}

اكتب بـ (وضوح) كافٍ، هذا المقال لا يُنشَر!

عبد الزهرة زكي 17 أبريل 2018
هنا/الآن اكتب بـ (وضوح) كافٍ، هذا المقال لا يُنشَر!
لوحة للفنان العراقي حنوش

 

أذكر آخرَ مقال كنت قد تسلّمته من حميد المطبعي لنشره في ثقافية جريدة (الجمهورية) ببغداد، حيث كنت أعمل، وكان مقالاً بكتابة أخرى، مما تقتضيه الحال آنذاك، وكان هذا في ذروة الأشهر التي سبقت حرب 2003، وقد باتت يقيناً متوقعاً في أي حين.

أذكر أنّي دفعت بالمقال مباشرةً إلى الطبع من دون أن أقرأه. كان معظم النشر مكرَّساً لذلك الوضع الموشك على الحرب أو ما هو قريب منه. لا حاجة لأقرأ لحميد حين يدفع بمقالٍ للنشر. إنه الأعرف مني بسلامته والأقدر على التحوّط في الكتابة بما يضمن السلامة.

لكنّ المقال لم يُنشَر.

فوجئت بهذا، فقد أُعيد إليّ صباح اليوم التالي مع هامش وُضع بانفعال عليه وبالحبر الأخضر. كان الهامش موجَّهاً إلى المطبعي، وليس لي أنا المحرر. يقول الهامش: اكتب بوضوحٍ كافٍ!

كان المقال، وقد قرأته بدقّة بعدما أعيد إليَّ، واضحاً وصالحاً للنشر، ليس فيه ما يوجب عدم نشره. غير أن الهامش يطلب ويريد فرض (وضوحٍ) آخر، لم يكن في المقال أيَّ غموض ليوضحه الكاتب، إنّما الوضوح بمثل هذه الحالة هو شيء آخر، وكان حميد، وهو يكتب، يريد تفادي ذلك الشيء الآخر!

بعد يومين جاءني حميد، لم يكن يعرف أساساً أن الموضوع لم ينشر، تفاجأ هو أيضاً مثلي حين أخبرته بعدم نشره، وحتى إذا ما أعدتُ المقالَ إليه، وقرأ الهامش قبل أن يعيد قراءةَ المقال، مقاله، صفن للحظة، ثم طوى الأوراق بعصبية لم يقوَ على كتمانها، واكفهرَّ وانزعج وتأفّف، وغادر صامتاً، ليأتي في اليوم التالي بمقال آخر، فكان هذا هو أيضاً قد انتهى إلى مصير المقال السابق. إذ أُعيد إليَّ باليوم التالي. لم يبلغ حميد (الوضوح) المطلوب إذاً، فقد ذُيِّل المقال بهامش إنما أشدّ شراسةً من الأول: (اكتب، ياحميد، بالوضوح الذي يكتب به (فلان)، مثل هذا لا يُنشَر!!!). وعلامات التعجب الثلاث من أصل الهامش وليست مني، عادة أكتفي بعلامة واحدة، وفقط حين أتعجب، وليس حين أريد فرض رأي، لم أفرض يوماً رأياً على أحد، كما هو حاصل أمامي الآن في هامش الحبر الأخضر الموجّه لكاتبٍ محترف وخبير مثل حميد المطبعي.

كان (فلان) صديقاً للاثنين؛ لحميد، ولواضع التهميش. وكان المراد بوضوح (فلان) في الكتابة، كما فهمتُه، هو أن يمضي حميد بمقاله بلا حدود ولا كوابح، كما يمضي (فلان) بكتابته، بالاندفاع إلى (التمجيد) المباشر بالقول والكتابة بغض النظر عن قيمة المقول والمكتوب، ما هو مهم التمجيد والوضوح في التمجيد، كان الشعار الأساس الذي رفعه رأس الدولة آنذاك هو (لا نريد فناً، ولا أدباً، يفسّره لنا المفسرون).

لم يكن كلام حميد المطبعي بحاجة إلى تفسير، كان ضد الحرب الواقفة على الأبواب، وضد أمريكا، لكن لم يكن هذا كافياً بموجب قلق المُهمِّش. واضع الهامش يتحسّب من عدم كفاية وضوح حميد، فكلا الرجلين ضحية؛ حميد ضحية واضع الهامش، وهذا ضحية تحسّبه وخوفه. الخوف يشوّه كل شيء.

وفيما كان حميد يضع المقالَ المهمَّش في حقيبةٍ لا تفارقه، فإن صوته كاد يرتفع بما توقّعتُه شتيمةً، لكن إشارةً مني بأن يهدأ ويتفادى الانفعال جعلته يمرّر ما بدا لي على أنه شتيمة، وكان هذا بصوتٍ أقربَ منه إلى السكوت. ناولته سيكارة، فرمى التي بيده من بعدما أشعل بها هذه الثانية.

" طبعاً أنت تعرف ماذا يعني (هو) بـ (وضوح) فلان؟"، سألني بصوت خفيض، وعيناه ما زالتاعلى الهامش. لم يكن ينتظر جواباً مني، حميد رجل نبيه، فلم أجبه، وكان يجب أن أسكت.

لم يكن مهماً لحميد المطبعي أن ينشر المقال أو لا نشر. ما يهم حميد هو ما سيترتب على عدم النشر من احتمال أن يطوله الشك، ومن الخشية أن يضطر إلى ما لا يريد أن يضطر ويكره عليه.

سكتنا نحن الاثنين للحظات. غادرني بعدها متلفّعاُ بسحابةٍ يمتزج فيها خليط غريب عجيب من الحزن والغضب والانكسار والعناد، مخلّفاً وراءه في الغرفة سحابةً أخرى من دخان سيكارة أخالُ أنها لن تنتهي.

لا أذكر بعد هذا شيئاً عمّا إذا كان قد واصل الكتابة للجريدة أم انقطع عنها، كان واضحاً لي أنه لا يريد الكتابة بـ (وضوح) فلان.

أتوقّع أنه انقطع عن الجريدة ما لم يكن قد اضطر إلى (وضوح) أكبر. لا أعرف بالضبط؛ فقد كنت أنا من انقطع عن الجريدة، أو قُطعتُ عنها وعن كلّ شيء فيها، حيث لم أعد لها إلا وقد أوشكت الحرب على الانفجار. لقد مررت بها لمرّتين فقط، كانت الأخيرة منها وقد انفجرت الحرب فعلاً. كان هذا المرور لـ (لزوم) المرور فقط. (يجب) أن أمرَّ، وإلا فلا عمل لي في الجريدة، وفي كلّ من المرّتين لم تزد مدة البقاء، بما كان مكتبي فيها، على عشر دقائق، أختنقُ أثناءها، فلا أقوى بعدها حتى أغادر المكان إلى البيت، ولا أذكر أني صادفت شيئاً منشوراً لحميد خلال المرّتين.

الإثنين الماضي توفي حميد المطبعي، يرحمه الله.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.