}

أوغاريت السورية: أعطت العالم أقدم أبجدية وأول تدوين موسيقي

أوس يعقوب أوس يعقوب 30 مايو 2025
أمكنة أوغاريت السورية: أعطت العالم أقدم أبجدية وأول تدوين موسيقي
أطلال مملكة أوغاريت

تاريخ سورية القديم والساحل السوري بشكل خاص، كان وما يزال يثير اهتمامًا كبيرًا لدى علماء الآثار والباحثين الجغرافيين، نظرًا إلى موقع الساحل الاستراتيجي على شاطئ البحر المتوسط، وتميّزه بخلجانه ورؤوسه وموانئه، وهو ما أسهم في توفير كافة سبل الاستقرار للإنسان في هذه المنطقة منذ فترة ما قبل التاريخ وحتى وقتنا الحاضر.
هنا في الساحل السوري، الذي سكنه الكنعانيون وأسّسوا فيه محطّات تجارية لهم وللسفن القادمة من العالم الإيجي ومصر وآسيا الصغرى، قامت أعرق الحضارات القديمة ولا سيّما مملكة أوغاريت (رأس شمرا)، التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الثقافة والحضارة البشرية، والتي امتدّ نفوذها من الجبل الأقرع شمالًا حتى نهر السن جنوبًا (حيث مملكة سيانو)، وضمّت مدنًا وتلالًا هامة كان أبرزها تل سيانو، وتل سوكاس، وتل رأس البسيط، وتل رأس ابن هاني (المدينة الأوغاريتية الجديدة)، وكان مرفأها مينة البيضا (أي الميناء الأبيض) من أقدم المرافئ في التاريخ.

أوغاريت الكنعانية المبشرة لمستقبل المدن الفينيقية

في تل رأس شمرا الأثري، المرتفع على الأرض المحيطة به نحو 17 م، والذي يبعد ثلاثة كيلومترات عن الطرف الشمالي الشرقي لمدينة اللاذقية الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في الشمال الغربي لسورية، تم اكتشاف أنقاض مملكة أوغاريت التي تأسّست قبل أكثر من 7500 عام قبل الميلاد، والتي قدّمت للبشرية إنجازها الأكبر (الأبجدية الأولى)، التي وضعت الترتيب (الألفبائي) للغات العالم الحيّة ورسمت حروفها الشكل الذي طوّرت منه لغات العالم أشكال حروفها، وهي الأبجدية الوحيدة في العالم التي كُتبت بخط مسماري ومنها انتقلت إلى اليونان وشعوب البحر الأبيض المتوسط.
يُقدّر علماء الآثار حدود مملكة أوغاريت التي تتربع على عرش الساحل السوري، بنحو (3000 – 4000) كم مربع، وكانت هذه المساحة تضم نحو مائتي قرية، أما عدد السكان في نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد فقُدّر بنحو 25000 نسمة، وكانت عاصمة هذه المملكة هي مدينة أوغاريت أو ما يُعرف بتل رأس شمرا.
ووفقًا لما جاء في المصادر التاريخية، فقد تم استيطان موقع رأس شمرا -عُرف بهذا الاسم نسبة لنبتة عطرة تُعرف بـ"الشمرا"-، بدون انقطاع تقريبًا، منذ استقرار المزارعين الأوائل في العصر الحجري الحديث في حوالي 7500 ق. م حتى نهاية العصر البرونزي. بعدها لم يَعرف موقع رأس شمرا، منذ منتصف الألف الأولى، سوى إعادة استيطان متواضعة في العصر الحديدي والفترات الهلنستية والرومانية والعثمانية.

أبجدية أوغاريت 


ونتيجة لغزوات شعوب البحر في أواخر القرن الثاني عشر ق. م فإنّ بعض المدن "الكنعانية"، ومنها أوغاريت، مُحيت إلى الأبد من تاريخ العصور القديمة. وبحسب ما ورد في موقع "الفينيقيون"، فإنّ أوغاريت -المأخوذ اسمها من "أوغارو"، أي الحقل في اللغة السومرية. كما تعني الأرض الخضراء أو المزرعة (السهل)-، ليست مدينة "فينيقية" بل "كنعانية"، ولكن من الممكن اعتبار أنّها كانت "المحرضة أو المبشرة" لمستقبل المدن الفينيقية ونشاطها وانتشار مراكزها التجارية.
أنشأت مملكة أوغاريت علاقات بحرية مبكرة مع بحر إيجة وازدهرت التجارة في كلا الجانبين، فاغتنت المدينة لتنافس باقي المدن المجاورة وفي بعض الأحيان تجاوزت أخواتها المدن الكنعانية، حيث أصبحت مزدهرة ومتطوّرة بفضل مركزها الاستراتيجي عند تقاطع الطرق البرية في الشرق الأوسط، وصلة وصل بين ممرّات البحر الأبيض المتوسط. في ذلك الوقت، وبسبب هذه المحاور، اضطُر الملوك إلى بناء حصون وأسوار من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن توابعهم ضدّ القوى المعادية: إلى الجنوب، فراعنة مصر وإلى الشمال، في سفوح جبال طوروس، مملكة ميتاني ومن ثم الحثيين، وأهالي بلاد ما بين النهرين إلى الشرق، والبحر الأبيض المتوسط إلى الغرب ولا سيّما حضارات محيط بحر إيجة.


اكتشافات متتالية لمعرفة تاريخ وأسرار المملكة

وفقًا للمصادر التاريخية، فقد تم اكتشاف أوغاريت المعروفة حاليًا تحت اسم رأس شمرا صدفةً في شهر آذار/ مارس من العام 1928م، من قِبل فلاح سوري، عندما اصطدم محراثه بحجارة ضخمة تبيّن فيما بعد أنّها سقف لمدفن أرضي. في ذلك الوقت كانت سورية محتلّة من قِبل الفرنسيين، الذين عملوا على بعث "دائرة للآثار" تحت إشراف المستشرق الفرنسي رينيه ديسو، والتي لم تتأخر في إرسال عالم الآثار الفرنسي كلود فريديريك أرمان شيفر، الذي باشر عمليات التنقيب في العام التالي وواصلها حتى وفاته في العام 1982م.




منذ العام 1929م، ساهمت الاكتشافات المتتالية في موقع مملكة أوغاريت، التي تُعَدّ من أهم وأقدم الممالك الأثرية في سورية، في معرفة تاريخ وأسرار هذه المملكة، التي دُمّرت خلال غزو شعوب البحر في العام 1186 ق. م.
بيّنت الحفريات والأسبار الأثرية أنّ موقع رأس شمرا يشتمل على حوالي عشرين سوية أثرية (استيطان) تعود إلى العام 7500 ق. م. إلّا أنّه مع حلول الألف الثاني قبل الميلاد تضخم الاستيطان في الموقع لتتشكّل ما عُرف باسم "أوغاريت" هذا الاسم الذي كان معروفًا قبل اكتشافها - صدفةً في العام 1928م كما ذكرنا سابقًا- من خلال ذكرها في نصوص مملكة ماري، حيث تذكر النصوص زيارة الملك زميري ليم في العام 1765 ق. م لأوغاريت، ومن رقيم آخر عُثر عليه أيضًا في وثائق ماري، وهو عبارة عن رسالة من ملك أوغاريت إلى ملك يمحاض بعاصمتها حلب، يرجوه فيها أن يطلب من ملك ماري أن يسمح له بزيارة قصر ماري الذي كان ذائع الصيت في ذلك الوقت. كذلك ورد ذكر أوغاريت في النصوص الحثية المكتشفة في الأناضول وسورية، ورسائل تل العمارنة المكتشفة في مصر. وتبيّن من الحفريات أنّ أوغاريت كانت عاصمة لمملكة بلغت مساحتها 5425 كم مربع تقريبًا في القرنين الخامس عشر والثاني عشر قبل الميلاد وهي فترة ازدهار المملكة.

أطلال القصر الملكي في أوغاريت 


وأشارت العديد من المصادر القديمة إلى أوغاريت وحضارتها ومدى تقدّم سكانها وازدهار الصناعة والتجارة مع حضارات البحر الأبيض المتوسط.
تحوّلت أوغاريت إلى مدينة مهمة حوالي 3000 ق. م، ومنذ ذلك العهد كانت محاطة بالتحصينات. وتمثّل بداية الألف الثاني نقطة تحوّل في تاريخ المدينة مع وصول جماعات البدو المعروفين تحت اسم الأموريين، الحرفيين المتخصصين في الصناعة البرونزية والصب.
واستقبل مينائها السفن المصرية والكريتية المشحونة بالمرمر والنحاس والحفر الميسينية الثمينة، وتوافرت القوافل الآتية من البلاد الداخلية والمحملة بثروات هذه المناطق النائية. وتشير المصادر إلى أنّه خلال حملات التنقيب، وجد علماء الآثار "اللازورد من أفغانستان والعاج من الهند والعنبر من بحر البلطيق".
وكانت أوغاريت في صدارة الأراضي الخصبة في سورية، حيث ازدهرت زراعة الكروم والقمح وأشجار الزيتون التي شجّعت تصدير النبيذ وزيت الزيتون.

القصر الملكي أهم صروح المدينة الأثرية

تتألف أوغاريت من قسمين؛ القسم الأول: المدينة المرتفعة، ويتضمن الأبنية الضخمة كالمعابد والقصور، أما القسم الثاني من المدينة، فهو قسم منخفض يتضمن بيوت عامة الناس. كما تم إحاطة المملكة بشكل عام بسور منحدر، يمتاز بقاعدته العريضة، تتداخل فيه الأبراج القوية، كما تتخلله البوابات الكبيرة على هيئة الكماشة التي يُعتقد أنّ أوغاريت احتوت على أربعة منها.
خلف الأسوار يقع القصر الملكي الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرنين الثالث عشر والخامس عشر قبل الميلاد، وقد بُنِي من الخشب والطين، ومساحته تتجاوز عشرة آلاف متر مربع. وقد تم رسم خرائط هذا القصر بأكملها بفضل اكتشاف جميع أساساته؛ يتكوّن مدخله من شرفة ضخمة باتجاه الغرب مدعومة بعمودين. من ثم نعبر أول فناء مرصوف للوصول إلى باحة ثانية مؤدية إلى قاعة العرش المحاطة بأركان صغيرة، والتي كانت تُستخدم لتخزين المحفوظات الملكية. وإلى جانب ساحات القصر شمالًا يُلاحظ وجود المقبرة الملكية، التي تتكوّن من بعض الكهوف والسراديب الجنائزية.

أقدم القطع الموسيقية المدونة في العالم 


شهرة هذا القصر على مستوى عالمي ليست فقط بسبب نوعية عمارته، بل أيضًا لاكتشاف العديد من الرقم المسمارية ضمنه، ولوجود الأبجدية الأولى المعروفة حتى اليوم، والتي الْتُقطت من على الدرج الخارجي لبوابة المدخل، وكذلك من أجل المجموعة الرائعة من الأعمال العاجية المزخرفة، التي ينتج عنها مجموعة من الآثار المنقولة والنقية الصنع بشكل متميّز.
وكشفت عمليات التنقيب في الموقع فرنًا لشيّ الرُقم الفخارية، التي سُطرت عليها آلاف النصوص المسمارية مسلطة الأضواء على تاريخ المدينة وعلاقاتها واقتصادها وآدابها وآلهتها وغير ذلك.
أما القصر الصغير في أوغاريت، ويُطلق عليه أيضًا اسم "منزل بابنينو"، فيقع إلى الجنوب من القصر الملكي الكبير، ويتقدّم هذا القصر شارع جميل. وهو يتميّز بوجود قبر جميل جدًا، وأيضًا وجود مستودع مهم للسجلات تم العثور فيه على العديد من الرقم المهمة، وهو بحسب مكتشفه عالم الآثار الفرنسي كلود فريديريك أرمان شيفر، ليس إلّا صرحًا معماريًا آخر من صروح موقع رأس شمرا الأثري.




خلف قاعة العرش، نجد سلسلة من الفسحات المستديرة المزينة بالبرك مع بعض القنوات التي لا تزال مرئية حتى عصرنا الحاضر. وحول هذه الفسحات تتواجد العشرات من الغرف الصغيرة مع الأدراج المؤدية إلى الطابق العلوي المخصص للعائلة المالكة. ويتم الوصول إلى الأكروبوليس، الواقع إلى الشرق من المدينة، عبر الأحياء المسكونة، وكتل المنازل المحاطة بالشوارع الضيقة (بعرض المترين).
ويأتي تنظيم البيوت حول فناء مركزي محاط، في الطابق الأرضي، بغرف صغيرة كانت تُستخدم لتخزين المواد الغذائية أو كورش عمل. فيما خُصص الطابق الأعلى والشرفة للحياة اليومية والنوم. وقد كشفت الحفريات في العديد من المنازل عن وجود قبو في الطابق السفلي حيث يُدفن أفراد الأسرة.

بعل إله أوغاريت وآلهة سكانها

كشفت الحفريات الأثرية بقايا متناثرة من معبد بعل، وهو ما جعل من الصعب تكوين صورة كاملة ونظرة شاملة عن ديانة سكان أوغاريت. وبحسب علماء آثار فإنّ المعبد كان مكونًا من فناء مغلق وفي وسطه وُجِدَ أول مذبح حجري. ويتواجد خلف جدران الباحة الأولى الحرم المخصص لإله المدينة بعل.
من المعالم التي ما تزال ظاهرة حتى اليوم، نجد درجًا يشير إلى وجود طابق ثان في المعبد مرئي من البحر، وكانت قمته تُستعمل لإشعال نيران للذبيحة الإلهية.
وهناك، مُجمّع الأرباب الإلهي (البانثيون)، وهو كالكثير من غيره في معظم المدن الأخرى من الشرق الأدنى القديم، والذي كان يضم العديد من الآلهة. وتشير المصادر التاريخية إلى أنّه كان هناك الكثير من أوجه التشابه مع آلهة المدن الكنعانية الأخرى من الساحل: بعل، وتعني في اللغة الكنعانية السيد والمالك والزوج، إله العاصفة والمطر الخصيب، الذي كان ممثلًا وهو يلوح بالصولجان رمزًا إلى البرق، ومنبتًا لأوراق الشجر من الأرض، معبرًا عن ولادة جديدة للغطاء النباتي. وغالبًا ما كان يتوّج بالذهب على الطريقة الفرعونية أو بتاج على ما كان معتمدًا عليه في بلاد ما بين النهرين. وحسب النصوص الدينية الأوغاريتية، فإنّ موطن بعل كان في جبل صابان، وهو جبل الأقرع في سورية حاليًا الذي يقع على بعد خمسين كم من موقع أوغاريت.
بالإضافة إلى بعل، نجد الكثير من الآلهة عند الأوغاريتيين: يم: إله البحر؛ وموت: إله الحصاد والموت الذي يختفي تحت الأرض بعد ولادة بعل. وهنالك أيضًا داغان: إله القمح والمحراث. واليان بعل: إله المياه الجوفية والآبار والأنهار والينابيع. وعنات: من المعتقد أنّها تمثّل شقيقة بعل وعشيقته في نفس الوقت، وهي آلهة الصيد والحرب، وبالطبع عشتروت أو عشترت: آلهة الحب والخصوبة.

رأس ابن هاني: المدينة الأوغاريتية الجديدة

يُعَدّ تل رأس ابن هاني الأثري وجهًا جديدًا متممًا لمملكة أوغاريت ويكاد لا يقل عنها أهمية، يقع على بعد حوالي 10 كم شمالي مدينة اللاذقية، وعلى بعد 20 كم جنوبي غربي رأس شمرا.

بقايا أوغاريت القديمة على البحر المتوسط 


ومنذ العام 1975م تنقب في هذا التل بعثة أثرية مشتركة سورية فرنسية. وقد توالت على هذا الموقع سلسلة من السويات الأثرية النادرة خصوصًا سوية العصر الحديدي، حيث أُعيد الاستيطان فيه من قبل شعوب البحر عام 1187 ق. م، تلاها سوية العصر الهلنستي، ومن ثم الروماني – البيزنطي. وبالتالي امتدّت فترة الحياة في المدينة من القرن الرابع عشر ق. م حتى القرن السادس الميلادي.
ترجّح المصادر التاريخية أنّ مؤسّس هذه المدينة هو الملك الأوغاريتي عمشتمرو الثاني، وأنّه أنشأ فيها قصرين: القصر الجنوبي وكان مخصصًا للملك، وكان ذا أثاث فقير وذلك إما لأنّه تم نقله، أو دُمّر وأُحرق عند غزوه من قبل شعوب البحر. وذلك بحسب ما تذكر الباحثة السورية هلا جمال حماده، في دراستها الموسومة بـ "رأس ابن هاني المدينة الأوغاريتية الجديدة (دراسة تاريخية من خلال الوثائق المكتشفة)".
أما القصر الشمالي فقد كان مقرًا للملكة الأم (أخت ميلكو) وهي زوجة الملك الأوغاريتي نقميبا الذي حكم حوالي 1330 – 1260 ق. م، وأم الملك عمشتمرو الثاني 1260 – 1230 ق. م تشرف فيه على كل الأمور الاقتصادية والإدارية والسياسية، ولها علاقاتها الدبلوماسية مع الممالك المجاورة.
وقد ضم هذا القصر مكاتب للإدارة الملكية، حيث احتوت رقمًا طينية؛ حوالي 180 نصًا تحمل كتابات مسمارية متنوّعة أكثرها محرّر باللغة الأوغاريتية والكتابة الأبجدية، ولكن في بعض الحالات بالبابلية المقطعية، وهي تتضمن رسائل وقوائم قرابين دينية ونصوصًا طبية سحرية وسجلات إدارية عمّقت معرفتنا بتاريخ مملكة أوغاريت، وتُعَدّ الوحيدة من نوعها خارج العاصمة أوغاريت.
كما ضم القصر عددًا من غرف المحترفات، أهمها ما كان مكرسًا لصب سبائك النحاس على شكل "جلد ثور"، إضافة إلى غرف للصناعات العاجية والخزفية، وكذلك الأختام التي تم اكتشافها، كان أهمها ختم الملك عمشتمرو الثاني الذي يوفر لنا اسم أول ملك في مدينة ابن هاني، وكنز الحلي الذي عُثر عليه في إحدى غرف الحمامات في القصر، وفي هذا القصر خصائص لافتة للنظر من ناحية تنظيم مخططه والحركة فيه.

لأول مرّة في التاريخ البشري أبجدية بثلاثين حرفًا

قدّمت أوغاريت للعالم واحدة من أقدم الأبجديات المكتوبة في التاريخ (الأبجدية الأوغاريتية)، التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وهي تتشابه في ترتيبها مع الأبجدية العربية مع بعض الفروق، وتُدرّس حاليًا في أكثر من أربعين جامعة حول العالم.
يُعَدّ اكتشاف الأبجدية الأوغاريتية من أهم الدلائل على الحضارة العريقة التي كانت تتمتع بها مملكة أوغاريت، وتشهد الوثائق الكتابية التي اكتُشفت في الموقع الأثري على وجود ثماني لغات كانت متداولة في مملكتها وهي: الأوغاريتية والآكادية والحورية والحثية واللوفية والسومرية والمصرية والقبرصية.
بحسب المصادر، كانت الأبجدية الأوغاريتية تُستخدم في كتابة الأبجدية المحلية، وقد اعتُمدت في التدوين ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وهي تُكتب من اليسار إلى اليمين، وقد اختصرت الإشارات المسمارية الكتابية من 600 إشارة إلى ثلاثين حرفًا، وهو ما يمكن اعتباره أبجدية تظهر لأول مرّة في التاريخ البشري، والتي ساهمت في تطوير أنظمة الكتابة في العديد من حضارات العالم.
وقد تميّزت الأبجدية الأوغاريتية برمزيتها الفريدة، إذ كانت أول نظام كتابة يعتمد على أصوات الحروف، مما أعطى اللغة القدرة على التعبير عن الكلمات بشكل دقيق. هذا الابتكار، الذي يتّسم بالبساطة والفعالية، أدى إلى إحداث تغيير جذري في كيفية إنشاء النصوص.
ومعظم النصوص التي سُطرت بالأبجدية الأوغاريتية هي نصوص اقتصادية وأدبية. والنسخة الأصلية من رقم فخاري بطول 5.5 سم وعرض 1.3 سم محفوظة حاليًا في "متحف دمشق الوطني".
ودلّت الوثائق الكتابية التاريخية على أنّ مدينة أوغاريت كانت ذات يوم مركزًا ثقافيًا وتعليميًا وحضاريًا مرموقًا. فقد اكتُشفت فيها مكتبات عدّة إحداها كانت لرئيس الكهنة، ومكتبة أخرى في بيت أحد الموظفين الملكيين، ومكتبات أخرى متفرقة.
وقد عُثر في هذه المكتبات على كتب دينية وثقافية، ورسائل تجارية من بلدان أخرى، ومعاجم متعدّدة للغات سومرية أكادية أوغاريتية، ونصوص أدبية ودينية وعلمية كما عُثر على مقطع للأسطورة السومرية الشهيرة "جلجامش".

مهد أقدم مقطوعة موسيقية مدونة بالتاريخ

تُعتبر أوغاريت المؤسّس الحقيقي للموسيقى الغربية، حيث كشفت عمليات تنقيب البعثة الفرنسية في مدينة أوغاريت (رأس شمرا) عن أقدم القطع الموسيقية المدوّنة بالتاريخ، والتي تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد. كان ذلك في عام 1950م، وقد قام بفك رموزها صاحب كتاب "آثار علم الموسيقى في الشرق الأدنى القديم"، عالم الآثار البريطاني ريتشارد دمبريل. واستُخدمت أبجدية أوغاريت في تسجيل سُلّم موسيقي اعتمده فيثاغورث أصلًا للموسيقى الغربية بعد ألف عام من ظهورها في أوغاريت.
تذكر مصادر متعدّدة، أنّه قبل 1400 ق. م كانت قد دُوّنت مجموعة موسيقية تحتوي على 36 أغنية أُطلق عليها اسم "الأغاني الحرانية"، حُفرت بالخط المسماري على ألواح من الطين. ويبدو أنّها أُلّفت تضرعًا للآلهة، وإحداها وُجدت بشكل شبه كامل ما يجعلها أقرب مثال معروف للتدوين الموسيقي في العالم.
وقدّم المؤلف الموسيقي السوري مالك جندلي، في عام 2008، رؤيته لمؤلفات أوغاريت الأصلية موزعة للبيانو والأوركسترا في أسطوانة حملت عنوان "أصداء من أوغاريت"، وقدّم جندلي بعض مقطوعاتها مع الأوركسترا الفلهارمونية الروسية.
أخيرًا، من المهم أن نذكر أنّ الجزء المكتشف من موقع أوغاريت الأثري لا يتجاوز ربع المساحة الكلية للموقع، مع التذكير بأنّ العديد من الآثار المكتشفة هُرّبت بحرًا إلى "متحف اللوفر" في باريس خلال فترة الاستعمار الفرنسي.

مصادر:

  1. كتاب "مملكة أوغاريت: أصل الأبجدية"، تأليف: مجموعة من المؤلفين، ترجمة يمام بشور، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق، عام 2018م.
  2. رسالة ماجستير بعنوان: "رأس ابن هاني المدينة الأوغاريتية الجديدة (دراسة تاريخية من خلال الوثائق المكتشفة)"، إعداد: هلا جمال حماده، جامعة تشرين/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية - قسم التاريخ، أيلول/ سبتمبر 2022.
  3. دراسات ومقالات نُشرت في المواقع التالية: المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية، الموسوعة العربية، موسوعة الآثار في سورية، الفينيقيون، اكتشف سورية، ووكالة سانا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.