}

رام الله: عاصمة لا يريدها الجميع

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 7 يونيو 2025
أمكنة رام الله: عاصمة لا يريدها الجميع
لا بد من حديث عن رام الله في الوجدان
في مثل هذه الأيام قبل 58 عامًا، كانت رام الله (أو جبل الله) قد وقعت، بأقلِّ مقاومةٍ، تحت براثن الاحتلال، وكان من تبقّى ولم يهاجر من أبنائها وأبناء البيرة (جارتُها ومكمّلتها الوجودية)، يرسم، بواقعيةٍ مُفرطةٍ، ملامح الزمان الجديد، ويعيدُ تشكيلَ لسانهِ ومخارجِ حروفهِ لتناسبَ لغةً تجميعيةً مثل أصحابِها الذين جمعوهم لِيسرقوا أرضنا من أصقاعِ الأرض جميعها. لغةٌ لا تشبهُ لغتَنا السّامية الأصيلة، وزمنٌ ليس لنا فيه أيام، ولهذا لم نَعُدْ نَعُدُّ ساعاته. وأمّا حرف الخاء فقد صار عنوان المعنى وبنْدول الوقت، وأصبحت اللازمة الشعورية التي أصابت أهل رام الله هي هذا الحرف مع إضافة حرف الرّاء في وسطه مرّة (خاء خراء) وحرف الواو في أُخرى (خاء خواء).

في مثل هذه الأيام قبل 58 عامًا كانت رامُ الله هائمةً على وجهِها

في مثل هذه الأيام قبل 58 عامًا كانت رامُ الله هائمةً على وجهِها لا معالم واضحة لهويةٍ تخصّها، وحتى يومنا هذا ما تزال رامُ الله هائمةً على وجهِها ولا ملامح هويةً واضحةً تخصّها. المفارقة العجيبة والغريبة أن قرى رام الله جميعها تملك هوياتٍ واضحةً ولهجةً فلسطينيةً مميزةً وألوانَ ثوبٍ ناصعةَ الخصوصيةِ، في حين أن المدينة المركز لا تملك أيًّا مِن كلِّ ذلك! حتى مخيّماتها الأربعة (الأمعري والجلزون ودير عمّار وقدّورة) تملك مشتركات وتتلاقى في مسائل كثيرة من اللهجة والأصول الواحدة (معظم اللاجئين إلى مخيمات رام الله ينحدرون من مدن وبلدات وقرى: دير طريف، واللد، والسافرية، وبيت نبالا، والرملة، ولفتا، وأبو غوش، والقباب، ويافا، وسلمة، وزكريا، والحديثة، وعمواس، ويالو وغيرها) والأحلام والتطلعات الواحدة.
على كل حال إن أي حديث عن رام الله هو حديث عن مدينة غادرَتها وجارتَها الّلصيقة البيرة معظم عائلاتها نحو بلاد الله أجمعين، خصوصًا بلاد العم سام، حتى أن تجمعات سكانية كبرى من البيرة ورام الله لها مساحات لا لبس فيها في مدنٍ أميركية بعينِها في ولايات شيكاغو ونيوجرزي ونيويورك وغيرها.
بعد عام 1994، عام غزّة/ أريحا أولًا (شعارٌ رفعه الختيار أبو عمّار لتمرير اتفاقية وُقِّعت في القاهرة لِحل معضلتيّ غزّة وأريحا ضمن سلاسل معضلات أوسلو التي لا تنتهي ولم تنته حتى يومنا هذا، بوصفهما معضلتيْن في متناول يد المفاوضين والوسطاء والمراقبين ومرّاقي الطريق). أقول، بعد هذا التاريخ بدأت، تدريجيًا، دفعات من فلسطينيي الشتات تعود إلى وطنٍ رمزيٍّ فوق أرض الأجداد تمثّل، أساسًا وقبل أي خيار آخر، بالإقامة في أحياء ومناطق وفنادق في مدينة رام الله، ما ضخّ وبشكل غير مسبوق بالنسبة للمدينة التي تبعد ومعها جارتها البيرة عن القدس زهاء 12 كيلومترًا شمال حاجز قلندية، داخل عروقِها عناوينَ تجدُّدٍ في عمارتِها وموزاييكِ سكانِها ومطاعمِها وخدماتِها ومنظماتِها الحكومية وغير الحكومية. وبالفعل، لم ينته عام 1998، حتى كان آلاف الفلسطينيين المقيمين في الشتات؛ في الأردن ولبنان وسورية وأوروبا وآسيا وأفريقيا والمغرب والخليج العربي وبلاد أخرى كثيرة، قد حطوا رحالهم في البُقعة التي أتيحت لهم من وطن آبائهم وأجدادهم: رام الله.




حقيقةٌ قَلَبت أوضاعَ المدينةِ القريبةِ في مواصفاتِها و(عاديّتِها) من عواصم عربيةٍ محيطةٍ؛ فلا عبق الخان في نابلس موجودٌ في رام الله، ولا جموح المال وعائلاته في الخليل، ولا عتباتِ الرَّبِّ في أزقّةِ بيت لحم، ولا عتاقةِ قُدْسِ الأقْداس، ولا غضبِ الثَّوْرة في جنين، ولا أنفاسِ القرية وأرزاقِها في طولكرم، ولا جيرةِ الجِدار في قلقيلية، ولا لفحةٍ من الشمس والأغوار كما في طوباس، هي مجرّد بضع تلال، بعضها نسيمُها عليل، بعضها يشبه، إلى حدٍّ بعيد، بعض جبال عمّان (ربما هذا ما يفسّر المؤاخاة بين العاصمتيْن).

رام الله التِحْتا...

إن كان لا بد من حديث عن رام الله في المدى والوجدان، فهو حديث سوف يقتصر، في معظمه، حول رام الله التحتا (القديمة، التاريخية) حيث الأحواش والعمارة التقليدية الموشّحة بعراقةِ مدن شامية كثيرة تنتشر فيها عمارة من طراز خاص... وحيث معظم المشاريع غير الرسمية والمبادرات ومطاعم المشاوي والمأكولات المترافقة مع تمردٍ ما (عرق رام الله على سبيل المثال وبيرة الطيبة مثلًا)... هناك في أحياء الشَّقَرَة ودار جريس ودار إبراهيم والقديرة والحرجة، وشوارع مثل السهل، والبلدية، ودير الروم، وغيرها، بمبانيها ومعالمها التاريخية وروحها الفلاحية البسيطة ومحالها التجارية العتيقة، تشكّلت في القرن السابع عشر أولى ملامح رام الله، عندما لجأ المسيحي الكركي راشد حدادين لأقارب له في البيرة هاربًا من دمٍ أو خلافٍ عشائريٍّ ما، فأجاروه، ثم قدموا له أرضًا (خربةً) اسمها للمصادفة البحتة رام الله... قَبِلَها وشيّد، وأولادُه، فوقها ما أصبحت اليوم إحدى أهم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية رغم ما ينقصها من عمقٍ تاريخيٍّ كما باقي مدن الضفة ومحافظاتها. أهمية لها علاقة بوجود مؤسسات السلطة الطارئة التي تحوّلت مع الأيام إلى سلطة الأمر الواقع بمختلف منطلقات هذا المفهوم/ المصطلح. ولها علاقة بإقامة آلاف العائدين فيها من دون غيرها. وبتفضيل الأجانب أصحاب المشاريع والأجندات رام الله عن غيرها من مدن الضفة الذبيحة. ولا ننسى تعامل العدو الصهيوني معها بوصفها العاصمة الوحيدة التي لن يحصل الفلسطينيون على عاصمة غيرها فيما لو انقلبت الأرض وقامت القيامة ووافق العدو على منحِ الفلسطينيين ما يشبه الدولة/ الدويلة، أو أيَّ وهمٍ له علمٌ ونشيدٌ ومؤسساتٌ مرهونةٌ لمن يدفع، وحرسُ مَواكبٍ وحرّاسُ عدو! حتى إن كثيرًا من أدبيّات العدوّ الإعلامية صبّت باتجاه أهمية المدينة التاريخية والوسطية والسياحية والاقتصادية وما إلى ذلك، ترويجًا لها وتثبيتًا لاستحالة سماحهم أن تكون القدس، أو أي جزء منها شرقًا، عاصمة للدّولة التي لا يوجد أي مؤشر إلى إمكانية إقامتها وفق آليات عمل السلطة، وبالاستناد إلى عناوين فاقعة حول إمكانية التعايش، كان من الممكن أن لا تكون فاقعة، بل ممكنة ومنطقية، لو كان جارنا في السعي لهذا التعايش غير ذاك الجار، الذي أصبح مدججًا اليوم بمختلف شحنات النفي والسحل والطرد يريدها (كلها) له وحده، هذا إن كفته، وإلا فالعودة إلى خارطة مدّعاة قديمة تتحدث عن حدود بين الفرات والنيل وعن توسعٍ لا يُبقي من جُلِّ بلادنا العربية المحيطة بفلسطين ولا يذر.
المهم، ما علينا، دعونا نعود إلى رام الله التحتا فهناك تتداخل كل طبقات رام الله ومستويات البناء والأرزاق فيها، وهناك في شوارع جرى (تبليط) بعضها (شارع السهل نموذجًا) على منوال شارع الرينبو في الأردن والسوليدير في بيروت، تكرج روح رام الله القديمة، ويتسع المدى لوافدين إلى (التحتا) من الخليل وكثير من قراها (الظاهرية وسعير على سبيل المثال)، ومن بلاد الله الواسعة داخل فلسطين وخارجها، ليشيّدوا هناك ملامح أحلامهم، وأول مداميك استقرارهم فوق عبق طالع من أرض أجدادهم. تحوّلات أسفرت عن تراجع وجود عائلات لها تاريخ قديم في (التحتا) مثل العسعس وزايد وفرمند وغيرها، وتزايد انتشار أسرٍ من عائلات جبارين وجرادات والفروخ وعوايصة وغيرها.
في رام الله التحتا كنائس قديمة (دير تجلّي الرب على سبيل المثال الذي شيّد عام 1850)، وفيها شجرٌ قديمٌ تبعث عروقه الصامدة الطالعة من عقود الزمان أنفاس الأمل الذي لا يفعل الفلسطينيون إلا تربية جذوره وتجلياته فوق أرض الحياة.

في رام الله التحتا كنائس قديمة وفيها شجرٌ قديمٌ تبعث عروقه الصامدة الطالعة من عقود الزمان أنفاس الأمل


تبدأ رام الله التحتا منذ اجتياز كنيسة دير اللاتين، في الشارع الرئيسي نزولًا باتجاه الغرب، لتنتهي عند تخوم بطن الهواء، وسرية رام الله الأولى، وتتفرع إلى الشمال والجنوب لتشمل مبنى بلدية رام الله الحديث جنوبًا، وحتى شارع ومنطقة عين مصباح شمالًا.
هنا في هذه الحارات، ذات البنايات القديمة، تأسست رام الله، منذ القرن الثامن عشر (قد يختلف بعض المؤرخين مع هذا التاريخ، رائين أنها تأسست في القرن السابع عشر)، ومنها انطلقت، منذ أربعينيات القرن الماضي، عائلات رام الله إلى المهجر في أميركا غالبًا، أو، كما في فترة الثمانينيات وما بعدها من القرن الماضي، إلى أحياء جديدة في الطيرة والماسيون وغيرهما.
واليوم، يكاد العارف بأسرار (التحتا) وأدقّ تفاصيلها أن يضل طريقه إن غاب عنها وعاد بعد أعوام من الغربة والسفر رفيق دروب الفلسطينيين وقدرهم في مطارات العالم كلّها.
مشروع "الكمنجاتي" في (التحتا) حيث أقام نبيل شلالدة المشروع مكان محل حلاقة قديم هناك، ومشاريع أخرى كثيرة منها ما يوثق الموسيقى في فلسطين (منها على سبيل المثال "المؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية" (نوى) وجهود نادر جلال الساعية لتوثيق الموسيقى العربية في فلسطين، مقر المؤسسة في أول النزول نحو رام الله التحتا)، ومنها ما يعزز اهتمام أبناء المجتمع المحلي بأدب الأطفال، ومنها ما ينتصر للتطريز الفلسطيني الذي يتعرض إلى أبشع سرقة موصوفة في التاريخيْن القديم والحديث.




بالقرب من مؤسسة "اتحاد أبناء رام الله"، تتمسّك دار الأنقر بأزمان مجدها... هناك تنطق الحجارة بجماليات العمارة التي شيّد راشد الحدادين وأولاده الخمسة عواد، ويوسف، وجغب، وشقرة، وشراقة، تفاصيل خصوصيتها. عمارة تنحاز لحجارة فلسطين الصلبة الآتية من قباطية ونابلس وغيرهما. ومن أنواع الحجر المستخدم في بناء بيوت رام الله التحتا "الطُبْزِة" و"المفلوق" و"المسمسم" و"الملطّش"، إذ نجد تمثّلات لهذه الأنواع في بيت جورج موسى ودور إبراهيم وزهران وجغب. وحدهما دارا الحبش وقسّيس اختارا أنواعًا أخرى من العمارة التي تتسم بها رام الله بطبقتيْها الفوقا والتحتا.
في رام الله التحتا روح تفتقدها منطقة المصايف على سبيل المثال (من مناطق رام الله الحديثة)... روح لن تجدها في البالوع رغم أن الحي المشار إليه هنا مخصص لأبناء الطبقة المخملية في رام الله ولجماعة السلطة ممّن كانوا فيه، وممّن أقاموا في الحي بعد عام 2000.
على كل حال لا يتوقف الجدل بين (مثقّفي) رام الله حول مسألة تحويل بعض البيوت القديمة إلى مطاعم أو مشاريع استثمارية، من يرفضون هذا النهج يبرّرون رفضهم أن تحويل بيت قديم عريق إلى مطعم لن يحافظ على خصوصيته ولا على جمالياته، فزبون المطعم سيلتهم وجبته ويمضي بعيدًا عن الشعر والتأمّل وما إلى ذلك، أما المؤيدون فيرون عكس ذلك ويستشهدون بعدد من المشاريع التي نجحت بإنقاذ بيت قديم، وبتثبيت أركان بيت آخر، ويستشهدون بما فعلته بلدية رام الله حين أنقذت (في اللحظات الأخيرة) بيتًا قديمًا بُنيَ قبل 120 عامًا من أسنان الجرافة التي كانت تنوي تسوية البيت وتاريخه وجمالياته بالأرض. بعد الإنقاذ حوّلت البلدية المكان إلى فندقٍ صغير باسم "لوكندة فرح". البيت الذي أُنقِذ مشيّدٌ من الحجر الزهري، وفي عليّته الثالثة سقف قرميدي من الأحمر القاني، وفيه جماليات عراقة لا تخفى على متأمّل.
في رام الله تلعب المصادفات دورًا كبيرًا في تعزيز مكانة المدينة، فحتى أعمدة البث التابعة للإذاعة البريطانية الانتدابية أسهمت في ثلاثينيات القرن الماضي في ضخ الحياة في عروق البلد الصغير آنذاك. أما المفارقة الكبرى فهي أن التطوّر الثاني (بعد أعمدة الإرسال) الذي شهدته المدينة هو تشييد مبنى تابعًا لحكومة الانتداب يحتوي على سجن وضع فيه أبطال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) وقادتها ورموزها. أما المبكي المضحك في كل ذلك أن هذا المبنى المرتبط في وجداننا بأمور سيئة عدوانية هو اليوم مبنى المقاطعة التي تدير السلطة شؤون هزائمنا من داخلها.

عاصمة الضياع...

إنها رام الله العاصمة التي لا يريد الفلسطينيون أن تبقى كذلك بل لا بأس بشكل مؤقت على أن تكون القدس لاحقًا هي العاصمة... ولا يريد المتطرفون من المستوطنين أن تكون عاصمة لأحدٍ لأنهم لا يريدون أي دولة غير دولتهم... فإذا بها عاصمة الضياع؛ العاصمة التي لا يريدها أحد... هل قلت (المتطرّفون)؟ لا شك بأني أخطأتُ ثانية وما أكثر أخطائي وخطاياي، فهم جميعهم لا يريدون لنا دولة، حيث الفلسطيني الجيّد بالنسبة لهم هو الفلسطيني الميْت.
في رام الله 19 حيًّا، وفيها أحياء جديدة ينساها الذين يحصون ويوثقون أو يكررون أرقام غيرهم. وفيها دوار يرسّخ الوفاء لمن شيّدوا المدينة من أبناء راشد... وحوله أبواب رزق وباعة بوظة وفلافل وصاغة وألبسة وقليل من خيرات الأرض لأن أهل رام الله لم يعودوا كما كانوا مزارعين... وعلى المار من ترمسعيا نحو نابلس ومدن شمال فلسطين أن يذكر بالخير كل مغترب من أبناء رام الله فهم شيّدوا في القرية التي كانت صغيرة ووادعة قصورًا منقوشةً بطرزِ العمارة التقليدية العريقة... بعضهم حافظ على القديم وشيّد الفيللا أو القصر من دون أن يخلع الشجر أو يعدم المحاصيل فبارك الله فيه، وبارك الله في أهل رام الله أجمعين، فالنقد لا يعني العداء، وحين أكتب عن رام الله السلطة والمقاطعة فلأني أرجو لكل مدن فلسطين الحبيبة أن تكون أحلى وأبهى وأوفى لصالح المقاومة والبطولة ونزعات التحرر من عدوٍّ لا يرحم ويبدو أنه لا يعرف سوى لغة القوّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.