ماذا كان يدورُ في خُلد المثقفين والإعلاميين والسياسيين العنصريين لحظةَ مُشاهدتهم ناصر الخليفي، العربي المسلم، وغير الإرهابي، وهو في ذُروة السعادة في نهاية مباراةٍ تاريخيةٍ انتصر فيها لاعبو فريق باريس سان جيرمان، مُرتدين أقمصةً تحمل اسمَ قطر، بلدِ المسؤولِ الأسمر، وغيرِ الأشقرِ البشرة؟ سؤالٌ قفز إلى ذهني وأنا عائدٌ إلى بيتي بعد أن شاهدتُ واقفًا على أرضيةٍ مُعشوشبة مباراةَ كرةِ قدمٍ بعينِ الصحافيِّ الذي يلتقطُ ما لا يلتقطُه عامةُ الناس. لم أذهب إلى ملعبِ بلديةِ فيلبينت رُفقةَ صديقي المغربي مصطفى لقشيري وأبنائه وابني سامي، للتخفيفِ على نفسي التي تعيشُ على إيقاعِ إبادةِ غزة، كما يعرف من يَدَّعي أنه يعرفني. لقد قصدتُ الضاحيةَ الشعبيةَ المجاورةَ للحيِّ الذي أقطنُ فيه، في مهمةٍ صحافيةٍ، لأتأكدَ من عدمِ صِحَّةِ ما يُروَّج عن الإخوان المسلمين الذين اختَرَقوا المجتمعَ الفرنسيَّ حسب تقريرِ وزارةِ الداخليةِ الفرنسية، عبرَ جمعياتٍ دينيةٍ تتلقى الدعمَ الماليَّ والمعنويَّ من بلدانٍ إسلامية، ومنها قطر، التي تُناصرُ حركةِ "حماس"، حسبَ تعبيرِ حبيب ميير، الضيفِ الدائمِ لقناةِ "إي 24" الإسرائيلية، والنائبِ السابقِ، والممثلِ ليهودِ فرنسا في الخارج، وأبرزِ أعداءِ الرئيسِ الفرنسي، رغمَ رفضِ هذا الأخيرِ وصفَ ما يحدث في غزة بالإبادة.
فلسطين حرة تحت المطر
في ملعبِ "فيلبينت"، الذي جلستُ على أرضيته المعشوشبة، قُبالةَ الشاشةِ الضخمة، قبل أن أقفَ وأفتحَ مظلتي الصغيرة إثرَ انهمار مطرٍ غزير، رحتُ أنتهزُ فرصةَ بثِّ الإشهار قبل انطلاقِ المباراة، لأقرأَ المشهدَ الاجتماعيَّ الذي أضحى مُخالفًا تمامًا للصورةِ النمطيةِ التي يُدمن على عرضها ضيوفُ الإعلامِ الفرنسيِّ الطاغي، وعلى رأسِه قناةُ "سي نيوز"، أو "فوكس نيوز فرنسا". المشهدُ الذي لا يخدمُ خطابَ وزيرِ الداخليةِ، برونو روتايو، الطامحِ لدخولِ قصرِ الإليزيه على ظهرِ المهاجرين، المسلمين وغيرِ المسلمين، كان مُكوَّنًا من النساءِ الفرنسياتِ الشقراوات، ومن العربياتِ السافراتِ والمحجِّباتِ السّمراوات، والبنين والبناتِ، ومن بينهم الطفلةُ التي جاءت رفقةَ أفرادِ عائلتها مرتديةً قميصًا كُتبت عليه عبارةُ "فلسطين حرة"، باللغةِ العربية، التي تعني الإرهابَ حتمًا في مُتخيَّلِ العنصريين الفرنسيين، الذين لا يريدون أنْ تُدرَّس كلغةٍ أجنبيةٍ في فرنسا، تفاديًا لتطرّفٍ دينيٍّ إسلاميّ، علمًا أن وطنَ فولتير هو البلدُ الأوروبيُّ الأولُ المنغلقُ على اللغاتِ الأجنبية، على حد تعبيرِ جاك لانغ، وزيرِ الثقافةِ الشهيرِ السابق، ورئيسِ معهدِ العالمِ العربيِّ، في أكثرَ من حديثٍ لكاتبِ هذه السطور.
|
المغربي أشرف حكيمي بقميص ناديه الذي يحمل اسم قطر سجل الهدف الأول في مرمى نادي إنتر ميلان (31/ 5/ 2025/ Getty) |
انتصارُ فريقِ باريس سان جيرمان يُعدُّ انتصارًا ثقافيًّا (بالمعنى الواسعِ لمفهومِ الثقافة) لقطر، الكلمةِ التي تُزعِجُ العنصريين الفرنسيين وتُسعدهم في الوقتِ نفسِه، رغمَ أُنوفِهم، والصارخةِ بوجودٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ غيرِ إرهابيٍّ على أقمصةِ لاعبين معظمُهم من أصولٍ أفريقيةٍ وعربية. قطرُ التي يمكنُ لأيٍّ كان أن ينتقدَ ساستَها باحترامٍ من بابِ حريةِ الرأي، لم تكن، ليلةَ مشاهدتي المباراةَ الرياضيةَ التاريخية، قطرَ "التي تزرعُ الإسلامَ السياسيَّ في فرنسا". كانت قطر، البلدَ المجهريَّ ــ كما يحلو لأعدائها تكرارُ ذلك في كلِّ المناسبات ــ الذي نجحَ في تسويقِ نموذجٍ استثنائيٍّ عن كيفيةِ توظيفِ المالِ بالشكلِ الذي لا يخدمُ العدوَّ حتمًا، كما تفعلُ بعضُ الدولِ العربيةِ المعروفة.
قطرُ التي لم أزُرْها، وليس لي فيها ناقةٌ ولا جملٌ، كما يعتقدُ المتربِّصون بالفرصِ الثمينة، أضحت بلدًا عربيًّا أشهرَ من علمٍ في ليلةٍ ربيعيةٍ ممطرة. كلمةُ قطر كانت سيّدةَ الموقف وأنا أُشاهِدُ مباراةً تاريخية، ليس بهدفِ التنفيس، أو مناصرةِ الفريقِ الفرنسيِّ، أو الإيطاليِّ، ساعةَ إبادةِ غزة، ولكن بهدفِ اصطيادِ ما أُمكن من أدلّةٍ تُثبت أن الجاليةَ العربيةَ والمسلمةَ المهاجرةَ ليست على استعدادٍ للتضحيةِ بغزة بمناسبةِ فرحةٍ يفرضُها لقاءٌ رياضيٌّ ليس ككلِّ اللقاءات.
فابريس سكاغني: إنّها إبادة
المطرُ الذي نزل رحمةً على عبارةِ "فلسطين حرة"، المكتوبةِ على قميصِ الطفلةِ العربيةِ التي كانت تُناصرُ فريقَ باريس سان جيرمان، هو نفسُه المطرُ الذي اخترق مظلتي المتواضعة التي لم تسعْ صديقي لقشيري وأبناءه مختار ويانيس ومصطفى، الذين رافقوا أباهم مُرتدين أقمصةً تحمل اسمَ قطر، التي ستسمح لهم، رغم كلِّ ما يلحقُ بها من تشويه، من التأكد أنّها كانت البلدَ العربيَّ الذي أسعدَ الفرنسيين ولم يُرهبْهم، وأنه لا يُصدِّرُ الإرهابَ اللصيقَ بكلِّ العربِ والمسلمين، وليس بها فقط، كما أُصبح يُروَّجُ اليوم في زمنِ الطغيانِ الإعلاميِّ الصهيوني.
فابريس سكاغني، النائبُ الفرنسيُّ عن حزبِ راديكاليّي اليساريين في بلدية "فيلبينت"، كان وسطَ المهاجرين الفرنسيين مثلَه، وبين آخرين منحدرين من أصولٍ عربيةٍ وغير عربية، وأخذ قسطَه من المطر لحظةَ انتشائه الخرافي بانتصارِ الفريق الفرنسي، وخاصةً بعد تسجيله الهدفَ الخامس. شاء القدرُ الجميل أن يُقدّمه لي صديقي لقشيري بين شوطي المباراة، الأمرُ الذي اقتنصتُه لمحاورته مُبلّلًا وغيرَ قادرٍ على الهتاف، رغمَ حبي لكرةِ القدم، تحتَ وطأةِ حزنٍ سيلازمني نتيجةَ الشعورِ بعجزٍ خرافيٍّ أوّلٍ من نوعه في حياتي الشخصية والمهنية.
عجزي عن مؤازرةِ شعبِنا الفلسطيني كما يجب، والذي يتعرضُ لإبادةٍ صهيونيةٍ اكتملت أركانُها، هو العجزُ الذي ضعُف نسبيًّا بعد أن أكّد لي النائبُ الفرنسي قائلًا، في حوارٍ مرتجلٍ تحتَ المطر، على مسمعٍ ومرأى صديقي لقشيري: "يُمكنك أن تكتبَ أن ما يحدثُ في غزة إبادةٌ حقيقية، وأن وزيرَ الداخلية الحالي، برونو روتايو، يصبُّ الزيتَ على النار بمبررِ محاربةِ أقليةٍ شبابيةٍ من المُنحرفين المُنحدرين من أصولٍ مهاجرة". وأضاف: نائبةُ عمدةِ بلدية "فيلبنيت"، التي أخذت الكلمةَ مرحِّبةً بالجمهور قبل انطلاقِ المباراة هي من أصلٍ مغربيٍّ، مثلَ اللاعبِ الشهيرِ أشرف حكيمي، الذي سجّل الهدفَ الأول. للأسف الشديد... التحقت بحزبِ "الجمهوريين" الذي يقودُه وزيرُ الداخلية الحالي.
وكما كان متوقّعًا، اعتقلتِ الشرطةُ الفرنسية العشراتِ من المشاغبين الشبّان الذين عاثوا فسادًا إثرَ انتهاء المباراةِ التاريخية، وهم الذين وصفهم الوزيرُ الطامحُ لدخولِ قصرِ الإليزيه بـ"البرابرة"، تكريسًا لمقاربتِه لمراهقين محسوبين حتمًا، وفي كل الحالات، على أبناءِ المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة، في خطابِ الساعين للفوزِ بالإليزيه.
معظمُ سكانِ الضواحي، وأسوةً بضاحيةِ سان سان جونيه (93)، التي تقعُ فيها بلديةُ "فيلبينت"، ابتهجوا بانتصارِ الفريقِ الفرنسي، كما شهدتُ على ذلك، غيرَ متناسين الشعبَ الفلسطينيَّ الشهيد.
فرنسيون أحرار، شُقرٌ وغيرُ عربٍ ومسلمون، هتفوا: "فلسطين حرة"، وهم يتحدثون على المباشر لصحافيين تلفزيونيين وجدوا أنفسهم مُحرَجين. إن شاء الله... لن يُعاقبَهم مسؤولوهُم.