}

الشعبوية: "نحن الشعب، فمن أنتم؟".. من المصطلح إلى المفهوم(5)

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 2 أكتوبر 2019
هنا/الآن الشعبوية: "نحن الشعب، فمن أنتم؟".. من المصطلح إلى المفهوم(5)
لوحة للتشكيلي يوهان المعمدان سيلي (Getty)
نتابع في "ضفة ثالثة" ملفا حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، استطلعنا فيه آراء عدد من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة إمكان القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة ستبقى مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.

هل ترتبط الشعبوية بالعولمة أم هي ظاهرة مناقضة لها؟ هل يكفي التركيز على القواسم المشتركة لاعتبارها ظاهرة معولمة؟ هل نحن أمام شعبوية أم شعبويات؟ وما علاقتها باختلال التوازن بالنظام الدولي؟ وهل ما زالت هناك حدود واضحة بين الأدبين الشعبوي والنخبوي؟ وما الفرق بين الشعبي والشعبوي؟ إنها تساؤلات حاول المشاركون في هذا الجزء الخامس من الملف الإجابة عنها.


علي سفر، كاتب وشاعر سوري:
عولمة الشعبوية في ميزان ما هو "متاح دوليا"
لم يعد التفكير بجوهر الظاهرة الشعبوية هو المهم في هذا الوقت، رغم أن الجمهور يحتاج لمن يشرح له التفاصيل دائماً، ولكن المهم برأيي الآن هو دراسة ملامح ومظاهر الشعبوية في تبدلاتها وظهوراتها بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب!
فهي لم تولد في حيز جغرافي سياسي محدد ومن ثم انتقلت إلى بلدان أخرى كالأيديولوجيات التي يعرفها العالم الحديث، بل هي ممارسة شاعت في كل الأزمات، وتم الحديث عنها في الأدبيات التاريخية دون أن يتم الاتفاق على مصطلح يعبر عنها، ولتبيان الأمر يحتاج الدارس للعودة إلى تبيان جوهرها في الزمان والمكان المحددين من أجل وضعها في السياق الذي يجب أن توضع فيه!
الشعبوية ومن خلال ظواهرها القديمة في الشرق وفي الغرب على حد سواء، مهملة وغير ذات أهمية سوى في كونها نتاجاً لواقع تاريخي، أما في العصر الحديث، فهي نتاج لثقافة متراكمة، لا ترى في الواقع سوى وقود لها، على أرضية فشل المشاريع الرسمية في تحقيق الرفاه، وفي إرضاء النزعات المتطرفة في الأيديولوجيات الاجتماعية والقومية والدينية، ومن هذه الأخيرة نرى النماذج الطائفية والفئوية الأضيق. ففي كل تجمع بشري هناك من يذهب إلى خلق خطاب يرضي الفئات الأكثر حاجة، والأشد تعصباً، ومعاناةً!

وضمن هذا التصور، بالتأكيد باتت الظاهرة متعولمة، ومتكررة، وقابلة للتمثل في كل البيئات الخصبة، ولكن السؤال الذي غالباً ما يراود الباحثين والذي يفتتحون به دراساتهم ومقالاتهم إنما يتمحور حول ما يربط بين ظاهرة ترامب الأميركي وبولسونارو البرازيلي، مع عائلة لوبن الفرنسية، ومع غيرها من الظواهر، كان يواجه بأجوبة تتحدث عن التشابهات في ممارسات كل هؤلاء وغيرهم! ولكن قلة من حاولوا أن يجدوا أجوبة مختلفة، فعلى سبيل المثال، بات من اليسير على هؤلاء لو أرادوا أن يبحثوا في التأثير الخطير لظاهرة غير مؤطرة ضمن أقواس الشعبوية، كظاهرة نظام بشار الأسد وجرائمه، على السياق الشعبوي حول العالم! وربما يسهم تحليل هذا الأمر في تبيان مدى تعولم الظاهرة الشعبوية، فحين يرتكب نظام ما جرائم متتالية ضد شعبه، ويفلت من العقاب، بعد أن يتم تعطيل الآليات المقررة لمثل هذا الواقع في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال قواعد عمل المجلس نفسه عبر استخدام الفيتو، ولا يتم اللجوء لآليات مضادة للجمود المؤدي لتكرار وقوع الجرائم، فإن هذا الأمر يرسل رسالة للعالم كله تقول بأن ما كان ممنوعاً بحكم الضوابط الدولية، بات متاحاً طالما أن نظاماً كنظام بشار الأسد نجا من العقاب. هذا الواقع ليس جديدا بل يعيد تكرار ما جرى في إسبانيا عام 1936 حينما تمكن انقلابي مثل فرانكو وبدعم من الفاشيين الإيطاليين والنازيين الألمان من إبادة الجمهورية، ونجا من العقاب حينما غضت الدول الديمقراطية الطرف عنه، وكان مؤشراً على إمكانية أن يتسع الخطاب الشعبوي حول أوروبا ليلتهم القارة كلها في حرب مدمرة قتلت عشرات الملايين من البشر.
لقد هدد بشار الأسد وحلفاؤه العالم منذ بداية الثورة ضده، ونفذ تهديده عبر خلق الأزمة تلو الأزمة، وكل واحدة منها كانت تقود المتأثرين إلى التجمع في واقع احتجاجي يحكمه خطاب شعبوي متعاظم، ويكفي أن نحلل تأثير موجات اللجوء إلى أوروبا وتناميها بسبب الأزمة السورية لنرى كيف استفاد الخطاب الشعبوي للأحزاب اليمينية هناك من هذا الواقع ليضخ الروح في مؤيديه!


حسام ميرو، باحث وشاعر سوري:
الشعبوية واختلال التوازن في النظام الدولي
تعود الشعبوية اليوم لتحتّل مكانة بارزة في الخطاب والممارسة السياسيين عالمياً، والسنوات الأخيرة تعبّر بشكل واضح عن عدد من الأزمات التي سمحت بعودة الخطاب الشعبوي، فليست مقولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب "أميركا أولاً"، إلا أحد تلك التعبيرات الصارخة عن واقع الحال اليوم، وقد خاض الرئيس الأميركي حملته الانتخابية تحت هذا الشعار، ومنذ وصوله إلى الحكم يقوم بتحويل الشعار إلى وقائع سياسية وقانونية واقتصادية.
يستند الخطاب السياسي الشعبوي المعولم، وما ينطوي عليه من قيم ثقافية، إلى إعلاء الروح القومية، بوصفها ركيزة الحماية الأساسية، ويستعيد هذا الخطاب مراحل من التاريخ تنتمي إلى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ما يعني أن المحاولات التي جرت لتجاوز تلك المراحل أصابها الكثير من الإخفاق.

بالطبع إن أي حديث عن الشعبوية العالمية لا يمكن فصله عن النظام الدولي القائم، فالفعل وردّ الفعل في هذا النظام، بل وعليه، يخضع لقاعدة الأواني المستطرقة، فقد شهد العالم في الفترة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة خفوتاً في الخطاب الشعبوي، خصوصاً مع قدرة أوروبا الذهاب نحو بناء مؤسساتي هو الاتحاد الأوروبي، الذي تصدّى لمهامٍ عدة، من بينها محاولة تكريس "الأوروبية" في مواجهة القومية.مع نهاية الحرب الباردة، شهد العالم ثورتين كبريين، هما ثورة التقانة وثورة الاتصالات، مع التبشير بـ"نهاية التاريخ"، بحسب فرنسيس فوكوياما، ورافق ذلك طرح منظومة مفاهيمية ثقافية وإنسانية، تجلّت فيما يسمى "المواطن العالمي"، لكن العقود الثلاثة الماضية، أظهرت أن الصراعات في سوق العمل الدولية هي أكبر من الأطروحات المفاهيمية، التي ساندتها بقوة الشركات العابرة للجنسيات والثقافات.
في أوروبا، وقعت بريطانيا تحت مأزق البريكسيت، وفي إيطاليا وصل حزب الرابطة اليميني/ الشعبوي إلى الحكم، وفي المجر كذلك الأمر، وفي ألمانيا يحقق "حزب البديل" اختراقات كبيرة في انتخابات المقاطعات، وفي روسيا يستعيد الرئيس بوتين السياسات القومية، بما فيها التحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية، وصولاً إلى البرازيل التي يرأسها جايير بولسونارو، الذي نجح في انتخابات الرئاسة تحت شعار "البرازيل أولاً".
منح الفشل في إنتاج نظام دولي متوازن بعد ثلاثة عقود من سقوط القطبية العالمية الفرصة لعودة الشعبوية على نطاق عالمي، كذلك الأمر مع فشل الاتحاد الأوروبي، كمظلة ما فوق قومية، في تحقيق التنمية والرفاه المتوازن لمختلف الشعوب الأوروبية، بل عزز هيمنة اللاعبين الكبيرين تاريخياً؛ ألمانيا وفرنسا.
من جهة أخرى، فشلت الدول والمؤسسات الكبرى في تصحيح مسار الاقتصاد العالمي بعد الأزمة المالية في 2008، بل إن المؤشرات الراهنة تشير إلى أزمة جديدة، ربما تكون أكثر عمقاً وحدة، ما يعني أننا أمام كل العوامل التي تسمح بعودة الشعبوية وانتشارها في العالم، حيث يصبح الارتداد نحو الذات القومية، بكل ما يحمله من خطر عودة وصعود الفاشية، أمراً واسع الاحتمال، في مواجهة الإخفاق في بلورة نظام عالمي متوازن.


عمر بقبوق، كاتب ومخرج مسرحي سوري:
شعبوية أم شعبويات؟
قبل الحديث عن عولمة الشعبوية ومتى باتت الشعبوية ظاهرة معولمة، علينا أن نميز ما بين نوعين من الشعبوية: الشعبوية القائمة في العالم الثالث كامتداد لعصر القوميات، الذي انحسر في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي استطاعت أن تصمد وتتكيف مع كل المستجدات العالمية بما في ذلك عصر العولمة الذي بدأ بثمانينيات القرن الماضي، كما هي الحال في الدول العربية. والنوع الثاني هو الشعبوية التي تنامت في أميركا والدول الأوروبية التي وصلت إلى طور الدولة ما بعد القومية؛ وقد تجلى هذا النوع بأبرز صوره بوصول دونالد ترامب إلى السلطة في أميركا، وبمشروع "بريكسيت" القاضي بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وعند الحديث عن الشعبوية لا يبدو أنه من الصواب وضع هذين النوعين من الشعبوية على ذات السوية، حيث أن النوع الأول يتبنى خطاباً شعبوياً شمولياً، تلجأ حكومات ديكتاتورية لفرضه بأساليبها القمعية. وأما النوع الثاني، ففيه يبدو أن الخطاب الشعبوي يستهدف التحركات القومية تحت مستوى الدولة، التي تبنت توجهات سياسية انفعالية تتناقض مع معايير العولمة، ويصل أصحاب هذا الخطاب إلى الرقعة السياسية الفاعلة بطريقة ديمقراطية، وبالاستفادة من الوضع السياسي والاقتصادي القائم في الدولة. وهو ما يمكن لمسه بصورة واضحة في بريطانيا، التي تتجه نحو العزلة بانسحابها من الاتحاد الأوروبي نتيجةً لقرار "البريكسيت" الذي تم الاقتراع عليه بشكل ديموقراطي، دون إغفال أن معظم من صوتوا لصالح "البريكسيت" هم المتضررون من الشكل الاقتصادي المفتوح، من عمال وأصحاب مهن صغيرة، الذين تأثروا سلباً بنتائج العولمة، وما تبعها من حركات هجرة من قبل مواطني الدول الفقيرة نحو المراكز والدول الكبرى، فالطبقات الوسطى والفقيرة في بريطانيا تضررت من حركة الهجرة التي شهدتها أوروبا من دول أوروبا الشرقية الفقيرة نحو دول أوروبا الغربية الغنية.
ولا تختلف الحال في أميركا، فوصول دونالد ترامب إلى السلطة بعد أن قدم مشروع لبناء سور يفصل أميركا عن المكسيك ويحد من الهجرة غير الشرعية، هو مؤشر إلى أن غالبية المنساقين خلف الخطابات الشعبوية القاضية إلى أشكال تجارية أكثر عزلة هم أولئك المتضررون من الشكل التجاري المفتوح الذي فرضته منظمة التجارة العالمية في سنة 1995، أي زمن العولمة.
وذلك ما يدفعني للقول بأن الأفكار المنتشرة حول عولمة الشعبوية هي أفكار ذات طابع نخبوي متعال، تميل نحو التعميم بتفسيرها للظواهر السياسية العالمية دون أن تتعاطى بشكل موضوعي مع المسببات التي أوجدت جمهورا سياسيا لهذا النوع المتطرف من الخطاب الشعبوي في كل بقعة جغرافية على حدة، وتنظر بدونية إلى الجماهير المنخرطة بالتحركات السياسية الميالة للانغلاق والمناهضة للسياسات الاقتصادية الناجمة عن العولمة، حيث أن غالبية المؤيدين للتيارات الشعبوية في بلاد العالم الأول هم من الطبقات الشعبية المعدمة التي تضررت بالشكل الاقتصادي المفتوح. وبدلاً من أن تحاول النخب السياسية والثقافية فهم متطلبات هذه الطبقات الشعبية والبحث بالأسباب والعوامل التي قد تحد من خطر الشعبوية، ظهرت العديد من الأفكار المتطرفة بمناهضتها للتيار الشعبوي، فقللت النخب من شأن هذه الشرائح الشعبية، وشككت العديد من الدراسات بجدوى الديمقراطية التي تعطي لمن وصفتهم بـ"الجهلة" و"الرعاع" القدرة على التأثير بالمستقبل السياسي، لتغالي بعض المقالات مناهضتها لشكل الديمقراطية القائمة وتحملها مسؤولية توجه العالم نحو التطرف، ووجدت بالديمقراطية الإغريقية التي لا تعطي حق المشاركة السياسية الفاعلة سوى للنخب نموذجاً يحتذى به، بل إن الأحداث الأخيرة أعادت استخدام مصطلحات تتعاطى مع هذه الطبقات بدونية، مثل مصطلح "البروليتارية الرثة"، الذي استخدمه كارل ماركس، أو "قاع المجتمع".   


وهيبة الرايد، باحثة وأكاديمية مغربية:                            
هل باتت الشعبوية ظاهرة معولمة؟
"أينما تكون قوة مهيمنة تكون مقاومة". هكذا كان تصور فوكو صاحب نظرية "نظام الخطاب" الذي تعمق في تاريخ الشعوب والمؤسسات الاجتماعية للدولة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ("نظام الخطاب"، ميشيل فوكو، ت. محمد سبيلا، 2012). مع بدايات عصر ما بعد الحداثة وما أنتجته من تأثيرات فكرية ونضالية في الأنظمة السياسية تغير أيضا الخطاب السياسي إلى خطاب يدغدغ المشاعر الجماهيرية والشعبية.
إنها "الشعبوية"، حيث دائما الشعب ضد النخبة الحاكمة، والذي في الغالب، وهذا ما أثبته التاريخ منذ يوليوس قيصر مرورا بنظام هتلر إلى التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكذلك حملة ترامب الانتخابية "أميركا أولا"، كان الهدف دائما مصلحة خاصة لا عامة على عكس ما كان يدعيه ساسة خطاب الشعبوية. هذا الخطاب الشعبوي المعولم لم يقتصر على العالم الغربي فقط، بل انتشر ليؤثر في العالم العربي أيضا. فهل باتت الشعبوية ظاهرة معولمة؟

هناك مقاربتان متناقضتان للظاهرة الشعبوية. الأولى تفيد أن الظاهرة الشعبوية مرتبطة بالعولمة، فساهمت هذه الأخيرة في انتشار الشعبوية في العالم الغربي والعربي على السواء. مع مطلع تسعينيات القرن الماضي برزت الظاهرة العالمية لثورة المعلومات والاتصالات، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة. عُرفت هذه الظاهرة بـالعولمة التي هدفت إلى ترويج وتعميم قيم ومبادئ وسلوكيات عالمية وفق معايير المؤسسة الرأسمالية الغربية التي أبرز أهدافها توحيد سوق الاقتصاد على المستوى العالمي. وعليه تم إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وغيرها من المؤسسات المرتبطة بالعولمة للسيطرة على الشعوب. ومما سرع في ظاهرة العولمة مؤخرا هذه الثورة الهائلة للتكنولوجيا والعالم الرقمي.
كان من السهل إذاً تأثر الكثير من الشعوب في المجتمعات - خاصة العربية-  المستهلكة لمنتوجات العولمة وأن تسارع إلى تبني الخطاب السياسي الشعبوي المعارض للأنظمة ومؤسسات الدولة. هذا الخطاب السياسي الذي نجح بدرجة امتياز فقط لأنه يخاطب مشاعر الإنسان ويتوجه إلى الطبقات الشعبية بطريقة مبسطة بغية التحريض على النظام القائم والنخبة المسيطرة عليه، خاصة بعد تنامي مشاعر الإحباط في الأوساط الشعبية.
أما المقاربة الثانية لخطاب الشعبوية فتعتبر الشعبوية نقيضا للعولمة. فالبعض يرى أن "ولادة ظاهرة معينة من وجهة نظر فلسفية يخلق بالضرورة نقيضها الرافض لها الذي يكون ضعيفا في البداية إلا أنه يزداد قوة مع الزمن على حساب تراجع دور الظاهرة نفسها، فما نلمسه منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 هو تراجع دور العولمة وبروز نقيضها الذي اصطلح على تسميته الشعبوية" (محمد عاطف جمال، الشعبوية نقيض العولمة، جريدة البيان: 10 فبراير 2017). كأنما هنا هجمة مضادة للنموذج الرأسمالي "العولمة" من التيار الشعبوي نفسه لصالح "الشعبوية".
جرَّت العولمة على العالم أزمات اقتصادية وإنسانية خاصة منذ الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 مرورا بأحداث الربيع العربي 2011 وصولا إلى الحراك الشعبي 2017. إن وسائل التواصل الاجتماعي كمظهر للعولمة لعبت دورا مهما في تنامي الشعبوية في العالم، إذ أصبح لها فعلها القوي في تحريك الشعوب، كما شهدنا في احتجاجات السترات الصفراء الفرنسية التي قادها ونظمها الحراك الشعبي. غالبا لم يخطر ببال من ساهموا في تأسيس القيم الرأسمالية للسيطرة على العالم، أن العولمة نفسها ستكون هي الأداة الأساسية لانتشار ظواهر سياسية، اجتماعية، ثورية وشعبوية أيضا.
بين تضارب الأفكار عن الشعبوية والعولمة، يبقى الخطاب الشعبوي من أبرز خطابات الساسة والزعماء لكسب رهان القيادة باسم الجماهير والشعب.



أمل بوشارب، روائية جزائرية:
المواقع المتبادلة بين الشعبوية والنخبوية
محاولة البحث في هذا المفهوم قد تكون مثيرة للاهتمام في الأدب العربي، إذا نظرنا إليه في السياق العالمي. إذ تتضمن مدونة الأدب الغربي أجناسا سردية تندرج ضمن ما يعرف باسم الأدب الشعبي popular literature وهو الأدب الموجه للعامة، ويهدف إلى الامتاع بالدرجة الأولى وتحقيق أرباح مادية سريعة، في مقابل الأدب النخبوي الذي يتضمن ناحية فنية عالية وهو موجه إلى خاصة الخاصة. إلا أنه وفي الوقت الحالي أصبحت الحدود بين الأدبين في الغرب غير مرئية وغير قابلة للتحديد بشكل قاطع، بسبب حيوية النقد في متابعة النزعات الإبداعية التي تميل إلى كسر القوالب الجاهزة. بالإضافة إلى عامل الزمن الأساسي للبت في مدى فنية أي عمل، ويكفي أن نعلم بأن شكسبير كان في زمنه يعد من كتاب الأدب الشعبي الموجه لإمتاع جمهور المسرح، لكنه مصنف الآن كأديب نخبوي. أما في الأدب العربي إذا ما طبقنا ذات المقاييس، ونظرنا إلى معيار طلب المتعة الموجهة لأكبر عدد من المتلقين، فسيعود بنا الزمن إلى المعلقات (سهلة الحفظ حينها ومنتشرة على نطاق واسع)، وأشعار سوق عكاظ، مقابل الآداب القديمة التي كان لا يصيب خبرها آنذاك سوى نخبة من الرهبان متعددي الألسن. أما قصائد الفخر والتي كان يباهي بها أعظم شعراء العرب بتفوق خصال قبائلهم عن غيرها، فستصنف كأعمال شعبوية بمصطلحات الصوابية السياسية لهذا الزمن.
هذه المقابلة تدل على أن الاعتقاد المطلق بفكرة الثنائيات الضدية والصراعات بين طرفي نقيض لا تفصل بينهما عادة سوى حدود قابلة للتبدل لا تشكل على الأقل أرضية صلبة للبحث.

والحقيقة أننا إذا ما رغبنا بأن نتوسع في فكرة قابلية تغيير المواقع بين النخبوية والشعبوية/الشعبية في الأدب في إطار الجغرافيا والتاريخ، ووقفنا على معيار مدى فنية المادة المقدمة وقدرتها على الإدهاش من الناحية الإبداعية لتحديد معايير الأدب النخبوي، وذلك في مقابل النصوص المتوقعة والتي تكتب بصيغة محددة formulaic، فسنجد أن أغلب ما ينشر في السوق العربية حاليا، ويصنف على أنه نخبوي، هو تماما ما تنطبق عليه معايير الأدب الشعبي في الغرب سنوات السبعينيات. مع اختلاف مسميات الأجناس السردية بسبب الاختلاف في تطور حركية الشعوب، ومثالنا على ذلك أن مدونة الأدب الشعبي في الغرب، لا سيما في الجنس البوليسي، تتسم بطغيان شخصيات نمطية مكررة على غرار شخصية المحقق الذكي والمرأة الفاتنة التي تحاول إغواءه، والتي ينتهي معها عادة في السرير ثم ينجح في نهاية الرواية بحل لغز الجريمة. ومثل ذلك نجد في الأدب العربي المعاصر شخصيات نمطية أخرى مكررة كالمرأة المضطهدة والمثقف المأزوم/ أو العربي المكبوت في حبكة سوداوية ذات نهاية متوقعة عادة ما توظف هي الأخرى الجنس بقوة بوصفه عنصر جذب معروف في الآداب الشعبية في عصرنا الحالي (الجنس يبيع، وهي قاعدة معروفة في التسويق). ومن الطبيعي ألا يشمل الأدب الشعبي عندنا، كما هي الحال في أميركا، أدب الخيال العلمي والبوليسي، وهما جنسان بدأت ملامحهما بالظهور مع الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي، وكذا انتشار التعليم وتراجع نسبة الأمية في المجتمعات الغربية. في الحالة العربية قد تضم مدونة الأدب الشعبي حاليا، إلى جانب قصص الحب المستحيلة، روايات الحروب والاضطهاد النسوي، والمثلية، إلى جانب الحبكات الإكزوتيكية، والتي ازدهرت جميعها في العقود الأخيرة مع انتشار الحروب والاستعمار الجديد والاهتمام الغربي بترجمة الآداب التابعة subaltern، بالإضافة إلى انتشار الجوائز الأدبية، إذ يبقى العامل المادي مهما في تحديد مسارات الآداب الشعبية وعنصر الدعاية الذي تضمنه، في مقابل الأدب الرفيع الموجه للنخبة، والذي يفترض أنه يتضمن قدرة إبداعية عالية يتحرر فيها الكاتب من الوصفات المسبقة، وهو موجه للقراءة على نطاق ضيق، كحال روايات الخيال العلمي، والتي يعتبر انتشارها في الغرب في إطار شعبي هو أمر أكثر من طبيعي كما ذكرنا، بينما لدينا فإن كتابتها تكون موجهة لنخبة قراء يبحثون عن متعة فكرية بحتة، ويتهيؤون بالأساس على محمول معرفي يؤهلهم لفهم مصطلحاتها بعيدا عن قاموس نشرات الأخبار المبتذل أو مفردات السرير البيولوجية.
والحقيقة أن اعتماد هذه المقاربة للبحث في الخطاب الشعبوي/النخبوي في الأدب العربي حاليا، قد يساعدنا على فهم حالة النمطية الأسلوبية والموضوعاتية السائدة حاليا في سردياتنا، وحتى في الخطاب الشعري، كما من شأنها أيضا أن تساعدنا على تشخيص حالة إخفاق "النخبة" في قيادة قاطرة التغيير المجتمعي إذا كان ما يقدم هو انتاجات نمطية لا ترقى إلى جوهر الفن بوصفه أداة تعبير ثورية تنفر من القوالب الجاهزة وتسعى إلى التجديد. 



سارة كرم، روائية ومدربة كتابة إبداعية مصرية:
الأدب بين الذاكرة الشعبية والاستهلاك الشعبوي
بداية، لتجنب الخلط الذي قد تحدثه الكلمة في أذهان بعض القراء، الأدب الشعبوي ليس هو الأدب الشعبي، فهذا شيء وذاك شيء آخر تماما. الأدب الشعبوي هو الأدب الاستهلاكي الذي يتملق غرائز الجماهير، وحاجاتهم النفسية السطحية، ولا يأخذهم إلى الأعمق من ذلك أو يرتقي بعقولهم ووعيهم، هو أدب منوم للوعي وليس موقظا له. ولكن كلمة شعبوي لها معنى آخر لا يحمل هذه السمات السلبية وهو يمكن أن يرادف الجماهيرية أو الأدب الذي يلقى رواجا جماهيريا ويجذب عددا كبيرا من القراء. أما الأدب الشعبي فهو ذاكرة حضارية لروح وتراث الشعوب، ونوع خاص من أنواع الأدب يتميز بمصادره الشفاهية.
إذاً هل على الأدب أن يكون شعبويا؟ هل على الأدب أن يكون نخبويا؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بأكثر من إجابة، ستعكس كل منها حالة مختلفة للأدب. بالنسبة لي فالحالة المثالية: على الأدب أن يكون نخبويا وشعبويا (بالمعنى الإيجابي للكلمة) في الوقت ذاته، أو أن يكون نخبويا فقط.
أما حالة الأدب الشعبوي الخالصة، الأدب الاستهلاكي، فهي التي تشكل انتقاصا من قيمة الأدب.
لتوضيح هذا الأمر أكثر يمكن القول إن هناك أربعة أنواع من الكتاب:

* كاتب كتاباته جيدة، وجاذبة للجماهير (حالة أدب يجمع ما بين النخبوية والشعبوية) أدب جيد، وناجح جماهيريا أيضا، لأنه يمس موضوعات وقضايا مهمة تجذب الجماهير بأسلوب غير معقد. هذا النوع من الأعمال يتمتع بقيمة فنية عالية كما يستطيع جذب الجماهير. يمكن اعتبار أعمال مثل أعمال الروائية التركية أليف شفق، مثالا نموذجيا على هذا النوع من الأدب. وكثير من الأعمال الأدبية التي تعتبر من الخوالد أو الروائع، هي أعمال شعبوية ونخبوية في الوقت ذاته، أعمال مثل روايات تشارلز ديكنز، ودوستويفسكي، ونجيب محفوظ. ويمكن القول إن الاتجاه الواقعي في الأدب يميل لأن يكون نخبويا وشعبويا في الوقت ذاته أكثر من الاتجاهات الأخرى، كالرمزية، والواقعية السحرية، وتيار الوعي، وغيرها من اتجاهات تحتاج لثقافة أكبر لاستيعابها، وهي بذلك أقل شعبوية من الاتجاه الواقعي المألوف.
* كاتب كتاباته جيدة، وغير جاذبة للجماهير (حالة أدب نخبوي) تقرأه نخبة متخصصة أو صفوة من القراء المتمتعين بثقافة عالية وباع طويل في القراءة، أكثر مما تقرأه جماهير غفيرة. نخبوية العمل الأدبي، ربما تعود إلى تعقيد في الأسلوب الفني للعمل، أو تعقيد في المضمون المطروح بحيث يصبح بحاجة إلى ثقافة عالية، أو نوع خاص من الثقافة لاستيعابه، على سبيل المثال ثقافة فلسفية لرواية تطرح فكرة فلسفية معقدة، أو ثقافة عن الأساطير لرواية يقوم مضمونها على توظيف أسطورة قديمة، وربما تعود نخبوية العمل أيضا إلى اللغة نفسها أو الأسلوب اللغوي المستخدم في العمل. هذا الأدب النخبوي مهم، وهو يضيف لتاريخ الأدب وقيمته، ويحتفى به داخل نطاق المتخصصين، ويستفيد منه الأدباء والكتاب الذين يمتلكون ذائقة عالية للقراءة ورغبة في كتابة جيدة ومختلفة.
ما يحضر إلى ذهني الآن كمثال على عمل نخبوي، هو عمل مثل "يولسيس" لجيمس جويس.
* كاتب كتاباته جيدة، وجاذبة للجماهير، لكنه لم يصل لها بعد (حالة أدب يجمع ما بين النخبوية والشعبوية) لكن الكاتب ما زال يشق طريقه.
* كاتب كتاباته غير جيدة، وجاذبة للجماهير (حالة أدب استهلاكي شعبوي) وهذا النوع من الأدب منتشر في السوق، ويتهافت عليه كثير من الشباب والمراهقين، وبعض المبتدئين في عالم القراءة فليس كل المبتدئين في القراءة يتجهون إلى كتابات استهلاكية. أدب الاستهلاك الشعبي السريع، ضئيل القيمة الفنية وقد يكون مهترئا تماما على المستوى الفني، كما أنه ضئيل في قيمة مضمونه، ولهذا لا يصمد مع الزمن.
ما الذي بوسعنا فعله؟ لا شيء! فالأدب الاستهلاكي سيستمر في الوجود، والأدب الجيد أيضا سواء كان نخبويا أو مزيجا ما بين الاثنين ستظل قافلته تسير. ربما أفضل ما يمكن فعله إزاء مواجهة الرداءة بالفعل، هو تجاهلها، وربما حتى عدم توجيه النقد لها، حتى لا نساعد في نشرها أكثر. وبدلا من ذلك توجيه الاهتمام والنقد إلى الأعمال الجيدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.