}

"سيرياذا" شعرية (3- 3): كلما أخطأ الصياد طائراً..

هنا/الآن "سيرياذا" شعرية (3- 3): كلما أخطأ الصياد طائراً..
لوحة للفنان السوري نهاد ترك

يدين نحت عنوان هذا الملف، "السيرياذا"، إلى لقاءات سورية جرت في مدينة فيتربو الإيطالية لتدارس الكارثة السورية ضمت عدداً من النشطاء الحقوقيين والمدنيين والمثقفين السوريين في الداخل والخارج. واضح أنه نحت مكوّن من سفر هوميروس "الإلياذة" وسورية باعتبارها موضع اشتغال الصراع الذي تشير إليه ملحمة شاعر اليونان الكبير. قد لا تتشابه أحداث الملحمة اليونانية مع ما يجري في سورية غير أن هذا لا يقلل من "ملحمية" الكارثة السورية التي نشأ سببها البسيط – المركب في آن، في محاولة قطاع واسع من الشعب السوري الالتحاق بركب "الربيع العربي"، كما لاح حتى تلك اللحظة، لكنَّ المحاولة المتسلحة بأقصى درجات السلمية، والملحَّة على بعدها السوري، قوبلت بأمواج من النيران التي فتحتها القوى الأمنية للنظام السوري على الذين كانوا يتظاهرون طلباً للتغيير.

لا مجال هنا لسرد فصول تلك الملحمة، التي قد تحيل، في الحالة السورية، إلى اللحم والدم الصرفين المهرقين على الملأ، فلهذا مقام مختلف. للملحمة، هنا، وجه آخر: إنه الشعر الذي لطالما ارتبط بالملاحم (الأدبية) بل كان عمادها. الشعر الذي يحسُّ، بأدوات استشعاره الخاصة، بالكارثة، أحياناً، قبل وقوعها. لم تعرف سوريا الأسد (الأب والابن) حريات تعبير أدبية ما كان يجعل الشعر، وبضعة أشكال فنية أخرى، يلتمس طرقاً جانبية للتعبير..الآن وبعدما وقعت الواقعة وحصل ما يعرفه الجميع، نحاول، في هذا الملف الأكبر من نوعه، الوقوف على الوجه الشعري لملحمة القتل والدمار والاعتقال والتهجير واسع النطاق الذي تعرضت له قطاعات واسعة، ومتعددة، من الشعب السوري. ما واقع هذا الشعر؟ كيف يفكر بما يجري؟ أي رؤى تسكنه؟
بعد عدد من شهادات شاعرات وشعراء "الشتات" السوري، هنا قوس واسعة من القصائد.


أ . ن


وصية ناقصة:
أمير الحسين
(كردستان العراق)



وحينما يَدْهَمُني الموتُ 
هنا.. 
هناك..
لا تختلفوا، يا ناسُ، في شؤون دفني وارفعوا السّماءَ رايةً 
على التابوتِ..
وامضوا بي 
إلى 
حيث
خفيضةً تحومُ الطيرُ.

إنْ لم تجدوا لي 
جثةً أو بعضَها 
لا تحملوا التابوتَ، باسمي، فارغاً
لا..
ربما أكون قد حَلَلْتُ في 
فراشةٍ 
دُعْسُوقةٍ
رَيْحانةٍ..
أجَلْ..
ولا تختلفوا حول 
قصيدةٍ
كتبتُها بقلبٍ نازفٍ
محاصَراً بالحُبّ
أو بالحربِ..
أو كتبتُها 
مُسَرْنِماً كالنّهْرِ.

لا تختلفوا في بَذْرتي؛
كَمْءٌ أنا
لا جَذْرَ
لا بَذْرةَ
..
هكذا، معافىً، هكذا
مِن لعنةِ الذكرى
ومن طَيْشِ السُّلالهْ.

 

 

2- نمحو سحابةً.. فتنمحي نجومٌ:

ماتوا 
يذودون عن البوّابة الزرقاءِ، حيث
كلُّ غيمةٍ كما لو أنها سفينةٌ خرقاءُ.. كم نصدّقُ الريحَ التي تَخْرقُها!.

ماتوا.. ولم أكن هناك
كنتُ، كالعادة، أَرتِقُ الورودَ
هكذا 
أُعِدُّ للفَراش، للنَّحْل... 
احتفالاً عابراً.

ألبيتُ قد ينهارُ 
إثر شرفةٍ مريضةٍ.
هذا الغيابُ بَرَدٌ، ونحن 
لا نملكُ إلا أن نعيدَ للحديقة اسمَها.

شوكٌ كثيفٌ حولنا
نخطو؛ 
يغورُ..
نحتفي رقصاً؛ 
يغورُ
ثم نستلقي؛ 
يغورُ.. 
يجرحُ الحُلْمَ.

شبابيكُ هي الجراحُ
لا نحبّها مغلقةً؛
نخاف أن يختنق الذين في القلب –
الذين يحرقون الحقلَ. 
كم نحبُّهم.

نمضي..
ننزّهُ الدمَ الشقيَّ والليليَّ 
ندري أنّ للضوء يداً تغتالُ.
نمضي..
والغبارُ، مثلَ جِرْوٍ، يتشمّمُ الحنينَ متلبِّساً بنا.
نمحو سحابةً
فتنمحي نجومٌ!
كلّما قلنا: وجدنا كَمْأةً في الأرض/
لا تكون إلا وَرَماً..!
كأنّ كلَّ زهرةٍ كفّارةُ المكان عن ذنوبه البيضاءِ.

هكذا.. 
ونمضي مطمئنّين على الأحلامِ
واثقين، كالعادة، من جمالنا المُعْدي
ومن حَدْسِ الفراشةِ التي تلمعُ في حدقةِ القلبِ الكفيفِ.

عاشوا
يذودون عن البوّابة الزرقاء، حيث
كلّما الصيّادُ قد أخطأَ طائراً
أصابَ الغصنَ.. أو 
وُرَيقةً أخرى، تؤدّي 
في حنينٍ ماطرٍ 
معزوفةً من الحفيفِ.





سبعة حلول براغماتية للوجود:

حسام جيفي 
(أميركا)




1

تزوَّجْ أوروبيّة

واحصل على جواز سفر

تعود يوماً به

إلى

 بيتكَ.

غيّر اسمك إلى "ديريك" أو "ياماتو"

بدّلْ لون بشرتكَ

على طريقة مايكل جاكسون

احجز موعداً عند جرّاح التجميل

عدّل لكنَتَك في جلسات علاج النطق

مؤكداً، سيعطونك موعداً

في السفارة الأميركية.


2

عليكَ بها

تلوّحُ بيدها

 كأنها تهمّ بمسّ خدّك

كرتون بحجم بشري

لعارضة أزياء متوسطة الجمال

إصنعها بيديك

أو اسرقها من واجهة محل مزدحم

بأية حال،

المهم

أن تُخْلي لها كرسياً

على الطاولة  المزينة بمفرش بلاستيكي

 مزهّر

حيث تقضي عشاءاتك.

 

3

ستحتاج الكثير منها

في لياليك الباردة

ناعمة أو خشنة

معطّرة أو بلا عطر

بيضاء، زرقاء

لا يهم

أيُّ نوع من المحارم الورقية

يَفي بالغرض.

 

4

علبة

من دبابيس

بحجم مناسب يضمن

سيلاً لذيذاً من الألم.

تستبدل سجائرك بها

تضعها في جيب القميص

إلى جانب روشتة الطبيب

في متناول اليد

تشكُّ نفسك بها

ثلاث مرات يومياً

قبل الطعام.

5

ضع أحلامَكَ في

الزاوية القبلية

 للذاكرة

كنبة عريضة من المخمل البنفسجي

ترقد ببلادة تحت الضوء

تجمَعُ غبارَ الوقت

ووَبْرَ القطط المَسْئُومة.

 

6

استأجرْ بما تبقى معك من النقود

عازفة تشيللو

ودعها تمشي وراءك

تعزف الخلفية الموسيقية لحياتك

المنتفخة.

7

اضربْ بعصاك ذلك الميت

انكش الجثة

مارس عليها الانعاش القلبي-الرئوي

احجز لها غرفة في فندق

وراقبها تمارس الحبَّ مع غريب

رتّبْ لها مكاناً في حقلكَ الممتد

ستكونُ فزاعةً جيدة

جثةُ الوجود السمينة هذه.

 

 ماريونيت

منذ فترة

عند الرابعة إلا خمس دقائق

في منزله المنعزل بين

أشجار الغابة

قضى الشعر.

لم يكتشف أحد موته

 إلا بعد أيام

نبّه نباح الكلاب الفزعة

جيرانه المشغولين بتفاصيل حيواتهم

واروه الثرى على عجل

لم تكتب عن موته الصحف

لم نر أوراق نعوة.

هكذا مات الشعر

لنعيش فقدانه ككل فقدان آخر

لا نكتبه إلا كمن يتعلّم

لغة ميتة

كهواية

أو كي نشعِرَ أمَّهاتنا بالفخر

ننتظر ظهور شبحه

بنكران من يؤمن

بتقمّص الأرواح

نشحذ أدواته

كمن يتحضّر لصدام حضارات

أو مصارعات نووية

نربّي كافاته

في حظائر عقلنا

كلّ شبر بنذر

نسبّح بمحاسنه في خلواتنا

نعرضه على الساهين من الأصدقاء

نرقّص عروس جيفته

على مسرح الدمى

الخالي

من الجميع

إلا من جثة

ماريونيت ميتة

وأعين الشاخصين نحوها

الصامتين.







الرمادي:

حسن إبراهيم الحسن
(ألمانيا)

 

كانَ الرماديّونَ جدّاً- مثل أخشابِ الصليبِ-

يحدِّقونَ

وكانَ ينزفُ.

أنتَ..

أخمصَ بندقيَّةِ قاتلٍ ستكونُ..

أم عكَّازَ طفلٍ أيّها الشجرُ الحياديُّ الجبانُ ؟!

إلى متى..

ستمدُّ غصناً كي تحطَّ حمامةٌ،

وتمدُّ غصناً كي يلوذَ وراءهُ الصيادُ؟

كُنْ ما شئتَ،

لكنْ..

لا تقفْ في المنتصفْ

بينَ الرصاصةِ والهدفْ

 

حرفان

 

لا شيءَ يوجعني سوى أمرينْ؛

 

  • أنَّ ابنتي ..

لم تبلغِ الكلماتِ بعدُ ،

ولم تقُلْ: ( بابا)

ولكن ..

من هديرِ الطائراتِ تعلَّمتْ حرفين:

ترنو إلى الأعلى كجروٍ خائفٍ ،

وتقولُ: ( بُوووووو )

 أيضاً وتوجعني الطوائِفُ

حينَ تصنعُ من ترابٍ واحدٍ ضدَّينْ

 

الأربعون

 

أتأملُ الريحَ /

السحابَ /

الماءَ ..

أهذي: من ترى الأقوى

الحديدُ هو انعكاسُ صلابةِ الأشياءِ والأقوى

ولكنْ قد تذيبُ النارُ قسوتَهُ

إذاً فالنارُ أقوى /

الماءُ يطفئها

إذاً فالماءُ أقوى /

الماء يحملهُ الغمامُ الهشُّ ؛

الغيمُ أقوى

الغيم تدفعهُ الرياحُ ؛

الريحُ أقوى /

الريح توقفها الجبالُ ...

إذاً عليَّ الآنَ أنْ أتأملَ القممَ التي ترنو إلى الوادي ،

وتنسى وَهْيَ تنظرُ من علٍ

إنَّ الجبالَ من الحصى

 

الفأس

 

الفأسُ ..

ضدَّان؛

  • الذراعُ حفيدةُ الشجرِ العدوِّ،
  • ومعدِنٌ صدئُ الأظافرِ

 

ربَّما ..

لو كانَ للحدادِ عينا شاعرٍ

لرأى الحديدَ سريرَ طفلٍ

أو إناءً كي يصبَّ الماءَ للشجرِ العجوزِ،

وربَّما ..

لو كانَ للحطَّابِ ذاكرةُ المخاضِ

وصبرُ تسعةِ أشهرٍ ..

لأعادَ للطينِ الذراعَ – الغصنَ وانتظرَ الربيعَ

لكي يلقِّنهُ الوصايا حينَ تبزغُ أولُ الأوراقِ:

(كنْ شجراً وفيّاً للسلالةِ ..)

غيرَ أنَّ الفأسَ صارت فكرةً ؛

المعدنُ الصدئُ الأظافرِ صارَ سفَّاحَ البلادِ

ذراعهُ صارت أخي

وسلالة الأشجارِ نحنُ

 



صور داكنة:

عبود سمعو
(لبنان)

 

في الحرب

يصبح الأطفالُ دسماً للقصائد

فناجين من الشايِّ المخمّرِ للصقيعِ المرِّ

شمّاعةً لحزامِ بندقيةٍ

في استراحة القاتلِ

أو كما تشاء

سمِّهِ المقاتلَ

في الحرب

يصبح العشقُ ترفاً

لكنّني أُحبُّكِ

رغمَ أنفِ الحربِ

رغمَ الزهد

في الحرب

ينشغلُ الإله في ضبطِ ساعتهِ

في تنظيم جداول الشهداءِ

والأمّهاتُ الأمّهاتُ

يُفرغْنَ من أثدائهنَّ

صُررَ الريحانِ فوق القبر

في الحربِ

المدينة تلو المدينة

تلتقط صورةً أخيرةً مع أنفاسها

ترفع عنقها إلى الأعلى

هكذا... ثمَّ ترتطم جثتها

على الرصيفِ المقابلِ

لمقهى "جحا"

بائعُ الطوابعِ على طاولةٍ بــ50 سنتيمتراً

على ارتفاعٍ شاهقٍ رأيته يدخّن الحمراء القديمة

يجادل الزبون على 30 ليرة

في سعر الرصاصةِ

ثمّ يتفقان بأن يهدي إليه

مزيلاً للصدأ

في الحربِ

الشاخصاتُ المرورية الزرقاء

تمارس العادة السرّية

تنكمش على نفسها

بعد محاولتها اليائسة

في الوصول إلى اخضرار الشبق

في الحرب

ابن عمّي يشتري لحبيبته شالاً رمادياً

وقارورة عطرٍ نسائي

غلافها أبيض مرسوم عليه برج إيفل

يقول لصاحب المحل بصوتٍ مرتفع:

"أعطني كيساً أسود غامقاً"

في الحرب

يغادر الشعراء قصائدهم المموسقة

أندريه بروتون يدغدغ نهد القذيفةِ

التي لم تنفجر

الإيقاع في الحربِ مختلفٌ

صفير الطائرات حين يدنو

يرتبك المكان... يفرّ المكان

الإيقاع أن تسقط القذيفةَ

ألّا تغلق أُذنيكَ الحافيتين

ألّا تموت.


رصاصة القنّاص صارت وحيدة

أخيرًا..

عادوا إلى البيت

دخلوه بحذر

في كلّ مسامة في وجههم عين مفتوحة

الشقوق في كعوب أقدامهم

مملوءة بالتراب والذهول الكثيفين

تفحّصوا الأبواب

والجدران

والأشجار اليابسة

كان البيت هادئًا كبريّةٍ

شهيًا كالعودة..

رغم انقطاع الكهرباء

يتذكر الطفل

أنّ زجاجة ماء

تركوها في البراد قبل ثمانية وستين يومًا

حين فتحوه

انفجر بهما

الأب وطفله جثّتان باردتان

من وقتها

ما تبقّى من العائلة يعلّقون طعامهم في الهواء

وقلوبهم أيضًا

بعد أعوام

عندما تكبر الطفلة

سيأخذها خطيبها لتختار أثاث بيتهما

ستقف أمام البراد مليًا

تمامًا في أعلى الزاوية اليمنى

ستجد ابتسامتين مثلّجتين

وتبكي

 

2

 

الرجال كبار السن

لا نسميهم عجائز

الرجال كبار السن

لا ينزحون من بيوتهم

يظلّون يحرسون ذكرياتهم

أو يموتون دونها

رصاصة القنّاص

التي استقرت في فخذ جارنا

وظل ينزف طويلًا

كانت تسلّي بؤسه

رصاصة القنّاص

الآن وحيدة.

 

3 

عندما تنتهي الحرب في منبج

أول ما سيفعله الناس هناك

سيقطفون الريحان والآس

ويذهبون به إلى الحدائق

 

 طيور مذعورة في حلب

 

فيما مضى..

كنّا نرتّبُ السماء للعصافير

كي لا تتعثّر بشهوةِ الغيمِ

فتهوي

فيما مضى..

اعتدنا أن نزيل الحديد العالق

على أصابع اليدِ

هذا الذي تراه

الصدأ المائل إلى الرمادي

الأسْود المزدحم

وبر القذيفة

القذيفة التي سقطت

ولم تنفجر

لكنّها انفجرتْ

فيما بعد

فيما مضى..

كانت الشبابيك المطليّة بلون الخبز

تغري طيور الدلم

فتنبتُ أجنحتها

على الستائر

فيما بعد

ما تبّقى من طيور الدلم المذعورة

تدور حول نفسها الآن

في حلب

تخمش بمنقارها

أطر الشبابيك على الرصيف

تفتّش في كمّ القميص

عن الذراع التي أطعمتها

تفتشّ في ذراع الشهيد

عن سماء

غير تلك السماء.

 



قصيدتان:

وداد نبي
(ألمانيا)

 

-1-

لو كانَ لي قلبُ حديقة
لمددتُ جذور أشجار الزان في هذه المدينة
نحو أشجار الزيتون في حديقة بيتنا بريف كوباني
لأسقيتُها ماء قلبي 
لارتبطتُ بشجرة البرتقال المجاورة لنافذتي في حلب
وحدّثتها عن بلادٍ لا يقتل ناسها بعضاً
عن بلادٍ لا يموت أطفالها تحت الأنقاض
عن بلادٍ يكبرُ ناسها ويشيخون 
يبيضُ شعرهم برفقة من يحبون 
ويدفنون في مقابرٍ لائقة 



لو كانَ لي قلبُ حديقة
لتركتُ زهرة خبّازي قرمزيّة
تنمو تحت حذاء جنديٍّ يصوّبُ 
رصاصهُ لقلبِ طفلٍ 
لدفعتهُ لرؤية الجمال الذي ينمو على الأرض
لربّما انحنى مرّةً لمشاهدة الجمال تحت قدميهِ
ونسي كيف يتم إطلاق النار على الأحياء

 

-2-

لو كنتَ عاشقاً

لتمنيتَ أن تكون غباراً على جرسِ منزل حبيبتكَ

المنزل الذي تسكنهُ الحرب

لو كنتَ عاشقاً

لرغبتَ أن تكون القطة الميتة

قربَ رأس حبيبتكَ في الصورة القديمة

لتمنيتَ أن تكونَ الكتاب الذي تقرؤهُ في القطار

لحلمتَ أن تتحول للجروحِ المتقيحة

على يدي عجوزٍ في رواية " هيرتا موللر "

فقط لتقرأكَ مرة وتسقطَ دمعتها عليكَ

لو كنتَ عاشقاً

لحاربتَ لتكونَ شاهدة قبر حبيبتكَ في المنفى

لا لشيء ..

إنما لتستيقظ قبل الحنين وتهمسَ.. أحبكِ

لبقايا عظامها اللاجئة

كما لو كنتَ بلادها البعيدة.





لم يَعُدْ لدينا وقت:

عمر يوسف سليمان
(فرنسا)

 

سأعترفُ بما تريدْ

قاتلُ أفكارٍ

عميلٌ للشيطانِ أو لله

مهرِّبُ غيمٍ منَ المتوسطِ إلى سرةِ حبيبتيْ

اخترِ التهمةَ فلم يعُدْ لدينا وقتْ

من النافذة

هل ترى عيونَ الجنودِ القادحةَ بالألعابِ النارية؟

والدُّخانَ الذي يرسمُ كؤوساً في السماء؟

كلُّ ذلكَ ينتظرُنا

لم يعُدْ لدينا وقت

عبِّئ رأسيْ ببضعِ رصاصاتٍ فقط

فالبارودُ سيلزمنا لنصنعَ الخبزْ

ولن نختلفَ على من يموتُ أوَّلاً

المهم أن نشربَ الشايَ قبلَ أن تبردَ جثتانا.

ربما تجدينني

ما رأيُكِ أن أخطفَ المدينةَ اليومَ؟

سأخبِّئَهَا في أنفاسِنَا

هكذا لن يعثرَ علينا أحدْ

سأقرأ طالعَ شهوتنا

في نجومِ كفِّكِ المرتجفة

وأنزعُ معجمَ العواصفِ من رأسيْ

كي تترجمينيْ إلى نهرٍ خالدٍ بدَمِكْ

ما رأيكِ أن نصبحَ تلكَ الطيورَ المهاجرةَ في اللوحة؟

نلعبُ الغميضةَ في غابةِ الجسَدْ

ربما تجديننيْ مرةً واحدةً

إلى الأبدْ.

  

 كلما جُرِحَ المساءْ

 

لم أعد أعرفُ إن بقيتْ لنا حكايةٌ في المرايا

أو طفلٌ أخيرْ

لنا حبرٌ أبيضُ في الشرايينِ

نعرفُهُ لأننا نجهله

كلما نزفنا يولدُ صدىً مجهولٌ

في رائحةِ ليلِ آذارَ

بينَ البارودِ والدموعْ

حينَ أكبرُ سوفَ أصيرُ نجمةً

يقولُ ثقبُ الرصاصةِ في الجسَدْ

يكفيْ أن منفياً يناديْ أخوتَه

كلما جُرِحَ المساءُ

لا تفتحوا مسودَّاتيْ

ولا تسهروا مع الغيمِ

حتى أعودْ.

 




قلعةٌ خارجَ السوْر:

لينة عطفة
(ألمانيا)

 

( إلى سلميّة )

لن أخاطبكِ بعد اليوم..

أنتِ التي جعلتِ قلبي مثل خيام البدو لايكسره الترحّل ولا الحنين..

لا هواء يقودني إلى رائحتك..

والذكريات التي نثرتها كفتات الخبز لأجد طريقاً إلى يبابك

لفظت فتنتها الأخيرة واستحالت رماداً..

أيتها الجاحدة التي تستدرّ عقوقنا!

هل رأيتِ غلاصمنا المتيبّسة ونحن نسبح في جسدٍ غير جسدك؟

هل شعرتِ بأظافرنا الهشّة المغروسة بعظامك؟

هل سمعتِ نحيبنا ونحن نتوسّد العواصف لنحلم بكِ؟

أكتب لأثأر منكِ

وأعود من ثأري قتيلةً وقد تنازعتني الآفاق حدّ العدم..

الموت يقول أنكِ الجنة

وحين أرفع أستاره أراكِ كما أنتِ

شاحبةً كالمقامرين.. توزّعيننا كأوراق اللعب وتتثاءبين

تقاسمين العواصم أسرارها

قلعةٌ خارج السور

أمراؤك المجانين المبدّدون في طرقاتك

بملابسهم الموشّاة بالرّقع وأصواتهم التي تهزم اللغة والكتابة

شعراؤكِ يتقلّدون حزنكِ وبشجاعة اليائس يكتبون...

منذ استبدلتِ كرمتك العالية بشتلات القطن

وأنتِ تتمرغين بالعطش

تعقدين هدنة مع الصحراء فتكون المحاصيل شكلاً من الرمل

يهذي بنا الجوع

نلتوي على اللغة ونعضّ الكلام

خيبتنا خيبة قرمطيّة

وبكاؤنا بكاءٌ فاطميّ..

نسمع الربابة فنمتدح عائلة الكمان

نشرب العرق البلديّ فنمتدح سلالات النبيذ

وحين تخوننا النهايات نلوذ إليكِ

نتلمّس عزلتنا التي غزلتِها بنَول الصدى

نرتّب الحيَل، نُجهد خيالنا لنراكِ خارج أقداركِ

خيبةُ المطر

خيبةُ الأرض

خيبةُ الأنثى التي تلعق مدائحها النازفة...

لا تذكّرنا الأمكنة بكِ، ولا الورد

ولا ما يُذكّر الناس بأوطانهم

نذكركِ إذ تُطيح نظرة بقلوبنا..

إذ يخرّب عازفٌ بنشازه سرب الأغنية

هاشلون على حواف المدن

مذ شردتنا وانتصبتِ بأسمائنا كشاهدة قبر

جيوب نواطيركِ تزرب ذئاباً

وأنت عزلاء إلا من صدفة خلاص قد لا تأتي..

يشرعون بوّاباتك للمذبحة

كي يُشهروا انتصارهم لكِ

لا تغفري لهم

وأنت ترتُقين لحمكِ المتهتّك

لا تغفري لهم...

ثمّة رعيانٌ زرعوا لهباً في جوف شجرة البطم

وجبالُ (البلعاس وشاعر) تهذي بالنار

حزنكِ لا يَشِي بالفجيعة

والمشيئةُ أعجز من أن تُخلّ الرهانات

تهرقين المراثي لأنهارٍ لم تحظي بها..

تهرقين الأخيلة والحبر والهواجس..

أيّ مدينةٍ أرأفُ بالشّعر منك؟!

أيّ مدينة تتخثّر عتباً؟!

والعتب إذا تخثّر صار أغنية

والأغنية إذا تخثّرت صارت حكاية

والحكاية إذا تخثّرت صارت أنتِ

أكتب وأكتب لأجد اسمكِ

اسمكِ الهارب من القصيدة..

 2- على هامشِ النجاة:

 

يجيئون برّاً وبحراً وجوّاً

يفرّون بين العواصم  .. بين الحدود

كأن الخرائطَ وهمٌ وحصَّتَهم في الحياةِ هروبٌ

كأنّ البلادَ عيونٌ من العتمِ تزفِرهم في الضّبابِ

لقد كنتُ أحفظُ حارتنا مثل كفِّ يدي

والشوارعَ صوبَ بناءِ السرايا

وأعرفُ تاريخَ كلّ العوائلِ، أعرفُ كلّ العجائز

كلّ البنات اللّواتي تعثّرن بالحبِّ في شارعِ الستّ زينبَ

أعرف كلّ الدّكاكينِ.. كلّ رصيفٍ يشاكسهُ العشبُ

أعرف أعرف أعرف

حتّى تهيّأ لي أنّني معجمٌ لمكاني

وإذْ قيلَ لي: يا فتاةُ الكلامُ حرامٌ

بكيتُ إلى لغتي: دثّريني!

اختبأتُ وأغلقتُ اسمي عليَّ

أنا نقطةُ النّونِ

روحي مرايا الخيامِ .. من الظلِّ تحتَ الشجرْ

وحتّى الشتاتِ..

رأيت ملائكةً نائمينَ.. شبابيكَ مشرعةً

وستائرَ تأخذنا صوبَ ما يشتهيهِ الخيالُ

بلادٌ من الشِّعرِ مأخوذةٌ بالخيامِ وبالرملِ

رعبٌ يسوسُ الجياعَ ليعتصموا بالقبيلةِ

كنّا شمالَ الرمالِ ممالكَ مفتوحةَ للجيوشِ

ولكنّنا لم نكنْ عابئينَ بإرثِ الألوهةِ

لم نكترثْ للزمانِ المخاتلِ

لم ننتبه للخلودِ الذي نامَ قربَ أساطيرنا..

وارتحلنا بأقدارنا هاشلينَ

لأبعدَ من أن يكون الحنينُ قرينَ المسافرِ

ودّعتُ كلّ الذينَ أحبُّ وعانقتُ روحَ المكانِ لآخرِ مرّة

غمرتُ عيونَ رفاقي وأهلي.. وإطلالة البيتِ

رتّبتُ للقلبِ أشياءَهُ:

خطُّ جدّي بديوانِ شعرِ أبي الطيّبِ المتنبّي

كظلِّ النبوءةِ

مكتبتي في الجدارِ وأشجارُ باحتنا

بابنا والممرُّ إلى درجِ البيتِ

طقسُ المؤونةِ والكعكِ في العيدِ

خزّانُ ماءٍ على السّطحِ

رتّبتُ أشياءَ قلبي

وما طاوعتني الكتابةُ

ما عانقت لغتي رغبتي

ذكرياتي البعيداتُ مِلنَ على حاضري

فترنّحَ ثمَّ انحنى..

وذاكرتي لا تنامُ ولا تتركُ النومَ لي!

أيمتلكُ الهاربونَ وداعاً؟!

مضى نصفُ عامٍ وعامٌ على رحلتي

لم أحسَّ بأنّي أنا في الوداعِ

توزّعتُ حولَ المكانِ وفيهِ أراقبُ طقسَ الرّحيلِ

 ومرَّ الوداعُ كحادثِ سيرٍ

أنا حفنةٌ من ضبابٍ..

أراقبُ كيفَ يمرُّ بيَ الموتُ

يلمسُ وجهي ويمضي..

فأنظرُ حولي بعينينِ مذعورتينِ

أرى جُثثَ النّاسِ منفيَّةً في الهواءِ معلّقةً

في صدى الكلماتِ التي حاصروني بها..

الطّريقُ هوَ المشيُ

كنّا نظنُّ المياهَ طريقاً ولكنّها عدمٌ

واختبارٌ لما جفَّ من حظِّنا / هل سنطفو؟!

رمى البحرُ وهماً.. نؤوِّلُ أحلامنا حولهُ

فتَبِعنا المكيدةَ حتّى نهاياتها

لم نكن أنبياءً ولا آلهةْ

ولا سمكاً، فغرقنا!

ألا أيّها البحرُ أرجعْ لنا ما أخذتَ

ويا أيّها العالمُ المتمدّنُ شكراً لأنّك زركشتَ قصّتنا

وصيّرتها فُرجةً في متاحفَ ما بعدَ بعدِ الحداثةِ

إنَّ الطّريق هوَ المشيُ، أقدامنا تعبتْ

فيئسنا وقلنا ستوصلنا الشاحناتُ

زنازيننا رافقتنا

وأشباحُ قاتلنا شهَقَتْ فاختنقنا، ومِتنا!

عبرنا الطّريقَ وكُنَّاهُ

إنَّ الطّريقَ هو الواقفونَ بكلِّ الحدودِ..

إلى الموتِ: أجّل خطاكَ إلينا

إلى قبرنا في المنافي: استدر مثلَ أقدارنا وأعدنا لجبّانةِ العائلةْ

إلى عتباتِ البلادِ: هبينا قليلاً من الضوءِ كي نحترقْ

إلى المجزرة: تخيّلتُ وجهكِ لو أنَّ أقدامنا طاوعت قلبنا في الهروبِ

إلى القَتَلة: ستبكوننا ذاتَ يومٍ

إلى الحربِ: هل تمنحينَ البطولةَ أم تمنحينَ النّجاةَ؟!

إلى مَنْ يَعدُّ جباهَ ضحاياهُ: ما هوَ رقْمُ جبينكَ؟

إنَّ الطّريقَ هوَ المشيُ

ظلّلنا شجرٌ لا يبوحُ بأسرارهِ

فبكينا على الوردِ في ساحةِ الدّارِ

كانَ الحصى ناقصاً عن مدانا لننثرهُ

كي يكونَ دليلَ الرجوعِ

وكنّا نَقِلُّ وتمضي هويّتنا في المشاعِ

تشيلُ الشّعوبَ من البحرِ حتّى المكانِ الجديدِ

الشّعوبَ التي شاهدت موتَنا في الحصارِ

الشّعوبَ التي حسدتنا..

الشّعوبَ التي انتظرت أن يؤولَ لها جرحنا

كي تهاجر صوبَ بلادِ الحضارةِ

ها نحنُ ذا هائمونَ أمامَ المرايا

قطعنا أصابعنا كي يكونَ الوصولُ

اعترافاً أخيراً لنا بالخسارةِ

لم أحفظِ اسمَ المكانِ الجديدِ

بقيتُ أردّدُ: بيتي أمامَ الحديقةِ قدّامَهُ منهلُ الماءِ

والآنَ في غربتي لا أصدّقُ لونَ الشجرْ

أخضرٌ كلُّ شيءٍ وقلبيَ كالرّملِ في هاوية

أخضرٌ كلُّ شيءٍ وروحيَ كالغيمةِ الخاوية

أخضرٌ كلُّ شيءٍ وأهذي: خذوني إلى البادية

وصلنا!

أنا الآنَ في الأوّلِ الابتدائيِّ

أطلبُ كأساً من الماءِ أو كوبَ شايٍ

فتفرحُ آنستي ويصفِّقُ لي أصدقائي

وأبكي.. أنا أكتبُ الشِّعرَ في لغتي

لا أريدُ الذّهابَ إلى المدرسة

لا أريدُ التعلّمَ قسراً.. وجرحي يعضُّ على الملحِ

 إنّ اللّغاتِ رفاهيةٌ!

وأنا ههنا لستُ شيئاً سوى أنْ نجوتُ من الموتِ

أهلي ورائيَ، بيتي ورائيَ،

الذكرياتُ وروحي

وكلُّ الذي قد هذيتُ بهِ قد تركتهُ علِّي أعودُ..

سأسألُ هذي البلادَ التي تركتنا نلوذُ بها، مَنْ أنا ؟!

كنتُ في شارعٍ في بلادي

سمعتُ صراخاً أطاحَ بقلبي كأنّهُ مشمشةٌ عَسَّلت

صرتُ صوتاً فحسبُ، وحرِّيَّةٌ صرختي

ثمَّ ضِعتُ كأنّي صداها

وضِعتُ وضِعتُ وضِعت

كأنّيَ خيطٌ تدلّى من الكمِّ

كمِّ الإله البسيطِ الذي صاحَ حرّيّةً ثمّ صارَ رماداً

ثلاثُ نجومٍ من الدّمِ تجبلُ للرّوحِ صلصالها

عَلمٌ للبلادِ التي نشتهيها

مدىً للخيالِ البعيدِ

همستُ لكلِّ الّذينَ معي تحتَ تلك النجومِ الثّلاثْ:

لا تهنوا أيّها الحالمونَ ولا تحزنوا!

ثمَّ كانَ خرابٌ وموتٌ ورعبٌ

خيامٌ على طولِ هذا العراءِ

نجا من نجا ونجوتُ

هنا في البلادِ البعيدةِ كانوا

يجيئونَ برّاً وبحراً وجوّاً

يفرّونَ بين العواصمِ بينَ الحدودِ

كأنَّ الخرائطَ وهمٌ

رفاقي وأهلي وشعبي

وحصّتُهم في الحياةِ هروب…








هاني نديم:

في حبّ البلاد المفترسة 
(الإمارات)

 

حظي وأعرفهُ
كلّما
هيأت حقيبتي للحقولِ
أكلها الجرادْ
والثورة التي فرحت بها
تزوّجها..الجهاد

حظّي وأعرفه
من بين كل الناس
صادقت حسّادي
ومن بين ألف امرأةٍ أحبّتني
أحببتُ البلاد.

***

ماذا ستفعلُ الآن؟
لقد ركضت كثيراً إلى الأمام
حتى صار
وراءك!

قصائد: 

تمام هنيدي
(السويد)

 

يجدرُ بك أن تغيب تمامًا، أن تختفي، ألا تُرى، أن تتبدّد، ألا تذوبَ وحسب. لأنهم قد يجدوا أثرًا، ولو صغيرًا، من حياتِك في الهواء، وقد يُعيدوا ذكركَ دائمًا، بلطفٍ زائدٍ...

يجدرُ بكَ أن تتبخر!

***

حسنًا، ها قد كبرنا كما كانوا يقولون لنا حين يريدون إقناعنا بفوائد شرب الحليب، والنوم في وقتٍ مبكّر، وعدم اللعب مع الأولاد "السيئين".

كبرنا كما توعدتمونا، ولم يعد بمقدوركم الآن أن تكذبوا علينا كذباتكم السخيفة، بأننا سنذهب إلى النار إن دسنا من حيث لا ننتبه كسرة خبزٍ بالكاد تُرى.

كبرنا، وصار عليكم أن تجيبونا إجابةً أخرى، غير تلك التي تقول "إنهم يذهبون إلى السماء"

حين نسألكم بسذاجة: أين يذهب كلّ هؤلاء الموتى؟!

 

إلى باسل شحادة

 

تعال يا أخي

لنذهب في الغابة

بين اللوز والكرز

أو بين البلوط واللزاب والسنديان

تعال

نتفرّج على السلحفاة ونستغرب سرعتها الزائدة

وحين ننظر إلى ماء البحيرة

نرى الغربان في السماء تبتعد

تعال يا أخي

نتمشّى

ولا نصعد المزيد من الجبال.

*** 

جئنا من الجبال

من حيث ينبت العنب الأحمر، واللوز المرّ

والبلّوط بثماره التي تُنبئ بالدوار

نزلنا

وما كان بيننا من يجيد الكلام عن أصوات الحياة المصنَّعة

والمعادن المكدّسة، والإسمنت المسّلح

نحن أبناء بيوت الطين

أصدقاء أعشاش الطيور

وجحور الأفاعي

وبيوت النمل...

أصدقاء فئران الحقول

والكلاب السائبة

/

الذين كُنتُم تهزأون من ثيابهم

ومن شعورهم المشعّثة

وأسناننهم المهترئة

وأياديهم الخشنة

نسير بينكم اليوم

لا تفرّقنا عنكم ملابس ولا لغات

نشرب من الكؤوس ذاتها التي تشربون منها

ونمارس الجنس كما تفعلون

ونضجر مثلكم تمامًا

نحملُ -مثلما تفعلون-

أوراقًا، وكتبًا

وجوازات سفر

وهدايا لأصدقائنا

ونحملُ أيضًا

(إذا كُنتُم قد نسيتم)

دمًا ثقيلًا

وأحلامًا بالرجوع إلى بيوت الفئران التي تركناها مفتوحةً وراءنا

بينما تحلمون بمعادن جديدة

وحياةٍ مصنّعةٍ

وإسمنت مسلّح.





ليس لأمّي فيسبوك:

إبراهيم قعدوني
(بريطانيا)

 

ليسَ لدى أمّي فيسبوك

ولا واتساب،

إنّما لديها قلبٌ سُرعانَ ما يهبِطُ كلّما رنَّ جرسٌ بعد التاسعة!

ويدان مفتوحتان على السماء، تبعثان برسائل محروقة الأطراف

تسألُ فتجاب،

هي التي لازمت حياتنا بمنبّه صوتها الصباحي،

قبلَ ديكِةِ الحيّ تداهم نومنا أنْ "أصبحنا وأصبح الملك للّه"  

تعرِفُ أحوالنا من مناماتها، 

يشمل ذلك نتائج الامتحانات،

وأحياناً ما في الأرحام،

 كأنّما لديها كتابُ نوايانا

كانت تقول "اجعلوا على قبري قبّةً"

 ألَم أقُل لكم أنّه "سَيخطِف في عينِ الظّهيرةِ! "

ليسَ لها هاتفٌ جوّال،

ولا قارئ موسيقا 

غيرَ أنّها تحبّ أغنية "ستّي" لفيروز، كلّما أدرتها في هاتفي مَلَأت عيونها بالدّمع.

سمِعتها تغنّي مرّتين (أنا الذي بباب الأربعين)

في الأولى: غنّت "يا بيتي يا بويتاتي"،

وفي الثانية "طارِت الطيّارة .. والحبايب طاروا" 

سوى ذلك، كانت إذْ يداهمها الحزنُ تُطلِقُ ما يشبه مواويل تنتهي بحشرجات. 

ليسَ لها حاسوبٌ شخصيّ،

غيرَ  أنها تعرف أعمارنا من باطن كفّها،

وقد تستعينُ بعريشة الدّار.. 

تفتقِدُنا الآن – بعدَ كلّ الشجارات القديمة- 

وكلَ مساءٍ تقول لأبي: افتح هذا الشيء لنرى الأولاد قبل انقطاع الضوء،
فمن يدري، غداً قد لا نكون.

2- صُوَرْ:

 

كانت الصّورُ عزيزةً على نُدرتِها 

حَفِظنا أماكنها جيّداً في صدور البيوت، 

تنظرُنا من فوقٍ محبَّب

وتزجُرُنا بوصايا خرساء

تلمّع أنسابَنا بأجداد متنكّبين سلاحهم في عواصم الجوار التي كانت ما أبعدها!

وضعناها جوار المصاحف؛ على رفوف الزوايا

 أحطناها بالوردِ الاصطناعيّ -يعود تاريخه إلى ليلةِ العرس على الأرجح-

وعلى "التسريحة" في غرف النوم، كنايةً عن الصّبا و تذكاراً من "ليلةِ العُمر"؛

وأودعناها بطون ألبوماتٍ حميمةٍ لا تغادر خزائنها لأيٍّ كان،

رأيناها في "جزادين" الآباء وهم يفتحونها بحرصٍ كأسرار هشّة، 

فَرِحنا ونحن نراها على وثائقِ المدارس حافظةً براءتنا في ختام المراحل،

كانت الصورُ حيّةً وثرثارةً؛

حتّى بهذا التباين البسيط بين أبيضها وأسوَدِها

لمسناها وقرأنا ما كُتِبَ على قفاها 

ومع الوقت وضعنا لزواياها شرائط سوداء 

وصرنا نتجاهلها

بيدَ أنّها ظلّت حارَّةً وزاخرةً بالحكايا. 

كانت الصورُ كائنات حيَّة تواكبُ حياتنا،

ظلّت عزيزةً لا تطالها قاماتُ الصّغار

حتى رأيناها في صورِ الحرب مفجوعةً ومبتورة البراويز،

 ممدّدةً مثل جثث فوق خراب البيوت 

كأنّما هالَها هذا النزول القسريّ عن فراديسها

 وأنّها صارت مجرّد صورٍ تعبُرها نظراتُ الحياد في شاشات باردة.

 

3- حلّ عنِّي أيها البلوز:

 

صباح الخير أيتها الأشجار النائمة، أيها الضباب الحنون، أيتها القبور البعيدة، أيّها الطّفل الذي بباب النهار، أيتها النغمةُ الضّالة، أيّها الطنين الذي في الرأس، أيتها الموسيقا الأبدية.

صباح الخير أيها العالم، إنّها تُمطر، تمطر كثيراً في بلاد الآخرين، تمطر بقسوة هذه السماء التي بلا قلب، سوفَ تبتلّ روحي المنشورة قُربَ صواني البابونج ومعقود المشمش على سطح البيتِ الأوّل.  

باردةٌ هذه الريح، ولا "تشارينَ" أخرى تطالها الذاكرةُ الثّكلى، ها أنا أفشلُ في فتح ثغرةٍ في كتلةِ هذا الصباح الأصمّ. 
ثمّة ورقات ملوّنة ويابسة صعَدَت في زوبعةٍ أنيقة، أوراق كثيرة دارت كعجلاتٍ سحرية، لبعضِها حُمرةٌ خجولة، هجَعَت على الرصّيف النديّ، حيث المتشرّد الملتَحِفُ بالنّعاس ينظُرُ لآخر الشارع كمن ينتظر أحداً لن يأتِي.                             
أمرُّ بسؤالِه اليوميّ: "Do you smoke mate?" هل تدخّن يا صاح؟ أجيبه آسفاً: أقلَعتُ منذ وقتٍ طويل ثمّ أمضي حاملاً لعنته المرتجفة.

عامل النظافة الأسود يلتقط زجاجات كحول من ليلة الأمس، يطوفُ بعربته التي تذيعُ أنغاماً وديعةً -من البلوز القديم على الأرجح-
عند الساحة الخالية سوى من بعضِ حمامٍ لاهٍ، أنعطِفُ مع الريح وأنسلُّ في الدفء الطارئ لمقهى الكوستا حيثُ رائحة الكرواسان الساخن تمتزج بموسيقا مرحة لا تناسب لونَ هذا الصباح،"-بلاك أميريكانو- تيك أواي، بليز" (يضيف الانكليز الحليب لكل شيء تقريباً). تبتسم الفتاةُ العشرينية ابتسامةً معدنية فيما تناولني كوباً طويلاً عليه صورة لرجل ثلج بقبّعةٍ حمراء.

أهجُرُ المقهى بينما ترنُّ في رأسي رائحةُ خبزٍ منشورٍ على رصيف بعيد، وفيما أخطو خارج الباب تلاقيني الريحُ الباردة مثل ساعي بريدٍ يناولني صورةَ طفلٍ يقولون أنّه غرِقَ في نهر كان يحسَبُهُ غيمةً سائلة.   

              
على المقعد الرّطب أنظُرُ في الأوراق التي تسقُطُ بجمالٍ موحش، الأوراق ستسقط دوماً، وستُراقصها الريح، ويراقبها آخرون قد لا يكون بينهم رجلٌ يمسِكُ بكوبٍ طويلٍ من القهوة -في بلادٍ لا تعرفه- ويُنصِتُ لأغنيةٍ لروبرت كراي اسمها "حلّ عنِّي أيها البلوز" فيما يفكّر بطفلٍ غرِقَ في نهرٍ حَسِبَهُ غيمةً سائلة.






لستُ خطوةً:

وائل الناصر
 (ألمانيا)

 

لستُ خطوةً

تركتْ أثراً ما،

الرِّيح الَّتي تهبُّ الآن

ترسمُ خطوةً

غادرتني دون أنْ أشعرَ بها

أو أكونها.

***

أيَّةُ خطوةٍ تمرُّ

ستأخذُ التفاتةً منِّي،

سأربتُ على غبارها

لأمنحها ثقةً بسيطةً

يحتاجها لاجئ

فقدتْ خطواتهُ

2

أيَّ مرورٍ

أو حتَّى التفاتة.                                          

3

يصدفُ أحياناً

أنْ أعثرَ بما أظنُّهُ لي

يُكْسَرُ حائطي

فأتشبَّثُ بي

كي لا يخذلني

ما ظننتهُ لي،

أتركُ وردةً أمامكَ

وأنا أغادرْ.

    ***                                           

لتمنحكَ شعوراً صادقاً

عنِّي، أنا الكائن الذي

يصدفُ أحياناً

أنْ أعثرَ أيضاً                                  

بما أؤمنُ أنَّهُ لي

تماماً كالَّذي يحدثُ

4

حين تتركُ وردةً أمامي

وأنتَ تُغادرْ.

***

لنلتقطها معاً

علَّ أوراقها

تحرثُ أعشابنا الضارَّة.

 

5- أبوابٌ لا تصفع الغرباء:

 

حين يصفعكَ بابٌ غريبٌ

تقفُ لوهلةٍ

تتحسَّسُ مكان الصَّفعة

دون أنْ تجرؤَ على ردِّها

وتمضي....

تحملُ خيبة الغريب فيك.

***

يتكرَّرُ المشهد

ومع كلِّ صفعةٍ

ستقفُ لوهلةٍ تتحسَّسُ مكانها                                                

وتمضي إلى بابٍ آخر                        

وصفعةٍ أخرى.

***

6

هكذا..

إلى أنْ يحتويكَ وطنٌ

أبوابهُ لا تصفعُ الغرباء.

 




ثلاث قصائد:

صدام العبدالله
 (النمسا)

 

اﻷطفالُ لا يعرفون عن الحريّة
إلا أن يشتروا ما يحلو لهم
دون أن يعاقبَهم أحدٌ على حداثَةِ التّجربة كلُّ قمرٍ هو طفلٌ قبلَ الاكتمال
كلّ شمسٍ هي طفلةٌ تلعبُ صباحاً
في شارع السّماء وتسقطُ مساءً في إناء التّعب كلّ منزلٍ يتحسّسُ أصابعَ اﻷطفالِ وخطوطَها على جدرانِه هو منزلٌ ثاكلٌ حتّى يعودوا كلّ شجرةٍ تستيقظُ فلا تجدُ عصفوراً يحكُّ لحاءَها هي شجرةٌ بائسة
اﻷطفالُ يهربون من القصفِ ويختبؤون تحتَ جناحِ خيمة اﻷطفالُ هم الوحيدون الذين ذاقُوا فاكهةَ الحربِ قبلَ نُضْجِ الموسم أرواحُ اﻷطفال تحطُّ على القصيدةِ فتشربِكُ الوزنَ وتعبثُ بخيوط الصُّوف عيونُ اﻷطفال ترمُقُ الوطنَ المُهْـرَ وتركضُ خلفَه في الحقول
أصابعُ اﻷطفالِ حلوى وحليبٌ فاتر.

 

-3

هاتوا سمكة صغيرة نضعها
في حوض اللغة ونعلمها الحركات
هاتوا بيتا نرممه أو نصلح وزنه الجاهلي
هاتوا شارعا فرعيا نهيئه لطفل
علّه يلهو عن فقد أمه
هاتوا ابتسامة نوزعها على الفقراء
نحن الذين لا نملك ما نعطي
" هاتوا مدائنكم أهدمها "
قالها شاعر متقمصا طاغية
" هاتوا برهانكم "
قالها الرب في البدايات
و لم يأت أحد بشيء
ولن إلى يوم القيامة.

 

-4

الرجل المكوم في البراد
له أب عيناه بيضاوان من الحزن
كان يكدح في بلد الخير
الذي وزع أبناءه على البلدان ...
قد يرتد بصره بإلقاء القميص 
الرجل المكوم في البراد
له أم قد تشفى من مرض القلب
لو رأت بريق عينيه اللامعتين
الرجل المكوم في البراد
له أطفال يلعبون قرب المنزل
الغميضة مع القذيفة ...
" أصيبك يا حبيبي أو تصيبني "
هذا الرجل
له زوجة قلبها حار كرغيف
خبز تنور بعد السجور اﻷول ..
هذا المكوم 
كان يحلم بزيارة العائلة ولو مرة 
أخيرة على عجل ..
الرجل المكوم في البراد
استيقظ أخيرا ظانا أن نوبة
حراسته قد ابتدأت
الرجل المكوم في براد الوطن
مازال ينتظر من يسأل عنه
بقلب كأنه الثلج الفائت.




شجرة داخل خزانة:

ميس الريم قرفول
(فرنسا)

لأنه أوحيَ لي بأني شجرة دائمة الخضرة

لم أقدر إلا أن أحب العواصف التي تعرّي

في الداخل

بينما هي تبحث عن مركب في النسغ.

.

هيا اقترب

لقد مضى زمن طويل وأنا ظلٌّ لشيء ما

لا أعرفه.

.

رغم كل المشاغل والألم

رغم كل السلاسل التي تندلق في ظهري مثل المطر

أجد مكاناً لكَ دوماً

كأنك مخدّة في وضح النهار

على الإسفلت

فوق الغصون الكثيرة المتشعّبة

على صمت الضباب

كأنكَ بسمة على وجه السماء

تدخل دون أن تطرق الباب

تصيرُ مرآة دافئة فوق كل هذا الخشب.

.

هلا جدلتَ لي شَعري؟

طويلاً أكثر مما هو

وفي كل التفاتة لخصلة فوق خصلة تخرج منكَ ضحكة

أعرفها من وراء ظهري

إن الأصوات في الرأس القديم ترنّ كما الليرات في صحن الماء الذي عبّأه المطر

ثم مضى عابراً

في رحلاته الممتدة والتي لا تنتهي

ولا تعود.

.

كان يجب أن يطير كل هذا الحمام

أن أرى وجي بالمرآة بصمت

مالحة

مثل قشرة خرجت عن النهر وصارت لا تتعرّف عليه

كان عليّ كل ذلك حتى أدركَ أنكَ تعود لطريق عبرتُه

أدميتُ ساقي بالأشواك وانتظرتُ أن تلتفت إليّ حتى أغلق باب الخزانة على نفسي

كما في الحكايات التي تبيت فيها الأشياء بسلام

في الداخل شعاع سيستمرُّ

ستنام العيون وينتهي المطر

أما على القلب سينزل ورق الخريف

رصيفه حارٌّ والصور نوافذ

سوف تراقبه في يوم بارد

من وراء الأبواب.

أنتَ لستَ جميلاً كما اوحي لكَ

أنا من أملأ رتوشك بلوحات جميلة

أقول عن الضحكة أنها تفاحة تجمّعتْ كي لا تنتهي

أقول عن اليدين جناحين يخبّئان بينهما كنزاً من الألماس

لو يفيض!

هل تعرف لمَ؟

لأنني بتُّ أخشى من نقصان الكمال في كل مكان

وأعرف أن الله حزين

وكل مَن صادفتُهم من آلهة كانوا حزينين

أما الحب فعليه أن يأكل بعض القمح حتى يعيش

أن يضحك حتى لا يظنّه النهر حجرةً منه ويغرِقه.





مثل ثور معصوب العينين:

عبير عبد الواحد
 (السعودية)

 

تخذلكَ حتى الأشياء البسيطة

المُقرّبة منك
اللحنُ الذي كان يُشجيك
القلمُ الذي أحببتَ لَونه
ونبتةُ الظلّ على الطاولة

تخذلكَ فكرة الخذلان بِحدّ ذاتها
إذ كيف لكَ أن تَعتب عليهم لنأيهم،
أو لخذلانهم
وقد تَخطيّتهم إليها
إلى أن أفرغتْ الكلمة من معناها
فتدركُ أنهم ما خذلوكَ إلا إكمالاً لدائرةِ الحياة..

تخذلكَ البلاد
تبادرها بالحبِّ والذكريات الموجعة
فتقايضكَ بالنار والدمار وحكايا السّفر..

تخذلكَ البلاد
يسألكُ الغريب من أي البلاد أنت
فتزدردُ المرّ حالما تتلفّظ بِاسمها..

يخذلكَ الأمل
لكثرة ما عوّلتَ عليه
يصيحُ متبرّمًا
إنما أنا محض سُنّة
روّجت لها نفسٌ متعبة، وقضت
اعلموا بأني سئمتُ حُسن ظنكم
وبأني لا أجيء..

الأملُ هدية الألم
يكفّرُ بها عن ذنوبه مع بني البشر..

يستمرئُ العالم خذلانك
وتستمرئُ التنصّل والتشكي
والخذلان يدورُ ويدور
مثل ثور معصوب العينين
في ساقية نضبتْ منذ زمن بعيد.

 

 

 لحظة الفقد الخالد:

ريبر يوسف
(ألمانيا)

 

القطة السوداء عبرت الشارع العريض، ربتَ أخي على قلبه، فنالَ الفوز إثرَ مقولة عجوز روسيّ استنهضها في ذهنه فجأة، واعترض بها سيارته، اختارَ أخي - على غير عادته - الأزقة الفرعية إلى بيته. في الثانية بعد منتصف الليل، قبل حوالي ثلاث ساعات، أنهينا تماماً تناول وجبة العشاء..

مَسّني البريقُ في الزيتون الأسود.

خلال فيلم "معتقدات أرجنتينية" أرشدت البومةُ الزوجَ إلى مُختَطف الزوجة.

تلاواتٌ مجهولةٌ تخفقُ في ولوج الغرفة عبر النافذة، الآن.

-2-

جدّتي أنفقت أسابيع في تلقيني سر صناعة (السمن الحر). باشرنا من ابتياع دهن الأغنام في سوق الدواب بمدينة (الحسكة) إلى أن أنجزناه في جرة الفخار الكبيرة - خاصتها، لم أصنعه يوماً.

المعرفة واحدة من الوسائل التي يعبِّر بها المرء عن توقه إلى خَطْبٍ في الذاكرة.

يوماً ما، رائحة (دهني) المتفسّخ ستُرشِد الجيران إلى مطبخي، سأصافح النور الذي يخاطب الكائنات لحظة الفوز بالفَقد الخالد.






أوطان بديلة:

المغيرة الهويدي
 (الكويت)

 

(1)

أريدُ وطنًا بلا أسوار عالية ...

أتسلق رعبه بخفة قطّ

أتعثر

 أسقط

أنهض ملوّحا بذيلي!

أضيع في الزحام

في شارع من هذا العالم ...

هناك حيث الرقص افتراض تقترحه الموسيقى والملل...

هناك حيث الوقوع في الحب ممكن أكثر من مرة،

دون أن تشقيك الذاكرة!

أريد وطنًا أنساه

لا أتذكره

لايعنيه فراري ...

لايرسل القطط السوداء ورائي

وطنًا يغيب في البعيد؛

عرجًا في قدمي اليسرى

وشتيمة عابرة!

 

(2)

 

نحن البيت سنهاجر

سنحمل جدراننا، نوافذنا الموصدة، مفاتيح أبوابنا، أثاثنا المهترئ، غبار الزوايا المهملة، أصص الزهور، أكياس المؤونة،  تفاصيلنا الصغيرة، ملح أحاديثنا في الظهيرة، زقزقة العصافير على حبل الغسيل، شجاراتنا المضحكة...

نحن البيت سنهاجر!

وعندما نصل إلى أرضٍ بعيدة

سنرتّبنا جيّدًا

سنتفقدّنا

ما لحق بنا من أضرار طفيفة...

سنستدعي عاملاً

وسنبتسم في وجهه وهو يغيّر أقفالنا!.

 

2-رصاصة مذعورة:

 

رأسي محشو بآلاف القصائد
عن نساء تزوجن من غرباء 
وأخريات هاجرن إلى أماكن مجهولة
عن أطفالٍ يركضون بلا هدف
يلعبون في حدائق مهملة
يتسلقون أسوارًا لمدرسة بلا طابور وأناشيد 
عن ضحكٍ لايكفي
وأحاديث غير مهمة
وتحيات مدنسة بابتسامات قصيرة...
عن شتاءٍ بلا غيمٍ 
وغيمٍ تحت المطر 
وفوق ألبومات الصور
عن ذكرياتٍ بعيدة 
محايدة 
وجميلة 
وكأنها لاتخصني...
عن سرب حمامٍ
ينهدّ دفعةً واحدة 
من "سابع سماء"
إلى بركة ماء في أهزوجةٍ مكسورة...

رأسي محشو 
بآلاف القصائد 
عن رجلٍ يختبئ في صوته 
يرتدي كلماتٍ مطفأةً بلا أزار 
ويغطي وجهه بمجازات سميكة
عن رجلٍ مشوّه لاينام
يخرج كل ليلةٍ من سبابته 
يبحث عن زنادٍ بندقية نائمة 
عن رصاصةٍ تستيقظ مذعورةً في رأسه!.

 

محاولات ساكنة الغربة:
خولة دنيا
(ألمانيا)

محاولة 1

 

تعال نقتفي آثارنا من جديد،

بقايا التفاحِ الأخضر.

برعمٌ ذاهلٌ على الوسادة.

طعمُ الفودكا على الشفاه.

سِرُّ الوقتِ المُنسابِ بطيئاً

يعدو سريعاً

كمارشٍ عسكريٍ

يصدُّ الصبحَ عن التفتّحِ

فينفجرُ الوقت

تعالَ نلمُّ رائحتنا،

شتلةَ الزيتونِ.

زيتَ الخابيةِ العتيقة.

نحلاتِ العسل المنداح بين أقدامنا

نتبعثرُ 

ونلمًّ ما تفتت منا

قبلَ مجيء الوقت

غالباً ما تضاءلتُ

كحبّةِ عنبٍ بين يديك.

كثيراً ما التجأت إليك

ففتحتُ يديكَ أشدُّ الكفنَ

أغازلُ أصابعكَ

أعدًّ أصدقائي

بعشقِ مدينةٍ تدخلُ الخوفَ ببقاياها

تسخرُ من ثوانيها

بانتظار الوقت

محاولة 2

 

لنغادر التلفاز قليلاً

نتحدث برحابةِ صدرٍ

عن اتكاء المطرِ على حواجزِ الشرفات،

العشق والجسد والفرق بينهما

عمّن اخترعَ القنبلة،

من تفشّى في ليلِ المدينة

كحبر صينيٍ فحولها لورقٍ رديء. 

لنتأبط الخصرَ واليدَ كعجوزينِ يتكئانِ العمرَ والذكرى.

لنتمرد قليلاً،

فنشكو النومَ الباكرَ والزواج؛

قذيفةَ الهاون وتكسير الزجاج.

نافذةً اغلقتها الريحُ فاخترقتها الرصاصة

سأنضو اللونَ قليلاً،

اتكحَّلُ بهذا الليل.

أشْكُ الوحدةَ مِثلَ كُلنا

أمسِّدُ ذِراعَ الأريكةِ

أنْحَني على الكأسِ

كفراغٍ يخرِجُ من فراغْ.

 

محاولة 3

 

لن يعشش السنونو من جديد،
فكل شيء أصبح ترفاً
نزقاً بارداً!
هاجسَ وداعِ انطباعاتِ العيون لاختلاجات وطن.

الضحكةُ ترف.
اللقمةُ ترف.
ارتجافُ اللغةِ في أُذنيِّ عاشقةٍ أُسقِطَ في يدها، ترف.

وطنٌ أبيضٌ، ترف.
سهرةُ الصُحبةِ لاقتناصِ الوقتِ بالجدوى، ترف.
كأسُ نبيذٍ يُقرِّبُ الحُلمَ قليلاً، ترف.

البيت! ترف.
الشارع! ترف.
الحياة! ترف.
اعتقالٌ يأكلُ العمرَ دقيقةً دقيقة! ترف.
حفّنةُ ترابٍ لإغلاقِ مدى الموت، ترف.

"كلُّ شيء يسودُّ كحدقةٍ تأكلُ بياضَ العين
تتفرعُ لِعُزلةٍ وفزع
يا أخوتي لا تقتلوني
أحلمُ أن أموتَ بيدِ الغريب"
يا للترف!

محاولة 4

 

هشةٌ أنا كأسفنجة
امتصُّ كلَّ ما فاضَ عن ألم الغريب
فاشتاقُ لأكونَ أمي،
حينَ المغيبُ أفاقَ على شروقِ مَفرَقِها
فنأتْ عني.

هناكَ حيثُ للأرضِ معنى الوجود
تعيدُ مدارات يومِها
تُقطِّع أصابِعَها مع هشاشةِ الفول
تبتسمُ للبصلِ في الطنجرة
وتقول لي:
عودي،
اشتهيتها لك يا حبيبتي.

وأنا يا أمي،
يعرِّشُ حُزني على صدرِ الغريب
يركِنُني وعداً مجهولاً
للحنٍ لن يعزفه لي،

وعندَ البابِ،
كشروقِ الشمسِ في صَحنٍ فاتني منكِ
أُعيدُ رسمَ هشاشتي
مركونةً كما الغبار
على أوتارِ العود.

 

(اللوحات، على التوالي لـ: مريم سمعان، سمعان خوام، ياسر صافي، ريم يسوف، عادل داوود، نهاد ترك، سامر اسماعيل، تمام عزام، مريم سمعان، جمعة نزهان، خالد تكريتي، سبهان آدم، محمد عمران، علا عبد الله)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.