقليدية في شمال أفريقيا، لينتُج عن كل ذلك مدرسة معمارية أصيلة، من معالمها السخاء، ومن بين أقواسها يعبُرُ نشيد النصر الخافقُ بنشوةِ المُنجزات، وفي تفاصيلها بصمةُ الخصوصيةِ الرّاضية المرْضيّة. عمارة عاشت أكثر من عشرة قرون، وما تزال تشكّل مصدر إلهام لكثير من التجارب الفنّية والمعماريّة المعاصرة. كيف لا وهي نتاجُ لحظةٍ تاريخيةٍ مُمتدّةٍ من التلاقُحِ المُثمِرِ، والتكاملِ البنّاء بين الأرض والسّماء.