}

ذكرى غياب أحمد دحبور: حيفا البوصلة والجرح الأول

يوسف الشايب 25 أبريل 2018
هنا/الآن ذكرى غياب أحمد دحبور: حيفا البوصلة والجرح الأول
الشاعر أحمد دحبور

"هبّت النار" من جديد في مناسبة إحياء الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، الذي أقسم أن يزرع "عود اللوز الأخضر" في "الدار"، وأشهد العالم "علينا وع بيروت"، و"ع الحرب الشعبية"، وغنى للأسرى في "عوفر والمسكوبية"، ومن تجمعوا في "معسكر أنصار"، مطلقًا رسالة الثائر "دوس ما انت دايس ع الزناد".

الطفل حكواتي العائلة

في الذكرى السنوية لرحيل دحبور برزت على السطح حكايات مجهولة لدى الكثيرين حوله، منها  ما سردها ابنه يسار دحبور في رحلة سيرية عن والده وبلسانه في عديد المواضع..

قال يسار: "في النكبة، وبعد سقوط حيفا، وفي ذكرى ميلاده الثانية، حمل أحمد على كتف أمه ليتجه إلى المنفى وتبدأ التغريبة والمعاناة، فشمالًا ساروا إلى لبنان فسورية، حتى انتهى بهم المطاف بمخيم العائدين في مدينة حمص، حيث الفقر والحرمان القاسم المشترك بين أهله.. وفي الشتاء القارس تحت دلف المياه من سقف التوتياء كانت السهرة، لانعدام وسائل أخرى للتسلية، حول الطفل أحمد مذياع العائلة، متوسطًا مجلس العائلة ليقرأ الزير سالم تارة، وسيرة بني هلال تارة أخرى، فاهتدى إلى الكلام المقفى فيما سيعرفه لاحقًا باسم الشعر، ومن هنا كانت البداية".

"في أحد الأيام جاءت زوجة الخوري تحمل بقجًا مليئة بالملابس المستعملة تتبرع بها لأهل المخيم قبل العيد.. رفض أحمد بكبريائه أن يلبس هذه الملابس المستعملة، فما كان من جدته المدبرة إلا أن أخذت هذه الملابس إلى المصبغة لتصبغها وتعيد لها رونقها، ولما لم يتوفر عند المصبغة القريبة إلا اللون الأزرق كان ذلك، وفي يوم العيد المنتظر لبس أحمد ملابس العيد ليتفاجأ بأن هذه الفكرة لم تكن مقصورة على أمه فقط، حيث كان المخيم يضج بالزرقة".. ويتذكر أحمد "وجاء يوم خرجنا بالجديد إلى الحياة، فانفجرت الدنيا من الأزرق.. جاء المخيم مصبوغًا ببقجته الزرقاء.. لم نتبادل ما يقال ولم نفطن إلى أننا نمشي ويغمرنا بحر لنغرق، لكن نحن لا نغرق".

"التحق بالفدائيين مراسلًا حربيًا في حركة فتح بالقواعد في أغوار الأردن، فأرخ لتلك المرحلة بالعديد من القصائد التي مجدت أبطالها، وصورت الثورة طريقًا وحيدًا للعودة، وهنا أشي بسر يعرفه قلائل، وهو أن والدي أحمد دحبور برفقة الشهيد ماجد أبو شرار، كان يكتب العديد من المقالات التي تصدر باسم حركة فتح آنذاك، وبعد الخروج من الأردن استقر في درعا ليكون أحد أصوات الثورة من صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية من سورية، ومنها إلى بيروت ليدافع عن أبناء شعبنا ضد التيار الفاشي هناك، فكان أن دفع ثمن ذلك استشهاد أخيه في تل الزعتر".

ومن حكايات دحبور أنه عندما عاد إلى سورية طلب منه أن يكتب أغنيات لمسلسل "أم عيني" الذي كانت تنتجه منظمة التحرير، فكتب "يما مويل الهوا"، و"اللوز الأخضر"، لتنتشر كالنار في الهشيم في أزقة مخيمات وقرى ومدن فلسطين، فكانت أن بنت تلك الأهازيج جسورًا بين شعبنا والثورة، وصارت فكرة العودة مرتبطة بغرس عود اللوز الأخضر في بيوتنا السليبة، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس فرقة العاشقين بقرار من المنظمة، فأصبحت العديد من أعماله أغنيات وطنية مليئة بالتوق والحنين للعودة إلى فلسطين، وتمجيدًا للثورة، وقدرة المستضعفين في التغلب على بؤس حالهم وتحقيق النصر والحرية، وهي الفرقة التي راجت وبلغت ذروتها في تأريخ الصمود الفلسطيني اللبناني في حرب 1982، فمن منا يسجل مقاومة الفدائيين في بيروت، دون أن يوثق لهدير رشاشاتهم على وقع أنغام "اشهد يا عالم علينا وع بيروت"، كما كتب عن الأسرى والشهداء وفلسطين، فتجربة العاشقين لا تزال خالدة رغم خفتان وجهها في إثر الانشقاق في سورية الذي رفضه دحبور الذي طالما نادى بالوحدة الوطنية، فغادر سورية للالتحاق في الثورة بتونس، وبوصلته على الدوام كانت نحو حيفا.. "كانت وحدويته بارزة، حتى أن العديد من الفصائل لم تكن تعرف أنه فتحاوي بالفعل".

حيفا.. الجبل والبحر

ونقل فؤاد نقارة، رئيس نادي حيفا الثقافي، على لسان أحمد دحبور قوله في حديث صحافي بمسقط رأسه حيفا عام 2016: "لديّ نظرية تقول إن البشر نوعان: أناس من حيفا، وأناس من غير حيفا، ولذا أقول إن أمي هي التي ربطت حبل سرتي بحيفا.. كانت أمي تقول إن المطر ينزل في حيفا على الزرع فقط، وليس على الناس، لذا تبقى حيفا خضراء دائمًا".

وفي موضع آخر قال دحبور عن والدته "قالت أشياء وأشياء، منها أن في حيفا جبلًا اسمه الكرمل، يتحرك نحو البحر كل سنة سبع خطوات، فأقول لها إن هذا يعني أنه سيأتي يوم يصبح فيه الجبل في البحر، فتقول: في السنة الفردية يتحرك الجبل من اليمين إلى اليسار، وفي السنة الزوجية يتحرك من اليسار إلى اليمين، ولذا يبقى مكانه كي يحرس حيفا".

وقال في موضع ثالث: أبي قال بعد الرحيل متحسرًا: لماذا رحلنا؟ لو بقينا كان أفضل.. ليتني أصبت في يدي أو رجلي أو حتى فقدت ابني، وليتني قبلت رأي جاري، يقصد جارنا أبو جورج الذي وقف في طريقه وقال له "حرام عليك يا شيخ.. والله لو خرجت من هنا فلن تعود لتراها. حرام عليك وعلى أولادك وبناتك".. وكان أبي يبكي ودموعه تتساقط من لحيته، فقد كان ملتحيًا وعلى رأسه عمامة.

الحادي والعشرون من نيسان

للحادي والعشرين من نيسان/ أبريل حكايات مع دحبور، فهو يوم مولده في حيفا، التي بقيت خسارتها جرحه الأول، وكان ذلك في عام 1946، وفي الحادي والعشرين من نيسان في العام 1948 أجبرت أسرته في يوم مولده الثاني على الرحيل في إثر النكبة، وكانت زيارته الأولى بعد التهجير إلى حيفا في الحادي والعشرين من نيسان أيضًا عام 1996، أي في ذكرى يوم مولده الخمسين.

يقول: لم يشعل لي أهلي شمعتين احتفاءً بعيد ميلادي الثاني، إنما حملوني وهاجروا بي في المنافي.. في الزيارة الأولى لحيفا ذهبت إلى بيت جدي، ووجدت أن قاطنيه من العرب فارتحت قليلًا.. حيفا هي خلاصة الروح، عرفتها عن أمي وجدتي.. على الدوام كان يساورني القلق ما إذا كانت بذات الجمال الذي نقل لي فعلًا، أم أن هذه الحيفا هي من نسج خيال أمي.. حين زرتها، كانت حيفًا أكثر جمالًا وبهاء مما وصفته لي.

الشعر في حمص

أما الكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع فنقل حكاية من حكايات "الولد الفلسطيني" في رسالة تلفزيونية إلى حفل إحياء الذكرى في المسرح البلدي بمدينة رام الله، حيث قال: بدأت علاقتي به في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.. كان لا يزال في ريعان شبابه، وسألته عن مكان سكنه، فأجاب "في حمص"، فتساءلت إن ما كانت حمص قادرة على إنجاب شعراء، لكون الشعراء عادة يعيشون في العواصم.. طلب مني زيارة حمص لأدرك علاقتها بالشعر، واكتشفت بالفعل بعد سنوات أن هذه المدينة التي أحبها دحبور، وكتب فيها أجمل أشعاره، نابضة بالشعر والحياة، وأن معظم شعراء سورية خرجوا منها عبر التاريخ منذ أيام ديك الجن الحمصي وحتى اليوم.

الأم والرق والانعتاق

في حوار نادر عثرت عليه كان دحبور سرد حكاية لافتة عن والدته، بقوله: كل منّا له أم، لكن لعل من حسن طالعي أني رزقت بأم نوعية، فهذه المرأة سبق أن بيعت في طفولتها بيع الرقيق إلى عائلة تركية أرستقراطية.. الخالة (زوجة الأب)، وكي تتخلص من ورثة الزوج الغني، أرادت أن تتخلص من الأطفال، فوزعت أخوالي على بيوت متعددة، أمّا أمي فباعتها إلى تاجر تركي مسيحي كان يتعامل معه جدي، والد أمي، وقالت له بحسب التعبير الشعبي: "إن شالله ترميها في الدوامية"، أي فلترمها في البحر، "فلا يعنيني منها إلا أن تدفع لي ثمنها".

وهكذا نشأت الطفلة (والدة دحبور)، وهي ابنة الأعوام الخمسة، في تركيا، وتحديدا في إزمير، وكان من الممكن أن تنشأ شابة تركية وتكبر على ذلك، لولا مفارقة أنه لدى هذا البيت التركي أمَة عربية مسلمة، اسمها منيرة، أشفقت على هذه الطفلة، وبدأت تلتقط منها شيئًا فشيئًا أخبارها، وتكوِّن معلومات عن أسرتها ومكان سكنها وبلدها، في حدود ما تدلي به طفلة في الخامسة من العمر. كبرت الطفلة وبدأت تنضج وهي على درجة عالية من الجمال، الأمر الذي لفت نظر (عمسو) أي عبد المسيح، الشاب الكبير في البيت الذي كان يعي أن هذه الفتاة ليست شقيقته، كما يقال في البيت، وإنما هي أجنبية "مشتراة"، أو مستحضرة بطريقة من الطرق، وبالتالي بدأ يلحّ على أمه للزواج منها. وكي يتم التغلب على هذه العقبة، فإنه يجب أن يتم تبليغ الفتاة أنها ليست شقيقته، وإنما هي بنت عربية أتت من حيفا، وهنا تدخلت منيرة، فتحدثت مع الفتاة بما لم تكن تستطيع أن تحدثها به من قبل، وأوحت لها بأن أهلها في حيفا أغنياء وأمراء، أي صنعت لها جنة بديلة اسمها حيفا، وأن هؤلاء الأتراك ليسوا أهلها، بل إنهم سرقوها من هناك، الأمر الذي سبب إرباكا كبيرًا للطفلة التي كانت أكثر ما تكره العرب والمسلمين: العرب بسبب ثورة الشريف حسين، فآنذاك في الثقافة التركية كان يقال عرب سيس (أي عربي خائن)، والمسلمون لأنه كان في تركيا في عام 1915 مجازر ارتُكبت ضد الأرمن، وكانت مجازر مروعة، فأن تنتمي إلى كل ما ليس هي، شكّل مشكلة كبرى بالنسبة إليها.

كان أمامها، والحديث للراحل دحبور، فرصة استثنائية نادرة، فهذه الأسرة التي "امتلكت" الطفلة هي أسرة موسرة ومن وجهاء إزمير، ومصطفى أتاتورك من إزمير أصلًا، وبما أنهم أسرة وجيهة فقد زارهم أتاتورك ذات يوم، وبترتيب من منيرة دخلت الفتاة عليه بالقهوة للضيافة، ولم يكن هذا تقليدا شائعًا أن تقوم الفتاة بالخدمة، فلفت الأمر أتاتورك وأيقن أن هنالك قصة ما.. وما لبثت الفتاة أن انفجرت بالبكاء أمامه، وقالت له: أنا عربية مسلمة، وهؤلاء سرقوني وأتوا بي إلى هنا، روت له الرواية التي زرعتها منيرة في ذهنها.

وأضاف دحبور: تقول والدتي عند روايتها هذه القصة إن أتاتورك الذي كان ذا عينين خضراوين حادتين، والذي قلّما كان يبتسم، رمى صاحب البيت بنظرة نارية قائلًا له: غدًا سيأتي موظف من القصر ويأخذ هذه الفتاة إلى أهلها في حيفا.. انتهى الحوار، وهكذا فجأة وبجملة واحدة تنقلب حياة الفتاة بشكل دراماتيكي.. بعد انصراف أتاتورك، وهو أبو الأتراك الذي لا يناقَش ولا يُردّ له قرار، تقول أمي إنها تعرضت لضرب مبرح من طرف أفراد العائلة الذين مزقوا ثيابها وشتموها وشتموا أصلها العربي غير الوفي وغير الأمين.

في اليوم التالي وجدت نفسها على ظهر السفينة التي اسمها "أمينة" لتقلّها إلى حيفا مع ورقة مكتوبة بخط منيرة، غير الواضح وبلغة ضعيفة، عن هذه الفتاة، استنادا إلى ما فهمته منها عندما كانت طفلة. وعندما أوصلتها السفينة، ظهرت فجأة امرأة كهلة قوية وذات ذكاء واضح وقالت: "هذه الفتاة هي ابنة أخي"، واحتضنتها وبكت معها، فأشفق عليها الناس وقالوا لها: خذي بنت أخيك وتيسري.

تقول والدتي، يضيف دحبور، إنه في تلك الليلة أتت هذه السيدة بقابلة كشفت عليها كي تتأكد من عذريتها، حتى إذا تأكدت أن "البضاعة سليمة" أتت بشيخ عقد قرانها على ابنها الذي هو أبي.. هذا الحدث (الزواج) شكّل انعطافة نوعية في حياتها وفي حياة الرجل الذي هو أبي، إذ كان ولدا وحيدا، مدللًا، على عدة بنات، لكنه فجأة شعر بأن الله وهبه نعمة تفوق الخيال فتوجه إلى الشيخ عز الدين القسام الذي كان قد أتى إلى حيفا حديثًا، وكانت سمعته الاجتماعية طيبة جدا. وبدأ والدي يروي له أنه رزق بحورية من البحر، غير أن مشكلتها أنها مسيحية، وأنها لا تتكلم العربية، فجاء الشيخ إلى البيت واستمع إلى الفتاة وبدأ يحدثها بلغتها وهو يجيد التركية، وكان وجهه مريحًا ويبعث على الاطمئنان، فبدأت الفتاة تطمئن إليه وتستجيب لقبول الحياة، وهكذا اقتنعت بالزواج من أبي وواصلت حياتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.