}

البشرُ وجيناتُهم: عن الإرثِ والخياراتِ وتصاريفِ الحياة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 5 يوليه 2025
اجتماع البشرُ وجيناتُهم: عن الإرثِ والخياراتِ وتصاريفِ الحياة
سلاسل جيناتنا وحبال خياراتنا
في الوقت الذي يبلغ فيه بكري حمزة غدًا الرابعة والثلاثين من عمره المديد إن شاء الله، أفكّرُ، (وما الذي نفعله نحن مدّعو الوعي وضحايا الثقافة الجذريّة غير التفْكير الذي يوجع الرؤوس ويفوّر الأدمغة): ما الذي أورثته لِولدي، وما الذي علَّمَتْه إيّاه الحياةُ بعيدًا عنّي وعن سُلطاتي وتدخّلاتي؟ ما هي نسبة الجينات في مجملِ ما تكوّن لديهِ من معارفٍ ومواقفٍ وخياراتٍ ومَهارات؟ هل في الجينات بُعْدٌ جمعيٌّ بحيث بإمكانِنا أن نقول إن هذه جيناتٌ شرقيّة وهاتيكَ جيناتٌ غربيّة؟
في واحدةٍ من إشراقاتِ انتصارِهِ للتنوّع والفَرادة، يقول المفكّرالإنسانيّ الإيرانيّ/ الأرمنيّ/ الأميركيّ فارتان جريجوريان (1934-2021): "لن يرى الكون شخصًا مثلكَ مرةً أخرى في تاريخ الخلقِ بأسرِه". فهل كان جريجوريان يقصد بصْمة اليد التي تجعل كل واحدٍ من بني البشر نسخةً واحدةً وحيدةً فريدةً غيرَ قابلةٍ للتّكرار أو النّسخ أو التقْليد؟ أمْ كان يقصد البصْمة الجينيّة؟ على كل حال ظلَّ ابن مدينة تبْريز (شمال غرب إيران) حتى مُرتقى أنفاسهِ منحازًا لقيمةِ الاختلافاتِ بينَنا، رائيًا أن التنوّع يُثري الأُمم وَالحضارات، رافضًا (خصوصًا في كتابهِ الصادر في عام 2003، "الإسلامُ فسيْفساء ليست متراصّة") ما ذهب إليهِ هنتنغتون وعُصبة مؤيّديه حوْلَ مخاطر شموليةِ الإسلام وتحجّره ولا تنوّعه. ولكِن، ولِكي لا نبْتعد عن محاورِ موضوعِنا، ما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تحرّرنا من جهة، وتضعنا أمام مسؤولياتِنا من جهةٍ ثانية، حين نوقنُ أنّنا تسعةَ مليارات عالَمٍ وليس تسعة مليارات إنسان؛ أي بِمعنى أن كلَّ واحدٍ فينا عالَمٌ قائمٌ بذاتِه (ربما ليس لذاتِه)، ولكن مساعيه خلال سنوات عمره، سواء أكانت لخدمةِ نفسهِ فقط لا غير، أم كانت لخدمةِ الآخرين آملًا من خلال فعْل الخير للآخرينَ منْح روحهِ ونفسهِ السلام والرّضى والطمْأنينة، فإن النتيجة في مختلف الأحوال واحدة: كلُّ واحدٍ منّا حالةٌ فريدةٌ غيرُ قابلةٍ للتّكرارِ ولا بأيِّ حالٍ من الأحوال.

يَفترضُ كثيرٌ من المختصين (أو مدّعي التخصُّص) أن تأثيرَ البيئةِ يصبح أهمَّ مع نموِّنا وتراكُم الخبْرات لديْنا، إلا أنّه، وفي حالةِ سماتٍ مثل التطوُّر المعرفيّ، يبدو أن العكس هو الصحيح؛ إذ يزيد التأثيرُ الجينيُّ بمرورِ الوقت حتى تصبح القدرةُ المعرفيةُ قابلةً للتّوريث في مرحلةٍ لاحقةٍ من الحياة مثل الطولِ تقريبًا. في كتابِهما "الجينات والتعليم... تأثير الجينات على التعليم والتحصيل الدراسي" الذي ترجمه المصري ضياء ورّاد إلى العربية، يتفق المؤلّفان الإنكليزية كاثرين آسبري والأميركيّ روبرت بلومين على مقولةٍ واحدة: "إن حقيقةَ تأثُّرِ الاختلافاتِ الفرديةِ بالجيناتِ تجعلُ من فلسفةِ الصفحةِ البيضاءِ أكذوبةً". لا أحدَ منّا يولد، إذًا، صفحةً بيضاء، فجملةٍ من الصفات الجينيةِ تولد معنا، وتجعل لِأكثرِ مراحلِ عقولِنا بدائيةً ورضيعيةً خصوصياتِها التي تميّز بشكلٍ جذريٍّ بين كلِّ وليدٍ وآخر. حقائقُ أفْضت إلى نشوءِ علمٍ جديدٍ يتقدّم هذه الأيام بسرعةٍ لافتةٍ؛ إنه "علم الوراثة السلوكيّ" الذي وجدَ لهُ في معهد لندن للطب النفسي ومعاهد ومراكز دراسات وأبحاث أخرى كثيرة مكانًا له تحتَ شمسِ العلومِ التطبيقيةِ ومجالاتِها وتجلياتِها.

طفل يتشرب قصص ثقافته الشعبية بتأمّل حالم 

يغيّرُ علمُ الوراثةِ من عالِمنا بوَقْعٍ متزايدِ السرعةِ عن ذي قبل؛ فبإمكانِنا الآن تحليل الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)، وتعديلَه لإجراءِ اختباراتِ الكشفِ عن الأمراض الخطيرة وعلاجِها قبل أن تهدِّد حياةَ المريض، وللإيقاعِ بالمجرمينَ وإعفاءِ الأبرياء، ولخلقِ مصادر طاقة ستحْمي كوكبنا. وقد بسَطَ علماءُ الجيناتِ نطاقَ عملهم حتى تسنَّى لهم التأثيرُ على مجالات الطب، والصحة العامة، والزراعة، والطاقة، والبيئة، والقانون، والسياسة الاجتماعية؛ وإمدادها بالمعلومات. في كتابهما المشار إليه أعلاه، يرى آسري وبلومين أن أحدَ السُّبُلِ لِمساعدةِ الطفلِ على بلوغِ إمكاناتِه الأكاديمية هو استغلالُ الدروسِ المُستقاةِ من أبحاثِ الجينات؛ "فنحن الآن على دراية كبيرة (وإنْ كنَّا لا نعرف كلَّ شيء على أية حال) بالطرق التي تؤثِّر بها الجينات على التعلُّم، وبالكيفية التي يتفاعَلُ بها (دي إن إيه) الأطفالِ مع الخبراتِ التي يكْتسبونها بِالمنزل والمدْرسة. لقد حان الوقت كي يجلس التربويّون وَواضعو السياسات مع علماء الجينات لتطبيقِ هذه الاكتشافات على العملية التعليمية؛ فسيصبُّ ذلك في اتجاهِ تحسينِ المدارسِ وإنجاحِ الأطفال، وعلى المدى البعيد في إعدادِ مواطنينَ أكثرَ إنجازًا وفاعليةً؛ وهذا ما نرغب أن تحقِّقه المدارس والتعليم، أليس كذلك؟" ("الجينات والتعليم"، صفحة 15). إنها، بالتالي، ثورةٌ متواصلةُ العواصف، هادرةُ الإنجازاتِ منذ أفْضت هواجسُ تحسينِ النسلِ لدى السيرِ فرانسيس غالتون Francis Galton (1822-1911) به إلى إجراء أول التجارب البشرية حول علاقة الجينات بالذكاء، مقدّمًا للعالم قبل أزيد من 137 عامًا، أوّل دراسةٍ ممنهجةٍ حولَ إمكانيةِ توريثِ السلوكِ الإنسانيّ.




وهي ثورةٌ متعدّدة الرؤوس، وَالعناوين، طموحةُ الآفاق، خصبةُ الاحتمالات. في تجربته على التوأميْن المُتطابقيْن جينيًا اللذيْن نشآ في بيئتيْن مختلفتيْن، يخلصُ غالتون إلى أن الجيناتِ ليست وحدَها المسؤولةُ عن كلِّ شيء، وأن الصفات الفطْرية قد لا تصمد أمام التغيرات البيئيةِ المُحيطة. استخلاصاتٌ مهمةٌ لكنها لم تُجِب عن سؤالِنا التأسيسيّ الصّلب: هل للجيناتِ دورٌ في صفاتِنا الخُلُقِيّة (بضمِّ الخاءِ واللّام) مثل الشجاعة والبسالة والإقدام والاستقامة والعفّة والخسّة والغدر والخيانة والدّافعيةِ لارتكابِ الإبادةِ الجماعيةِ وغيرها وغيرها، إضافة إلى مسؤولياتِها الجوهرية في تحديد صفاتِنا الخَلْقيّة (بفتحِ الخاءِ وتسكينِ اللام) مثل الطولِ ولونِ العينينِ والبشَرَة والشَّعر وما إلى ذلك؟
 

الجينُ التائهُ...


في سياق مساعيهم للإجابة عن هذا السؤال المحوريّ، قدم العلماء لرفوفِ علم الجينات في مختلف مكتبات العالم في أربع جهات الكوكب عشرات الدراساتِ المحكّمةِ والأبحاثِ المترافقةِ مع جهدٍ ميدانيٍّ. معظم هذه الدراسات اعتمدت على منهجيةٍ بعينِها؛ يرشّحون جينًا بعينهِ فإذا به يصبح "الجين المرشّح" Candidate approach، وإذا بتقليبِ أحوالهِ واستكْناه حدودِ مسؤولياتهِ يأخذُنا إلى خياراتٍ عديدةٍ تتطلّب من العلماء والباحثين معرفةً سابقةً بكلِّ خصائصِ هذا الجِين، وبِالآليات المرضيّة لأمراضٍ يُعتقَد أن لِهذا الجين علاقةً بها، إضافة إلى ضرورةِ معرفةِ كيفيةِ تأثيرِ هذا الجِين على سلوكياتٍ مشابهةٍ في كائناتٍ أُخرى أقلَّ تعقيدًا. إن حقيقةَ تأثُّرِ الاختلافاتِ الفردية بالجيناتِ تجعل من فلسفة الصفحة البيضاء أكذوبةً كما أسلفنا، وهذا بدوره يعني أنه من المستبعَد أن يكون منهجُ "المزيد من الأسلوب نفسِهِ"؛ هو المنهج السليم للتعامُلِ مع الأطفال الذين يفْشلون في تحصيلِ مجموعةِ المهارات الأساسية عبر الوسائل التقليدية؛ فالطفل الذي لا يتعلَّم بالطريقة الاعتياديّة، يمكن دائمًا، تقريبًا، مساعدته على التعلُّم، لكنْ ربما ينبغي لمدرِّسيه أن يفكِّروا خارج الإطار التقليدي (خارج الصندوق على رأي هَظُولاك)، ويسْتخدموا معارِفَهم وخبراتِهم حول التدريس وحول الطفل نفسه من أجل إيجاد نقاطِ التأثيرِ المناسِبة، وهم كذلك في حاجةٍ إلى دَعْمٍ سياساتيٍّ يُتيح لهم العملَ على هذا النحو، وبحاجةٍ، قبل كل هذا وذاك، إلى البحث عن الجينِ التائهِ بأيِّ وسيلةٍ متاحةٍ (تِكنولوجيا الإقصاءِ الجينيِّ على سبيل المثال)، لتحديدِ علاقةٍ سببيةٍ بين سلوكِ طفلٍ ما وبين جينٍ بعينهِ من جيناتِ شيفرتهِ الوراثية. على كل حال لم يكن العلماء ميّالينَ لفكرةِ مسؤولية جينٍ واحدٍ عن سلوكٍ معيّن، حيث كانوا يميلونَ، قبل طفرةِ الجينِ التائهِ، إلى أن السلوك هو نتيجة تفاعل جيناتٍ متعددةٍ مع عواملَ بيئيةٍ مُختلفة.

يُنبتُ ما تقدّم سؤالًا وجوديًا مؤلمًا: هل يمكن لجينٍ تائهٍ أن يُفقد الإنسانَ الإرادةَ الحرّة؟ هل نحن مجرّد عبيدٍ لِجيناتِنا؟ بقدرٍ واضحٍ من التفاؤل، يجيبُ الكاتب المصري شريف علي عن هذه الأسئلة المسكونةِ بالقلقِ قائلًا "إنّما العلم بالتعلّم، وإنّما الحلم بالتحلّم؛ فالإنسانُ مُميز ولديهِ قدرةٌ فائقةٌ على الإدراكِ والتعلّم، ويستطيع دائمًا أن يحسِّن من سلوكياتِه ويغيّرها، وهذا ما يثبته الواقع"، مقتبسًا من عالِمِ النّفسِ البيولوجيّ الأيرلندي/ الأميركي نيجيل باربير Nigel Barber قوله "إن محاولة فهْم السلوك الإنسانيّ على أنه مجرّد تفاعلاتٍ بيوكيميائيةٍ شيءٌ يدعو للإِحْباط".

دور العائلة في دعم النمو الشخصي والتطور 


 

جيناتُنا وسلوكياتُنا...


بحثان علميّان تطبيقيّان حديثان حسما، تقريبًا، مسألة علاقة الجينات بكثيرٍ من سلوكياتِنا؛ بحث نشرته (بعد أن أنجزته) د. جيسيكا آيرز، الأستاذة في قسم العلوم النفسية في جامعة بويسي بولاية أيداهو بِالولايات المتحدة، في مجلة The Conversation في 24 تموز/ يوليو 2024، وتناول كيفية تأثير الجينات على علم النفس والسلوك البشري، وخاصة من خلال نظرية الصراع الجيني. أما البحث الثاني فغاص عميقًا في سبرِ أغوار "طبقةٍ مخفيةٍ من التعقيد في الطريقة التي تسهم بها الجينات في الاضطرابات النفسية، مثل الفُصام وَالاضطراب ثنائيّ القُطب والاكْتئاب". في الدراسة الثانية التي نشرت في مجلة Genomic Psychiatry، سلّط الباحثون الضوءَ على دور البولي أدينيل البديل alternative polyadenylation (APA) في تغيير جزيئات الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA) في عملية تؤثّر على التعبير الجيني (هل هو الجينُ التائهُ مرّة ثانية؟)، فها هي ميشيل باف، الباحثة الأولى في قسم جراحة الأعصاب التابع لِجامعة كاليفورنيا الأميركية، تؤكّد أن البولي أدينيل البديل يمكن أن يكون "الحلقة المفقودة" (هل قالت الجين التائِه؟) في علم الوراثة النفسية لِجهةِ تنظيمِ عملِ الجينات. إن هذا الخط من البحث، ووضع اليد على تلك الحلقة المفقودة، قد يسرّع، بحسب شيانغ مين شو، أستاذ علم التشريح وعلم الأعصاب بجامعةِ كاليفورنيا، من زمن الحصول على نتائج أفضل للأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية. في هذا السياق، وبحسب البحث الثاني، يغيّر "البولي أدينيل البديل" المنطقةَ غيرَ المترجمةِ من الحمض النووي الريبي المرسال (أي المنطقة التي لا تصلها معلومات من المرسال كافية لإنتاج البروتين)، ما يؤثر على إنتاج البروتين، وتثبيته داخل الخلايا. وقد حددت الدراسة أنماط "البولي أدينيل البديل" في 286 جينًا مرتبطًا بالاضطراباتِ النفسيّة، منها 60 إلى 65 في المائة لم تكن مرتبطة سابقًا بهذه الحالات من خلال آلياتٍ وراثيةٍ أُخرى.




في سياق استشهاد آيرز ومساعديها بما يعزّز فرضية الصراع الجيني، تطرّق البحث الأول إلى متلازمتيّ برادر ويلي وأنجلمان اللتيْن تنْتجان عن غياب جين وظيفيٍّ على الكروموسوم 15، وتبيَّن أنه إذا كان جين الأم نشطًا وجين الأب مفقودًا، فإن ذلك يؤدي إلى متلازمة برادر ويلي المرتبطة بالابتسام والضحك المتكرر والرغبة القوية في التفاعل الاجتماعي، أما إذا كان جين الأب نشطًا وجين الأم غائبًا، فإن ذلك يؤدي إلى متلازمة أنْجلمان المُرتبطة بالقلقِ ونوباتِ الغضبِ والصعوباتِ الاجْتماعية، وبما يشكّل نموذجًا ساطعًا حول تأثير الصراع الجينيّ على السلوك الإنسانيّ. فعلى سبيل المثال يتأثّر الاكتئاب بنحو 200 جين، في حين تلعب العوامل البيئية، مثل ضغوط الحياة أيضًا، دورًا مهمًا. وهذا التعقيد يجعل من الصعب تحديد تأثير أي جين واحد، أو تحديد ما إذا كان قد جاء من الأم أو الأب.
 

مؤثراتٌ غيرُ جينيةٍ...

ليست الجينات وحدها التي تحدد تصاريفَ سلوكياتِنا، حيث في الواقع تلعب عوامل أخرى كثيرة أدوارَها بدرجاتٍ قد ترتفع أو تنخفض بحسب مدى استجابتِنا لها؛ من هذه العوامل والمؤثرات: الأدب الذي يعتمد، بحسب الباحثة اليمنية لطيفة محمد القاضي، على "قوة التحريك، ويستند إلى الإقناع، وهو ما ينقلنا إلى أهمية ثقافة السؤال كمفتاحٍ معرفيٍّ". في هذا السياق ثمّة أعمال خلّدها التاريخ، مثل مؤلّفات الكاتب الروسي ليون تولستوي، على سبيل المثال، التي كانت بمنزلة المرشد للمثل والقيم الإنسانية. في العالم العربي لم نعِ بعدُ دور الأدب في تشكيل الوعي الجمعيّ للأمة، لذا، يجب علينا معرفة أهمية دور الأدب لنستفيد من ثماره ونتجنّب تأثير الهدّام منه على أمّتنا ومجتمعنا. أعمالٌ إبداعيةٌ كثيرةٌ تمثّل نماذجَ ساطعةً لتأثيرِ الأدبِ على وعينِا الجمعيّ، نورد منها على سبيل المثال لا الحصر: "الأخوة كارامازوف" لِفيودور ديستويفسكي، وتمثّل هذه الرواية دراسة عميقة للطبيعة الإنسانية، حيث تتناول قضايا الأخلاق والدين والحرية، ما يؤثر في قيم المجتمع. رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للسّوداني الطيب صالح التي تعكس تجربة التفاعل بين الشرق والغرب، وتأثير الاستعمار في الهوية والثقافة العربية. رواية "الحب في زمن الكوليرا" للكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، حيث تستعرض موضوع الحب والصبر في سياقٍ اجتماعيٍّ وسياسيّ، ما يعكس التغيّرات في الوعي الجمعيّ للثقافات. رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف بأجزائها التي تتناول التحوّلات الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ في العالم العربي، وتأثير النّفط في الهويّة والثّقافة. كتاب "عندما التقيت بيكاسو" لإدوارد سعيد الذي يستعرض  تأثير الفن والأدب في تشكيل الهوية الثقافية، ويعكس كيف يؤثر الفن في الوعي الجمعي،  وأخيرًا وليس آخرًا رواية "ألف شمس ساطعة" لِخالد حسيني، التي  تعكس قضايا المرأة في أفغانستان وتأثير الحروب في المجتمع، ما يسهم في تشكيل الوعي الجمعي حول حقوق الإنسان. الأسرة تتجلى بوصفها مؤثرًا آخرَ ضمن المحددات التي تأخذ قيمنا ذات اليمين أو ذات اليسار؛ إنها المدرسة الأولى للمهارات الحياتية؛ إذ نمارس، يوميًا، داخلها، مهارات التواصل، التفاوض، حلّ الخلافات، التعاون، تحمّل المسؤولية وإدارة الوقت.

الأسرة والتربية والتعليم عوامل حاسمة في توجيه قيم الطفولة 


وهي، إلى ذلك، حاضنة الإبداع والمواهب وسط بيئة تقدّر الفضول، وتسمح بالخطأ، وتشجّع على التجريب، ما يساهم، بشكلٍ كبير، في اكتشاف المواهب والقدرات الفريدة وتنميتِها وتعزيزِها. إنها (الأسرة) ركيزةٌ للاستقرارِ والتقدّم، خطّ الدفاع الأوّل ضدّ الانْحراف، وفي أحضانها تُنسج خيوط الثقة والتعاون المجتمعيّ، كما تجري عملياتُ إعدادِ مواطنينَ فاعلينَ وُمساهمين، ما يجعلنا نقولَها بالفمِ الملآنِ والصوتِ العالي: إن الاستثمارَ في الأُسرةِ هو استثمارٌ في المستقبل.
في سياقٍ متصلٍ يصعب النظر إلى التربية بوصفها قيمةً غيرَ مرتبطةٍ بالأسرةِ من جهة، والمدرسةِ من جهةٍ ثانية، وممّا لا شك فيه أن التربية تعدُّ مؤثرًا أساسيًّا في سياقِ تشكيلِ شخصيةِ الفردِ وبنائهِ منظومَته القيميةِ والأخلاقيةِ وتحديدِ مواقفهِ السياسيّة والاستراتيجيّة والتحالفيّة. على كل حال تعزّز التربيةُ البيتيةُ روحَ تحمّل المسؤولياتِ وعدالةَ توزِيعها، كما توجّه نحوَ التمسّكِ بِالتقاليدِ الاجتماعيةِ والثّقافية، في حين تعمل التربيةُ المدرسيةُ على تطويرِ مهاراتِ التعاونِ والتّواصل والقِيادة، وعلى تشجيعِ الابتكارِ والإبٍداع، إضافةً إلى أنهّا، المفْروض، أن تساعد النشءَ الصاعدَ على اكتشافِ اهتماماتِهم وقدراتِهم وتقديمِ المشورةِ المهنيةِ لهم.

في رحلتِنا لفهمِ أنفسِنا والعالمِ من حولِنا، غالبًا ما نصطدمُ بسؤالٍ محوريّ: إلى أي مدى نحنُ أحرارٌ حقًا في اختياراتِنا وأفعالِنا؟ تسعى نظريات علم الاجتماع لتقديم إجابات، ومن بين أكثرِها إثارةً للجدلِ تأتي "نظرية الحتمية الاجتماعية" Social Determinism، التي لا تكتفي بالقول إن المجتمعَ يؤثّر فينا، بل تذهب أبعدَ من ذلك، طارحةً فكرةً جريئةً مفادُها أن سلوكَنا وتوجهاتِنا قد تكون مُحددةً بشكلٍ كبير، وربما كلّيٍّ، بِقوى اجتماعيةٍ وثقافيةٍ واقتصاديةٍ وتاريخيةٍ تعمل كـ"خيوطٍ خفيّةٍ" توجّه مساراتِنا، وتجعل "الإِرادةَ الحرّة" مجرّدَ وهمٍ في مواجهةَ سطْوة المجتمع. إننا، على الأغلب، محكومون بـ"قهر الوقائع الاجتماعية" بحسب توصيف عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917)، أو بسطوةِ رأس المال وجبروت الاقتصاد بحسب ما يذهب إليه الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818-1883) صاحب الجزء الأول من كتاب "رأس المال" (أكْملَهُ وفق الرؤية نفسها صديقه الألمانيّ الآخر فردريك إنجلز (1820-1895)).

 

الإرثُ والخَيارات...


بما أن المقصودَ التجريديّ بالإرثِ هو ما يورثهُ الآباءُ للأبناءِ، فإن ممّا يقعُ في دائرةِ هذا التّوريث ما يسكبهُ الوالدانِ في خلايا أبنائِهم من صفاتٍ وراثيةٍ تنْقلها جيناتُ المورِّثين إلى جيناتِ المورَّثين. الجديد في سياقِ الإرْث، ما خلُصت إليه مجموعةٌ من الدراساتِ المحكّمة والأبحاثِ التطبيقيّة، ومفادُه أن بعضَ تجاربِ الحياةِ تترك "علامات" توضعُ على الجيناتِ مسببةً ظهورَ تغيّرات على الشّيفرة الوراثيّة، وبما بات يُعرف بالتغيرات "فوق الجينية" epigenetic التي تورّث في الأجيال اللاحقة، تحت مسمى علم "ما فوق الجينات" الذي يمْكنه الكشفَ عن التّشابك بين البيئةِ والجِينات. في هذا السياقِ لاحظ علماءٌ أجروا دراسةً في عام 2014، ونشروها في مجلة Nature neuroscience، أن الفئران التي أُجريت عليها تجارب الدراسة، ورثت التغيرات فوق الجينية التي طرأت على آبائها؛ إذ تحب الفئران رائحة الكرز، فعندما تشمّ الفئران هذه الرائحة تبدأ في الحركة والبحث عن الطعام. وقد استغل العلماء حب الفئران لهذه الرائحة وحاولوا ربطها بإِحداث صدمةٍ كهربائيةٍ خفيفة، ما أدّى إلى تجمّد الفئران خوفًا في مكانِها بمجرّد أن تشمَّ رائحةَ الكرزِ توقعًا منها بارتباطِ الرائحة بالصدمةِ الكهربائية. الغريبُ في الأمرِ، والمفارقةُ العجيبة، أن العلماءَ لاحظوا انتقالَ هذه الذاكرةِ الجديدةِ عبْرَ الأجْيال. إذْ خافت أحفادُ هذه الفئران من رائحة الكرز، رغم عدم تعرضها لأي صدمة كهربائية! عن أي إرث نحن نتحدّث هنا؟ وما هي الخيارات المتاحة أمام الأجيال في مواجهة ما وَرِثوه من قيمٍ تخصّ مجتمعاتِهم؟ وإلى أي قدْرٍ تلعبُ الإرادةُ الحرّةُ لِتلك الأجيال في التغلّب على عامليْن حاسميْن فيما يتعلّق بِرسم ملامح شخصياتِهم وسلوكياتِهم وأعرافِ أخلاقياتِهم: البيئةُ من جهةٍ والجيناتُ من جهةٍ ثانية؟ فعلى سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات القديمة، أن معدّل وفيّات أبناءِ سجناءِ الحرب الأهلية الأميركية كان أعلى بنسبة 11% بمجرد بلوغِهم منتصفَ الأربعينياتِ من العُمْر! فأيِّ إرادةٍ حرّةٍ هُنا يمكنُها أن تقفَ بوجهِ المطلقِ الأكبر: الموت؟ إلا أنه، ورغم كلّ هذا وذاك، فلا يكفي أنْ نعلقَ الأمرَ على الدماغِ الذي ولدْنا به، وعلى الحمضِ النوويّ الذي ورثْناه من آبائِنا، وعلى الذكرياتِ التي انتقلت إليْنا من الأجداد، فما يزال المجال واسعًا للتغييرِ الذي يأتي بالتعلّم بناء على رغبات إراداتِنا الحرّة المتخلّصة من كلِّ إرْث، المنفتحةِ على مختلفِ الخيارات، المسكونةِ بنازعيةِ نُشدان الأفضلِ والأعلى والأبْقى والأرْقى.
إن قدرةَ الجيناتِ على التوفيقِ بين مصالِحها التنافسيةِ يمكن أن تكونَ لها تبْعات على نموِّ الجنين وتطوّره، وبالتالي على ما تنتهي إليه شخصياتُنا سلبًا أو إيجابًا، إقبالًا أو إحجامًا، وبمحاولةِ الوصولِ إلى أعلى درجات التحكّم بقراراتِنا وسلوكياتِنا، بعيدًا عن قدريّة جيناتِنا، وقهريّة بيئاتِنا، وخضوعِنا لصراعِ مليارات النيوكليوتيدات (3.2 مليار وحدة) مُتناهيةِ (نانويّة) الصِّغر المزْروعةِ داخلَ أجسادِنا منذ بداياتِ تشكّلنا داخلَ أجنّة أمّهاتِنا. أسئلة كبرى تواجه شبابَنا العربيّ وهُم يواجهونَ طغاتِهم الرابضينَ كاللعنةِ فوق صدورِهم، ويصارعونَ غُزاتَهم المجبولينَ بالخسّةِ والكَراهية.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.