في تلك الأزمان، كان ثمة فلاحون وإقطاعيون وتجار وحرفيون، وكان ثمة تشابه في ظروف العيش بين هذه الفئات، إلى حد يكاد يكون المرء يومها قادرا على أن يستشرف ما الذي سيحدث مع ابنته بعد عشرين عاما من زواجها. ذلك أن الأحداث كانت مكررة إلى حد بعيد، والعالم يكاد لا يسير.
وكان من شأن الحداثة أن عقدت كل هذه التقسيمات وأعادت تقسيمها مجددا مئات المرات. إلى حد أننا اليوم لم نعد نستطيع أن نرشد أطفالنا إلى ما هو أفضل لهم. زمننا حقا هو غير ما سيكون عليه زمنهم. وهم سيواجهون مصاعب وتحديات تختلف اختلافا جذريا عن المصاعب والتحديات التي واجهتنا. ما الذي بقي لنا كأهل وآباء وأمهات؟ القلق فقط. القلق من عالم لم نعد نعرف عنه شيئا. القلق من مواد جديدة دخلت السوق يدمن عليها الشباب وليست لدينا أي فكرة عما تكون وإلى ماذا تؤدي. القلق من تداعي المهن التي كنا نفخر بممارستها، وتحولها إلى مهن من لا مهنة له. القلق من كل شيء تقريبا. إنما أيضا استعجال التقاعد على نحو لا سابق له. بتنا نريد أن نخرج من السباق بأسرع ما يمكن وما أن تلوح لنا فرصة مناسبة. ليس لأننا تعبنا من النضال والقتال فحسب، بل لأن العالم من حولنا يتغير إلى الحد الذي يجعل من وظائفنا ومهاراتنا، التي بذلنا جهدا عظيما لاكتسابها، غير ذات جدوى على الإطلاق. أليس هذا ما يبشرنا به إيلون ماسك وهو يستغرب كيف يمكن لأي كان أن يحسب أن التعلم في جامعة قد يحوله إلى متميز في الوظيفة التي تخصص في مجالها.
لنعد إلى جيفرسون وزمنه. في تلك الأوقات كانت مشكلات الأزواج تتشابه إلى حد بعيد، وكذلك مشكلات المديونين والدائنين، وكان بوسع أي مسن في الحي أن ينصح الزوج بالمسار الأنسب للمحافظة على زواجه، وأن يطلب من الدائن إعطاء المديون فرصة، لأنهما يعيشان معا في حي واحد ويعرفان بعضهما منذ زمن. القوانين نفسها لم تكن بالتعقيد والاستفاضة التي هي عليه اليوم، وفي تلك الأيام كان اللجوء إلى محكمة لا يكلف المرء كل ما يملكه من أجل أن يكسب قضية حضانة. كتب القوانين كانت معدودة، وكان بوسع المرء أن يعد نفسه متعلما إذا قرأ الكتاب المقدس وبعض أعمال توما الأكويني وسقراط.
|
وول مارت هي رمز لعالمنا المعقد حيث باتت الوظائف البسيطة تتطلب ثقافة واسعة وإجابات على أسئلة لا تُحصى (Getty) |
لكن الزمن الذي تحدرنا منه جميعا، بمن فينا توماس جيفرسون، كان زمن تدوين. هو نفسه كان مدونا، ومن سبقه إلى الرئاسة ومن خلفه كانوا مدونين. الكتب والتدوينات تكاثرت إلى الحد الذي لم يعد بوسع أي كان أن يحيط بها كلها. هذا ما يعدنا به الذكاء الاصطناعي على أي حال، وبالتالي بات على المرء ليحصل على رخصة لبناء بيت أن يقرأ آلاف الصفحات كي لا يقع في ما هو محظور. التدوين الذي رفد القوانين بأحوال وحالات لا تحصى جعل القوانين أصعب من أن يحاط بها. وجعل الناس أعجز من التعامل معها بأنفسهم. كان لا بد من وسطاء، وهؤلاء أيضا لا يحوزون من العلم إلا قليلا. والحال، لم يعد القانون متاحا لكل الناس. بات متاحا لكل من هو قادر على دفع الرسوم الباهظة التي تذهب إلى المحامين ورجال القانون لقاء انعقاد المحكمة وإصدار الحكم.
لم يقف الأمر عند هذا الحد. لقد بات الحصول على وظيفة في متجر وول مارت يحتاج من الشاب ثقافة تعجز عنها سني حياته القليلة. استمارة العمل في مثل هذه المؤسسات تتضمن كل ما يخطر على بال المرء وما لا يمكن أن يخطر له على بال: كيف تتعامل مع رجل آسيوي يحاول أن يسرق دجاجا؟ كيف تتعامل مع رجل يرتدي ثياب امرأة ويحاول أن يتحرش بالنساء؟ كيف تتعامل مع سارق عنيف؟ والحالات لا تحصى. وعلى طالب الوظيفة أن يكون واعيا لكل هذه المشكلات، ليحصل على وظيفة تخوله وضع السلع على رفوف المتجر. والغالب في طلبات الحصول على الوظيفة أن ينحو طالب الوظيفة إلى اتخاذ جانب الجهل واللامبالاة لكي ينجو. راقب وبلغ ولا تفعل ما يمليه عليك عقلك. العقل عاجز، ونحن لسنا كائنات عاقلة.
هذا الذي يحصل في وول مارت يحصل في كل مكان تقريبا في العصر الحديث. لا تعرف ما الذي يمكنك أن تبادر إليه أو تنجر إليه، وعليك دوما أن تغوص في داخل نفسك، وتتعلم ألا تبدي أي انفعال. لقد حولتنا القوانين غير القابلة على الحصر إلى مجرد متلقين سلبيين. وليس ثمة ما نستطيعه حيال كل هذا غير الدخول في غابة من غير أي سلاح على الإطلاق.
أليس هذا ما تعدنا التقنيات الحديثة بإيجاد حلول له؟ على الأرجح أن الذكاء الاصطناعي يمكنه العبور من هذا الباب إلى قوانيننا المعقدة، لأنه ببساطة يستطيع أن يحصي التدوينات كلها، وأن يعطيك الإجابة القاطعة ملخصة إلى الحد الذي يمكّن أيًا كان من التعامل مع ما يجري حوله من دون أن يدخل في استعصاءات لا حل لها. ومن هذا الباب أيضا، يبدو أن الذكاء الاصطناعي قابل أيضا لأن يلغي كما هائلا من وظائف الوسطاء، لا لسبب، بل لأن هذه الوظائف لا تفعل غير تعقيد الحياة التي هي معقدة أصلا.