}

عن المضامين الدلالية للوشم

عبد الحليم حمود عبد الحليم حمود 26 يونيو 2025
إناسة عن المضامين الدلالية للوشم
(Getty)

 

يمثّل الجسد سطحًا مشحونًا بالرموز والدلالات، إذ يتحوّل الجلد إلى فضاء للتعبير والمقاومة والهوية. فالوشم، بوصفه ممارسة ثقافية عميقة الجذور، يتجاوز كونه مجرد تزيين سطحي للجسد إلى جوهره كنظام دلالي يعكس علاقات القوة والمعرفة في المجتمع، كما الموروث العقائدي والاجتماعي. ذلك أن مسار الوشم التاريخي، حُمّل بعشرات القناعات والاعتقادات المتمحورة بين السطح والباطن، وفي الحالتين لم يكن الأمر تحت سيطرة الوعي بشكل كلّي، بمعنى أن تلك الأوشام عكسَت مخزونًا ثقافيًا جمعيًّا راسخًا، فيه من السوسيولوجي بقدر ما فيه من السيكولوجي. مشكلته أنه يندثر مع موت صاحبه، فيغيب الأثر الذي يشكّل مادة قراءة ودراسة واستنتاج.

الجلد كسطح للتدوين المعرفي

يتجاوز الوشم وظيفته البيولوجية الأولية ليصبح سطحًا للتدوين والترميز. إنه يمثل لوحة حية تتراكم عليها علامات الزمن والتجربة، حيث تتحول كل وخزة إبرة إلى لحظة تأسيسية في سرد الهوية وتشكيلها.

يتحول الجلد عبر ممارسة الوشم إلى نص مفتوح، يحمل في ثناياه سجلًا حيًا لتاريخ صاحبه. فكل رمز منقوش، وكل شكل محفور، يكشف نسقا خاصًا، يؤسس مشهديات في مسار الذات. تتراكم هذه العلامات لتشكل أرشيفًا بصريًا للتجربة الإنسانية، حيث يمتزج الشخصي بالجمعي، والفردي بالاجتماعي، ونحن نعلم أن أوشام القبائل تمشي في نسق مختلف كلّيًّا عن أوشام نزلاء السجون، أو هؤلاء الساعين لإظهار القوة والجمال وربما الوفاء والانتماء من خلال أوشامهم.

السجلّ المتحرّك

كل وشم يمثل إعلانًا صامتًا عن موقف من الذات والمحيط والعالم، وتأكيدًا على حق الفرد في تشكيل هويته وإعادة تعريف ذاته، ولو كان صاحب الوشم غافلًا عن التداعيات التي يولّدها رسمه اللصيق.

يصبح الجلد في هذا السياق أشبه بسجل متحرك، يتم تحديثه باستمرار عبر إضافة طبقات جديدة من المعنى. إنه يمثل سطحًا للتفاوض المستمر بين الذات والمجتمع، بين الرغبة في التفرد والحاجة للانتماء، فالوشم نصّ دلالي، حيّ، مولّد للتأويلات مع اختلاف الثقافات، ليكون الجلد شريكًا بإنتاج المعنى، وتفسير الدلالة.

أنظمة الترميز في الوشم

تمثل الرموز المستخدمة في فن الوشم نظامًا معرفيًا عميق الجذور، والرمزيات المتشكلة في نظام دلالي متشابك، بحيث يكتسب كل عنصر معناه من علاقته بالعناصر الأخرى. فالأفعى المرسومة على الذراع رمز يحمل دلالات متعددة: الحكمة، التجدد، القوة، الخلود. وهذه الدلالات تكتسب أبعادًا جديدة حين تقترن برموز أخرى، مؤسسة لنص بصري متعدد المستويات، مثل صراع الأفعى مع النسر، أو الأفعى التي تلتف حول القلب، او الخنجر المخترق للأفعى.

يعمل كل وشم كوحدة معرفية مستقلة وفي الوقت نفسه متصلة بشبكة أوسع من المعاني. فالوردة المنقوشة على الجلد تستبطن إرثًا ثقافيًا طويلًا من الترميز المتقاطع مع الحب، الجمال، الزوال، التجدد. هذه المعاني لا تنبع من الشكل المباشر للوردة، إنما من تراكمات ثقافية وتاريخية عميقة، تجعل من الرمز حاملًا لذاكرة جمعية.

يكشف التحليل الأنثروبولوجي عن تحول عميق في علاقة المجتمعات المعاصرة بالوشم. فمن كونه علامة إلزامية للانتماء القبلي، أصبح شكلًا من أشكال الاختيار الفردي 



التجليات النفسية في ممارسة الوشم

إذا ما أخضعنا الوشم كنصّ ثابت على الجلد لعمليّة استنباط تأويلي سيميائي، فغالبًا ما نتجاوز الرسم كأحد العناصر الرمزية الدلالية، لنتوسع نحو مكان الوشم على الجسم بين الكتف والصدر والظهر والساعد والأصابع والقدمين والأماكن الحميمة من الجسم. كذلك لا بد من وقفة استقرائية لمستوى الرسم واحترافيته، فبعض الوشوم لوحات فنية مكتملة القواعد، بينما بعضها الآخر مرسوم بارتجال وضعف فني يشبه ما يسمى بالفن الفطري.

من هنا يتبدى موقع الوشم على الجسد كخريطة للتجارب الداخلية - فالصدر يتحول إلى درع للحماية، والظهر يصير حاملًا للثقل، والمعصم يتشكل كنقطة مواجهة مع العالم.  

بدائية الدلالة

يعمل الوشم كآلية نفسية لإعادة تشكيل الذات، حيث يتيح للفرد فرصة لترميز تجاربه وصراعاته في شكل بصري دائم. هذا الترميز لا يمثل مجرد تسجيل للتجربة، بل هو عملية تحويلية عميقة يتم من خلالها إعادة صياغة الصدمات والصراعات النفسية في شكل جمالي يمكن التعايش معه.

تتجلى في الوشم أيضًا ديناميات اللاوعي الجمعي، حيث تظهر الرموز الأزلية والنماذج البدائية الميثولوجية في أشكال معاصرة. فالثعبان، والشمس، والقمر، والشجرة، كلها رموز تنتمي إلى المخزون النفسي الجمعي للبشرية، تعاد صياغتها في سياق فردي خاص، مؤسسة لحوار عميق بين الفردي والجمعي، بين الشخصي والكوني.

يصبح الوشم بهذا المعنى أشبه بخريطة نفسية وأنثروبولوجية، تتداخل فيها مستويات متعددة من الوعي واللاوعي. إنه يمثل محاولة لترجمة المحتوى النفسي اللاواعي إلى لغة بصرية مرئية، في عملية تحويلية تسمح بالتعبير عن المكبوت وإعادة دمجه في صورة الذات المتكاملة.



البعد الأنثروبولوجي للوشم

في المجتمعات القبلية، مثّل الوشم آلية أساسية في تنظيم العلاقات الاجتماعية وتحديد الانتماءات. فالرموز المنقوشة على الجسد تخطت دورها كزخارف جمالية، لتغدو هوية مرئية تحدد موقع الفرد في النسيج الاجتماعي. كل نقش، كل رمز، كان يحمل معلومات دقيقة عن الانتماء القبلي، والمكانة الاجتماعية، والمرحلة العمرية، والحالة الزواجية.

شكّل الوشم أيضًا جزءًا أساسيًا من طقوس العبور في العديد من الثقافات. فالانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى، من الطفولة إلى البلوغ، من العزوبية إلى الزواج، كان يُترجم على الجسد في شكل وشوم خاصة. هذه الوشوم علامات تزيينية، وشهادات مرئيّة على اكتمال الطقس والانتقال إلى المرحلة الجديدة.

في المجتمعات المعاصرة، يستمر الوشم في أداء وظائف اجتماعية مشابهة، وإن اختلفت في شكلها وتعبيراتها. فالانتماء للمجموعات الاجتماعية المختلفة - سواء أكانت ثقافية أو مهنية أو فكرية - يتم التعبير عنه عبر أنماط معينة من الوشوم. غير أن هذه الوظيفة اكتسبت بعدًا أكثر تعقيدًا، حيث أصبح الوشم وسيلة للتعبير عن الفردية في إطار الانتماء الجماعي.

يكشف التحليل الأنثروبولوجي أيضًا عن تحول عميق في علاقة المجتمعات المعاصرة بالوشم. فمن كونه علامة إلزامية للانتماء القبلي، أصبح شكلًا من أشكال الاختيار الفردي الذي يعكس توازنًا دقيقًا بين الرغبة في التفرد والحاجة للانتماء. هذا التحول يعكس تغيّرًا عاموديًا في صلب المجتمعات وفي مفهوم الهوية نفسه.

مقاربة ظاهراتية

تكشف المقاربة الفينومينولوجية للوشم عن تجربة تتجاوز الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع. فالوشم، في التحليل الظاهراتي، أكثر من نقش على الجسد، ليصبح لحظة تلتقي فيها التجربة المعيشة مع العالم المرئي في وحدة لا تنفصم.

تتيح الفينومينولوجيا لنا فهم كيف يتحول الجسد في فعل الوشم من كونه موضوعًا في العالم إلى فضاء للمعنى المتجسد. فلحظة اختيار الوشم وتنفيذه تنكشف كتجربة حية تتداخل فيها الأبعاد الحسية مع المعنى المقصود. الألم هنا، في هذا المنظور، هو جزء جوهري من تشكّل المعنى، إنه اللحظة التي يتحول فيها القصد إلى واقع متجسد ونقطة التقاء بين الذات المدركة والعالم المدرك. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.