}

غزّة والمشترك الإنساني: العالَمُ حقلٌ معتمٌ جاف

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 17 مايو 2025
إناسة غزّة والمشترك الإنساني: العالَمُ حقلٌ معتمٌ جاف
بعيون مرعوبة ينتظر طفل صرخة المشتركات الواجبة
قبل أن ننزلقَ داخل بؤسِ التوصيفِ الذي أطلقه علينا وزير حرب العدو، بأننا (حيوانات)، فإن السؤال الطالعَ مثلَ صرخةٍ هو حول ما بقي من مشتركات يلتقي عليها بنو البشر فوق أرض الكوكب مثلَ العدل والخير والسلام ومحاسبة من يقتلون الأطفال ويدمّرون العِمران؟

غزّة وملحمتها الكبرى هما من فرضتا وما تزالان تفرضان السؤال المحوريّ حول المشترك الإنساني، حيث شكّلتا وتواصلانِ تشكيلَ مِفصلٍ تاريخيٍّ فارقٍ في سيرورة الكون لن ينجوا منها أحد، ليس فقط البشر والحجر ومختلف أركان البنيان وموجبات الحضارة، ولكن أيضًا: القيم والأعراف والقوانين وعموم المشترك الإنساني حول الطفولة والمحبةِ والتنميةِ والوِئام.
بحسبِ عديدِ المقارباتِ والاجتهاداتِ والدراسات، فإن المشترك الإنساني هو مجموع الأفكار (التصورات، المبادئ والمفاهيم) التي يتفق أو يتوافق ويتواطأ الناس، كلّهم أو جُلّهم إلا من شذ، على القول بها فطرة وعقلًا واجتماعًا، وما يترتّب عليها من حقوق وواجبات.
ما لا يعرفه كثير من الناس أن أبناء آدم وحواء يتوافقون بنسبة 99 بالمائة و99 بالعشرة بالمائة في شكل الحمض النووي وفي تركيبه الكيميائي، وأن كل هذا التدافع والصراع والقتل على الهوية والعنصرية وإنكار حق الآخرين بالوجود والكرامة يتحرّك داخل إطار واحد بالميّة بالميّة من الاختلافاتِ الجينيةِ بين أبناء الكرة الأرضية!

الفطرة الإنسانية أقرب للتعارف منها للتنافر

حقيقةٌ علميةٌ ناصعةٌ تتقاطعُ مع ما استنتجه البروفيسور المصري راغب السرجاني في كتابه "المشترك الإنساني: نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب" الصادر عام 2011، عن مؤسسة "اقرأ" للنشر والتوزيع والترجمة، الذي لخصه بقوله: "إن هناك ما لا يحصى من المشتركات بين كل البشر، سواء كانوا يعيشون في زماننا أو في زمان سابقٍ أو لاحقٍ، وسواء سكنوا قارّة بعينها، أو أقاموا في قارّة أخرى تبعد عنها آلاف الأميال" (صفحة 144). الداعية الطبيب يبوّب في كتابه الضخم (837 صفحة) المشتركات التي تجمع حولها أبناء القبيلة الإنسانية الكبرى، مقسمًا لتلك المشتركات انطلاقًا من المشترك الأسمى الذي يذهب إلى أنه العقيدة التي توحّد داخل تعاليمها وموجباتها أمة من الأمم، مرورًا على المشتركات العامة: الاحتياجات الأساسية (الماء والطعام والأمن وعموم الاحتياجات الغرائزية)، العقل، الأخلاق الأساسية، التملّك، الكرامة، الحرية، العلم والعمل، وصولًا إلى مشتركات خاصة لخّصها السرجاني بالآتي: الثقافة، الأرض، العِرق، التاريخ المشترك، اللغة، العادات والتقاليد، القانون وثامنًا الأخلاق السامية.




متنكبًا الرسالة الأخلاقية الثّاوية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ} (سورة الحجرات، الآية: 13)، يفرد السرجاني مساحةً واسعةً وافيةً للنماذج والعناوين التي اعتمدها أبناء قبيلة آدم من أجل التعارف والتعايش: حتمية الحوار {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (سورة العنكبوت، آية 64)، رابطة المعاهدات، التكتلات، وعناوين أخرى تصب في المجرى نفسه المتدفق نحو فرص التلاقي في مواجهة نذر التصادم. على كل حال فإن الدعوة للحوار الودّي السّلميّ البنّاء لم تقتصر على دين بعينه، أو حضارة دون غيرها، والمشكلة لم تكن ولا مرّة في التعاليم وفي ما دوّنه الفلاسفة من خلاصات تصب في مصلحة الخير الكبرى، بل هي في الانحراف عن هذه التعاليم، وإدارة الظهر لتنظيراتِ الفلاسفة والمفكّرين. فعلى سبيل المثال، وبحسب ما ورد في كتاب ول ديورانت "قصة الحضارة"، فإن السوفسطائيين الذين صدّروا لأوروبا النحو والمنطق، هم الذين "رقّوا فن الجدل، وحلّلوا أشكال الحوار، وعلّموا الناس كيف يكشفون الخطأ المنطقيّ، وكيف يمارسونه، وبفضل ما بعثوه في اليونان من حافزٍ قويٍّ، وما ضربوه بأشخاصِهِم من أمثلة، فقد شُغِفَ مواطنوهم بالمناظرةِ والاسْتدلال" (قصة الحضارة، الجزء السابع، صفحة 217).
ولا مرّة على مدى مسيرة التاريخ المكتوب، ضعف إيمان الفلاسفة والمصلحين بالحوار سبيلًا للتواصل. إيمانٌ تصاعد إلى أن وصل الأمر عند هيجل إلى القول "إن تاريخ البشرية إنما هو سلسلة من الحوار والجدل بين الأفكار"، مؤسسًا للمنهج الجدليّ في سياق الصيرورة والسيرورة، ولكن في بعده المثاليّ، ليأتي بعده ماركس وأنجلز مؤسسيْن، بدورهِما، لمنهجٍ جدليٍّ ماديّ.



هل شطحتُ؟ هل ابتعدتُ عن العنوان الرئيسيّ للموضوع: غزّة والمشترك الإنسانيّ؟ لا لم أفعل، إنما كل ما في الأمر أن شلال الدم الغزّي (الطفوليّ والنسائيّ على وجه الخصوص)، الذي لم يتوقّف منذ انطلاق المقتلة، يجعل التعامل مع هكذا طروحات فلسفية وجدانية تعارفية تحاورية تقريبية بين أقوام الأمم وأعراق الشعوب، كما لو أنه ترف فاقد للإحساس بحقيقة ما يجري، والأهم فاقد لأي تأثير عمليّ ميدانيّ إسعافيّ إنقاذيّ للضحايا والمكلومين، كما لو أن كل هذا الكلام مجرد خواطر بلا بوصلات، أو محاولة إبحار بلا أشرعة. فمن سيصدق رواقيًا من طراز سقراط ويكذب الأشلاء التي تملأ شاشات العالم المتحضر؟ من سينصاع لأواليات التعارف والفكرة المجردة (وغير المجرّبة على ما يبدو) القائلة إن العلاقات بين الأمم والشعوب ينبغي أن تقوم على أساس الحوار (حوار الحضارات)؟ وإذا كان الطرف الذي يقوم اليوم في غزّة بفعل القتل، هو طرفٌ دخيل على الإنسانية وحضاراتها، لا يقبل التجاور، استئثاري، تقوقعي، لا يريد أن يتعايش إلا مع جماعته من أعضاء عصابته، فلماذا، إذًا، يلقى كل هذا الدعم من دول العالم الأول (المتحضّر) ويحصل منهم على ما يحتاجه، وأكثر، من الإسناد، ويستفيد من مهارة الصمت غير البليغ، البليد التي يتبناها العالم كل العالم على جرائمه الجماعية وأعماله الوحشية وتجويعه الجماعي لكل مدن القطاع وحصاره الذي أعاد التاريخ الطويل للكوكب في تطوير العلوم وتنمية المهارات وتعزيز المعارف إلى قاع الحضيض؟ أسئلة حيرى في صلب المشتركات البشرية، وفي قلب القوانين الإنسانية، مرفوعة مثل شواهد القبور في وجه المنظومة الأممية، والهيئات الدولية، والجهات التوثيقية. أسئلة جفّت ينابيع مياهها لأن الناس في غزّة بلا مياه، ونضبت مصادر طاقتها لأن المستشفيات في غزّة بلا وقود، وانهدمت صروح منطقها لأن غزّة المدينة والقطاع سويت جميعها بالأرض وأصبحت أثرًا بعد عين. أما ما يزال الناس يشاهدونه من تدوير عجلة عمل مستشفى، أو تحرك سيارة إسعاف لإنقاذ جريح أو لانتشال شهداء، أو مناداة بائع جوّال في سوق من أسواقها القديمة، فذلك لأن شعب غزّة لا يشبه ولا أي شعب من شعوب العالم، لأن زمن المعجزات الذي جزم الجميع أنه انتهى، أعاده الغزيون بصبرهم وثباتهم وبطولاتهم وبسالتهم وشجاعتهم، وأعاده قائد منهم يظهر في فيديو وقد فقد نصف وزنه على الأقل، يمتشق سلاحه ويلوّح بإصبعٍ نحيلٍ هاتفًا: "وللحريةِ الحمراءِ بابٌ بكلِّ يدٍ مضرّجةٍ يُدَقُ". أعادوا زمن المعجزات بكل معانيه، وبعد أن حاولوا مرارًا وتكرارًا تذكير العالم، بلا طائل، بما هو قائم بين أبنائه من مشتركات، قرروا أخيرًا أن يترفعوا عن مواصلة المحاولة، معتمدين، بعد الله، على صلب إرادتهم، ومجنون صمودهم، وخوارق منجزاتهم فوق أرض الميدان.




من المشتركات الإنسانية التي بات الجميع يدركها أن الطفولة خط أحمر، لا أحد من أبناء الكوكب يريد أن يرى طفلًا مقهورًا... باكيًا... فاقدًا... جائعًا... ضائعًا... وطبعًا، ومن باب أولى، لا أحد يريد أن يراه مقتولا... فما الذي جرى للناس؟ وما الذي الآن يجري؟ طبعًا لا أحد ينكر الهبّة التضامنية الكبرى التي تبناها في بدايات العدوان أبناء قبيلة آدم في أربع جهات الأرض؛ فهل مواصلة العدوان يمكن أن تشكل سببًا لتراجع كل هذا التضامن؟؟ أليس من المنطق الأخلاقي القويم أن يصل التضامن ذروته وصولًا إلى إشعار الأنظمة التي انتخبوها بالخطر إن هي لم تتحرك لإنقاذ الطفولة الغزيّة على أقل تقدير، بدل أن يتراجع مع وصول أركان الجريمة مرحلة ما فوق كل توحّش، وتلوّثها بكل أشكال القبح، وأوضع مخرجات الخسّة.
على مرّ السنين، أودِع لدى الأمين العام للأمم المتحدة، أزيد من 500 معاهدة متعددة الأطراف، تغطي طائفة واسعة من الموضوعات مثل حقوق الإنسان ونزع السلاح وحماية البيئة. من هذه المعاهدات اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية التي أودعت لدى الأمين العام في عام 1948. وفي سياق متصل يشتمل القانون الإنساني الدولي على المبادئ والقواعد التي تنظم وسائل الحرب وأساليبها، فضلًا عن توفير الحماية الإنسانية للسكان المدنيين، والمقاتلين المرضى والجرحى، وأسرى الحرب. وتشمل الصكوك الرئيسية على اتفاقيات جنيف لعام 1949 لحماية ضحايا الحرب وبروتوكولاتها الإضافية المبرمة في عام 1977 تحت رعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
ترتقي المحاكم الدولية (محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية) لتتجلّى بوصفها من أهم تمثّلات المشترك الإنساني في القرن العشرين، حيث قضاة من جنسيات مختلفة ومرجعيات معتقدية مختلفة، يجمع بينهم قَسَمُ تحقيق العدالة الإنسانية الكبرى، والانتصار للمقهورين والقصاص من القاهرين المعتدين مرتكبي أي شكل من أشكال الجرائم ضد الإنسانية ومشتركاتها.
إن الجرائم التي ترتكبها العصابات الصهيونية في غزّة ليست الأولى بحق الشعب الفلسطيني، فبحسب مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات (مقره بيروت)، فإن عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في الفترة بين 1937 و1948، زادت على 75 مجزرة، راح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شهيد فلسطيني، فضلًا عن إصابة الآلاف. صحيح أن أرقام المجازر القائمة حاليًا تفوق خيال أي مهووس قتل، ولكن الجريمة تبقى جريمة، حتى ولو قتل مدني واحد فتلك جريمة تستدعي المساءلة والمحاسبة. واليوم، وبعد هذا التاريخ الممتد من الجرائم المرتكبة بحق شعب من شعوب الأب الأول آدم، يتفجّر السؤال الغاضب براكين من الطوفانات والأعاصير: هل سيبقى عدونا المريض المنحرف عن كل ما اتفق عليهم بنو البشر من مشتركات خارج كل محاسبة وفوق كل مساءلة؟ لماذا؟ وإلى متى؟ ولمصلحة من؟؟  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.