هذا ما تعلنه بيوت من طابق واحد أو طابقيْن في أكثر تقدير في مدن فيرمونت (خصوصًا ميدلبيري وفيرجن)، وضواحي بوسطن في ولاية مساتشوسيتس، ومعظم مناطق ولاية نيوهامشير، مع مبان قليلة جدًا رسمية أو تجارية أو أكاديمية على الأغلب قد تتكوّن (في فيرمونت على وجه الخصوص) من ثلاثة أو أربعة طوابق.
اللافت في هذه الولايات ذات الطابع الإنكليزي أكثر من غيرها من باقي الولايات المتحدة الأميركية، هو ما يمكن اعتباره اجتراح مدرسة معمارية خاصة بها مستلّة من أفكار مدرسة الباوهاوس الألمانية المعتمدة على مباني التركيب الجاهزة، مضافًا إليها لمسة الريف من أسقف قرميد أحمر وأخضر وسكني وأزرق ومن ألوان أخرى، مع إمكانية ترصيص جدران البيت جميعه بالطوبِ الجيريّ الأحمر (الذي نستخدمه في بلادنا لأفران المعجنات وما إلى ذلك).
تفاصيل معمارية كثيرة يمكن تناولها حول بيوت الناس هنا (أكتب المادة من عين المكان)، تصل إلى حدود التخمة الجمالية واللوحات الأخّاذة عند الحديث عن كنائس فيرمونت، على سبيل المثال، وبعض البيوت القديمة العريقة، إلى درجة أنك تشرع بالقول هذا أجمل بيت، وما هي سوى جولة أخرى داخل ميدلبِيري (بعضهم يكتبها، خاطئًا، ميديلبوري، مراعيًا النقل الحرفيّ لأحرف الاسم بالإنكليزية Middlebury)، حتى نكتشف بيتًا أجمل، كما لو أن مشاغل الناس هنا تقتصر على بيت ساحر في داخله درج يصعد نحو غرف النوم، وأمامه فضاء يمكن سرقة بعض الجلسات الرائقة فيه خلال أيام الصيف والدفء القليلة جدًّا هنا. والمقصود بالجمال هنا ليس بذخ العقار وارتفاع أسواره الشاهقة، فالبيوت في تلك البلاد معظمها بلا أسوار (التي رأيتها على الأقل)، ولا بد من مسطحٍ أخضر أمام كل بيت، ولا بأس في كثير من الحالات، خصوصًا في ضواحي بوسطن، من وجود ركن خاص داخل حديقة البيت لحفلات الشواء (الباربكيو)، ومن وجود ركن آخر للعب الأطفال من مراجيح وما إلى ذلك، ولا أدري أين تقيم الكلاب، فلم ألحظ وجود أماكن مخصصة لها خارج البيوت.
لماذا هذا الشبه الكبير بين منظومة المساكن والأبنية في ولايات الشمال الأميركي وبين مستوطنات الضفة الغربية؟ ألا يحيلنا هذا الشبه إلى المرجعية الغربية التي حملها معهم من يسرقون أراضي الفلسطينيين في القدس ونابلس وبيت لحم والخليل وجنين وأريحا وطولكرم وغيرها من مدن فلسطين، وأتوا بها إلى بلادنا، علمًا أن الطرز العمرانية لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط هي طرز تخصنا نحن، وتخص الحضارات التي تناوبت المجد على ضفتيه الغربية والشرقية؛ من الكنعانية إلى الآرامية إلى الرومانية إلى اليونانية إلى الإسلامية بمختلف تفرعاتها الأموية والفاطمية والمملوكية والعثمانية وصولًا إلى الزمن الخديوي في مصر.
لكن، وعلى المقلب الآخر، فإن كثيرًا من المختصين في علوم العمارة وتاريخها يذهبون إلى أن عمارة حوض البحر الأبيض المتوسط لم تبدأ، من حوض البحر الأبيض المتوسط، بل، وبعكس التوقعات جميعها، ظهرت، أوّل ما ظهرت، في الولايات المتحدة الأميركية عند تخوم القرن التاسع عشر، بعد دمْجِ عددٍ من الطُرز المعمارية المهاجرة مثل عمارة عصر النهضة الإسبانية والإيطالية، وعمارة الفنون الجميلة، وإحياء العمارة الاستعمارية الإسبانية والطراز العربي الأندلسي.
عمارة الرّخاء
على أن هذا التجميع كلّه وبمشاركة مدارس معماريةٍ أخرى غير مختلف ما أسلفناه، ذُوّب مع الأيام والتجارب واللمسات الإبداعية في بوتقةٍ واحدة وبدأ يعكس بشكلهِ وتفاصيلهِ وتناظراتهِ مخرجاتِ وجهةٍ معماريةٍ جديدةٍ يمكن أن نطلق عليها: عمارة الرّخاء. ولمن لديه اطّلاع ولو أوّلي على طبيعة الحياة في الولايات المتحدة، يدرك ما المقصود، هنا، بمصطلح عمارة الرّخاء، فولايات الشمال الأميركي تعكس بعموم أوضاعها حالة من بحبوحة اقتصادية متوازنة ومتقاربة، صحيح أن الأثرياء من أميركا نفسها أم من خارجها، لا يقيمون، عادة، في هذه الولايات التي يطول شتاؤها، وتقل أشكال البهرجة المظهرية الاستهلاكية فيها، إلا أن مستوى الدخل في تلك الولايات معقول، بل ومعقول جدًا، وإن كنت لن ترى أحدث السيارات، وأفخم القصور، ولكنك، في المقابل، لن ترى فقراء يملأون الشوارع، ولا مشردين يشيعون الفوضى، أو متسولين يجلبون الحذر والانكماش (في ثلاث مدن رئيسية في فيرمونت لم ألحظ سوى وجود متسوّل واحد يحمل، بأدب وهدوء، لوحة تفيد أنه مشرّد بلا مأوى، وهو لا يتقدم نحو أي سيارة، ولا يشكّل أيّ ثقل على متواليات الشوارع ومفترقات الطرق وناصيات الإشارات). هي، إذًا، عمارة الرّخاء المستلّة مفرداتها من الروح الأميركية التي تفضّل الخشب على الحجر في البناء، محاولة أن تجعل من أبنية الخشب تلك سيمفونيات جمال ملوّن بألحان الطبيعة، وأن يحلّق بمقطوعاته المعمارية المتقاطعة مع الموسيقى الهادئة، من عناوين الوظيفة نحو آفاق التجلّي.
أما إن سأل سائل ما هي عناصر تلك العمارة وتمثّلاتها فوق أرض الواقع، فلعل الإجابة التي أحملها أنا شخصيًا تقتصر على المشاهدة، فالتنظير لعمارة هذا هو عنوانها ربما تحتاج إلى متخصصين لستُ منهم، وتبيّن ملامحها الفلسفية والوظيفية والجمالية مما لا بد من تقعيدٍ ميدانيٍ وعلميٍ وأكاديميٍ له، وهو التقعيد الذي قد يواجه بقلّة معاهد وكليّات وأكاديميّات هندسة العمارة في تلك الولايات (نستثني من ذلك معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا المشهور بجانبٍ بحثيٍّ مهمٍ على صعيد العمارة). على كل حال، من عناصر تلك العمارة بحسب ملاحظاتي الشخصية: استقلالية البناء عمّا حوله واستواؤه فوق الأرض براحة واسترخاء. تنعّمه بمساحة أرض محيطة، هي، في كثير من الأحيان، مساحةٌ من المسطّحات الخضراء التي تحظى في بلاد العم سام بعنايةٍ خاصة ومتابعةٍ حثيثة. تنوّع جدرانه الخارجية بين الطوب الجيريّ والخشب المغطّى بنفاياتِ الخشب (نشارةُ الخشب) التي تتعدّد ألوانها من السكنيّ الجامد الصارم وصولًا إلى الزهريّ والأخضر والأزرق والأصفر الفاتح إلى أبعد الحدود. توفّر مفردات خدمة إضافية كوجود كوخ خارج المنزل للخزين والغسيل ومآرب أخرى. في البيوت الكبيرة يمكن إضافة سمة التناظر، أو تعدد مستويات السقف القرميديّ، أو التنوّع بين الجدران الخشبية والجيريّة.
نافذة الساحرة
هي خاصية معمارية تشتهر بها ولاية فيرمونت دونًا عن باقي الولايات، إلى حد أن تلك النافذة باتت تحمل اسم "نافذة فيرمونت"، أمّا قدامى المستعمرين الذين سكنوا ولاية الجبال الخضراء قادمين من بلاد الإنكليز، فيطلقون عليها اسم "نافذة التابوت". وحكايتها أن الناس في تلك البلاد ممّن يؤمنون بالساحرة التي تحمل المكنسة وتدخل البيوت من فتحاتها العليا، لن يستطعن فعل ذلك إن صُمِّمت النوافذ بزواية مائلة (على الأرجح بزاويةِ ميْل تصل إلى 45 درجة)! لعلّ للأمرِ علاقة بروحِ الهالوينِ الذي لا يفرّط فيه الناس هنا، ولا يقلّ شأنه عندهم عن شأن الأعياد الدينية من كريسمس وفصْح وشُكْر وما إلى ذلك.
أو لعلّها أسطورة جلبها المستعمرون الإنكليز الذين وجدوا في ولايات الشمال الأميركي واحتهم المنشودة القريبة في تضاريسها ومناخها وجبالها ومختلف تفاصيلها تقاطعًا مريحًا مع مدنهم الإنكليزية الساحلية وغير الساحلية. إنها نوافذ مزدوجة غالبًا، مثبّتة على طرف الجملون في الطوابق العليا لمنازل فيرمونت القديمة وبعض منازلها الجديدة، تريد أن تخبرنا، ربما، أن الأمكنة الخالية من الأشياء غير المادية وغير المحسوسة وغير المستندة إلى إرث شعبي متوارث، هي أمكنة لا تستحق الإقامة فيها. من جهتها ترى المؤرّخة المعمارية بريتا تون أن نافذة الساحرة ليست سوى تأكيدٍ على نزعةٍ إقليميّةٍ بيضاء تحرس أسرار البيوت كأنها "باب الجنيّات نحو السماء". أمّا سارة وينشستر فتربط النافذة السريّة بتاريخ فيرمونت، وفولكلور سكانها المُتخم بقصص الخوف، وتقول مع ضحكة لا تخفى على لمّاح "إن فيرمونت كانت تاريخيًا موطنًا لعدد كبير بشكلٍ غيرِ متناسبٍ من ممارسي السحر المعتمدين على المكنسة"!
التصميم البيوفيليّ
هو نهجٌ معماريٌّ حديثٌ، أو مستحدث، يهدف إلى إعادة دمج الطبيعة في المساحات المبنية لتحسين جودة الحياة وتعزيز الاستدامة (مش حابب أفلت على قصة الاستدامة التي طرشونا بها). هذا التصميم سيجد الزائر أو المتخصص تمثلًا واسعًا له في ولاية فيرمونت على وجه الخصوص، وباقي ولايات الشمال على وجه العموم.
تعود فكرة دمج العناصر الطبيعية في المباني والمساحات الحضرية لتحسين التوازن النفسي والرفاهية، للعالِم الأميركيّ إدوارد ويلسون (1929-2021) صاحب نظرية "الملحمة التطورية"، الذي أشار إلى أن البشر لديهم رغبة فطرية في التواصل مع الطبيعة. تواصلٌ ستراه رأي العين في مدينة فيرجن، على سبيل المثال، الصغيرة الوادعة المتناغمة عناصرها معًا: نهر تحيطه الغابات من مختلف الجهات، مساحات خضراء واسعة، حقول حبوب ممتدة، أبقار وخيول وماشية، كنائس صغيرة قديمة، وبين المنزل والآخر مساحة قد تصل في بعض مناطق المدينة إلى 200 متر أو أكثر. حتى مقبرة المدينة تشكّل جزءًا لا يتجزأ من هذا التناغم الآسِر.
صحيح أن في معظم الولايات الأميركية بيوتًا تشبه بيوت فيرمونت من أقصى الشمال الشرقيّ حيث الولايات التي تقصدناها في العنوان، إلى أقصى الجنوب الغربي حيث كاليفورنيا وما أدراك ما كاليفورنيا، إلا أن للبيوت في فيرمونت نكهة مختلفة، مطعّمة برائحة الرخام وإنْ لم تسْتخدمه الولاية في البناء، أو للدّقة، لم تعد تستخدمه رغم أنها معروفة بلقبيْن: ولاية الجبال الخضراء، وولايةِ الرخام. هذه تفصيلة، وأمّا التفصيلةُ الثانية فهي أن للعمارةِ الفرنسية ِلمسة ولو عابرة في ولاية تحمل عاصمتها اسم مونبيلييه وحولها جميعها تقريبًا بحيرة عذبة تحمل اسم مستكشف فرنسي: شامبلين أو شامبلان.
إنها فيرمونت، الدولة المستقلة السابقة التي تحولت إلى الولاية الرابعة عشرة برمزِ منطقة واحد ولوحةِ إعلانات على جانب الطريق، روح الريف في نيو إنْجلاند، الاكتفاء الذاتيّ المتين، الاعتماد على المواد المألوفة المتوفرة محليًا، وليس آخرًا العمارة الصاعدة من روح الحكايات، ومن مجد المستعمرات، ومتوالية الجهات.