}

أليس مغبغب تُخرج أشجارها من تحت الركام.. الجذور باقية

دارين حوماني دارين حوماني 15 نوفمبر 2020
هنا/الآن أليس مغبغب تُخرج أشجارها من تحت الركام.. الجذور باقية
اللبنانيون مختلفون بكل شيء لكنهم متفقون على: الأرز وفيروز

"صرنا نشبه هذه الأرزة التي تُقطع"
في تعريف شجرة الأرز في المعاجم العربية نقرأ "أن استراتيجيتها هي التأقلم مع أقصى الظروف". قد تكون هذه العبارة هي التي ألهمت الفنانة أليس مغبغب لإقامة معرض "هذه الأرزة التي تُقطع" إثر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس الفائت الذي أودى بحياة مئتي إنسان وجرح حوالي ستة آلاف بالإضافة إلى تدمير مئات الأبنية التراثية تدميرًا كليًا أو جزئيًا بما في ذلك عشرات الغاليريات في منطقة الجميزة، مار مخايل، والأشرفية القريبة من المرفأ ومن ضمنها غاليري أليس مغبغب.
ثمة صلة قربى بين شجرة الأرز وبين اللبناني، ليست الأرض وحدها التي تجمعهما، فهو أيضًا ذلك الكائن الذي يتأقلم باستمرار مع أقسى الظروف وأقصاها. هذا الانفجار لم يكن الأول، فرغم مرور ثلاثين عامًا على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية إلا أن شوارع بيروت شهدت عشرات الانفجارات والاغتيالات السياسية، لذلك كانت رغبة أليس مغبغب بعدم ترميم الغاليري والهجرة، بعد خراب المكان والمجموعات واللوحات المحفوظة فيه.
رفعت مغبغب حطام الغاليري وقررت تنظيم المعرض ليكون صرخة غضب بوجه بشاعة أصحاب السلطة والمصارف. تقول في حديثها لـ"ضفة ثالثة": "لم تكن المرة الأولى الذي يتحطم فيها الغاليري، لكن هذه المرة كان الخراب لا يوصف، حاولنا أن نُخرج اللوحات من تحت الركام، فبدأت تظهر بين أيدينا لوحات لها سنين تحتوي على رسومات لأشجار، ومن هنا جاءت الفكرة، وأول ما خطر ببالي أن اللبنانيين مختلفون على كل شيء لكنهم متفقون ومجتمعون على اثنين: شجرة الأرز وفيروز، وأحببت أن أفتتح المعرض مقابل ذلك المصرف الذي يتمترس وراء جدران الحديد ولنتمترس نحن وراء الجمال ووراء الإبداع، ووراء أجمل ما جمعتُه خلال ثلاثين سنة من الشغل الفني".
وتضيف مغبغب بأسى: "من غضبنا خُلق المعرض، سنويًا هناك حرائق تجتاح غابات لبنان، ثم يتم قطع الأشجار، السياسيون أوقفوا الحرب في التسعينيات وبدأوا بالسرقة، محوا تاريخنا، بدل أن يزرعوا الشجر مكان الشجر المحروق وضعوا لنا نيترات الأمونيوم مقابل بيوتنا. لبنان الآن موطن للّاجئين وليس لأهله، صرنا نشعر بأننا نشبه هذه الشجرة، يريدون قطع جذورنا ونريد أن نبقى". 

 هدى قساطلي، الهرمل، 2005 

















افتتحت أليس مغبغب معرضها "هذه الأرزة التي تُقطع" في17 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 وهو الذكرى الأولى لثورة 17 تشرين، ويضم لوحات، منحوتات، صورًا فوتوغرافية، رسومًا وفيديوهات، ويستمرّ حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2020 لينتقل بعدها إلى العاصمة البلجيكية، بروكسل، حيث كانت مغبغب قد افتتحت غاليري باسمها أيضًا في عام 2019 بمعرض "حبر، رسم، ليبوريلو" للفنانة والكاتبة الأميركية من أصل لبناني إيتيل عدنان (1925). وقد جمعت مغبغب في معرضها الحالي أعمالًا لخمسة عشر فنانًا من لبنان وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وبولونيا، وهم: إيتيل عدنان، هدى قساطلي، نديم أصفر، شارل بيل، إريك بويتيفين، لوتشيانو زانوني، لودويكا أوغورزيلك، مالغورزاتا باشكو، لويغي بيللي، يان دوموجيه، فاديا حداد، ليوبولدين رو، لي وي، فرانسوا هوتين، وباسكال كورسيليس، بمرافقة بصرية وموسيقية عبر الفيديو للفنان نيكولاس جايلاردون.

أليس مغبغب: "لبنان الآن موطن للّاجئين وليس لأهله، صرنا نشعر
بأننا نشبه هذه الشجرة، يريدون قطع جذورنا ونريد أن نبقى".



جاء في بيان المعرض: "لبنان من بين الدول القليلة التي تزيّن علمها بشجرة الأرز. قام الغزاة بقطع أشجار الأرز وأشجار أخرى إما لحاجة البناء أو لغرض التدمير. وعندما أعيدت السلطة في بلاد الأرز إلى أيدي الشعب منذ قرن من الزمن، لم يسارع أحدٌ إلى وضع أيّ سياسة أو خطّة لحماية الغابات. ثمّ حلّت سنوات الحرب ولم تساهم في إصلاح أو تغيير. وبين الجيوش الغريبة والميليشيات المحليّة، ما كان من الهكتارات الثلاثين المزروعة صنوبرًا في حرش بيروت منذ القرن السابع عشر بفضل الأمير فخر الدين، فقد انتهى بها الأمر أرضًا قاحلة. منذ عودة الهدوء وبداية مرحلة إعادة الإعمار كما تُسمّى، تسقط غاباتٌ كلّ سنة ضحيّةَ حرائق وحشيّة مروّعة أو موجة التحضّر المتفلّت التي تكتسح المناطق، مسبّبةً انحسار الطبيعة وتراجع التنوّع البيولوجيّ فيها، كلّ ذلك أمام لامبالاة زعماء الحرب المفترسين. عندما اندلعت الثورة الشعبيّة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت الحرائق تجتاح هضاب لبنان ووديانه وجباله. وكما سرت النيران في الغابات، امتدّت الثورة على كامل الأراضي اللبنانيّة، موحّدةً كلّ اللبنانيّين في هذه الكارثة البيئيّة ضدّ الخيارات المخزية التي قامت بها السلطة آنذاك، وضدّ سياسة الأرض المحروقة؛ هذه السياسة التي تمتدّ من البيئة إلى الاقتصاد، فتجرّ الشعب اللبناني نحو موت بطيء".

 نديم أصفر، غابة أرز تنورين، 2017 















 ليوبولدين رو، أشجار الصنوبر- رواسب العزلات الاستعمارية، 2018. 
















الأرز- ثابت أو راسخ
الأرز اسم سامي قديم معناه "ثابت" أو "راسخ"، وهو من الفعل "أرسى" في العربية بمعنى "ثبّت"، لأنه يتميّز بقوته ويعمّر طويلًا. اقترنت شجرة الأرز في لبنان منذ آلاف السنين بالقدسيّة، فقد تم ذكرها عشرات المرات في العهد القديم وفي النصوص الدينية. يخبرنا سفر صموئيل الثاني (5/11) كيف أرسل حيرام رُسلًا الى داود مع خشب أرز ونجارين ونحاتين ليبنوا بيته. وفي سفر الأخبار الأول نقرأ عن وفرة خشب الأرز الذي أرسله حيرام الى داود، ونقرأ "البارّ كالنخل يسمو ومثل أرز لبنان ينمو" (المزمور 92: 13) و"تشبع أشجار الرب، أرز الرب الذي غرسه"، (المزمور 104/ 16). وكان أكثر ما تشدق به سنحاريب هو تهديده بقطع أرز لبنان الطويل (أشعياء 37: 24)، "صوت الرب بالقوة… صوت الرب مكسر الأرز، ويكسر الرب أرز لبنان" (المزمور 29: 4 و5). كما تحكي النصوص الدينية أن الملك سليمان استخدم الأرز لبناء قصره الملكي (1 ملوك 7/2-3)، "من الأرض الى السقف"، وجعل رواق عرشه مصفحًا أيضًا بالأرز (1 ملوك 7/7). ويحكى أنه كان هناك مذبح من أرز في قدس الأقداس، الغرفة التي فرزها سليمان في قلب الهيكل ليضع فيها تابوت العهد، رمز سكن الله بين شعبه. وقد استخدم في بناء القصور والهياكل وصواري السفن (حزقيال 27: 5) وكان يستخدم أيضًا في صنع التماثيل والصناديق والآلات الموسيقية والتوابيت (حزقيال 27: 4و5). وكان هذا في القرن العاشر ق. م. وهو ما يشير إلى أن شجر الأرز في لبنان عمره آلاف السنين.
كان الأرز محط مطامع غزاة من الغرب والشرق وأمروا بقطعه وكان يُطلق عليه "الذهب البني": مع الأكاديين من بلاد ما بين النهرين وتحديدًا مع الملك سرجون في القرن الثالث قبل الميلاد، ومع المصريين: تحتمس الثالث، سيتي الأول، رعمسيس الثاني، وتيغلت فلاسر الأول في القرن الثاني قبل الميلاد، ومع الآشوريين: أشور نصير بال، وسنحريب الأشوري، وأسر حدون الأشوري في القرن الأول قبل الميلاد (2 ملوك 18/13-19 و37، أشعياء 36).
واستخدم السومريون القدماء زيت خشب الأرز لقواعد الدهانات وكأحد المكوّنات الأولى في صناعة العطور. واستخدمه المصريون القدماء في ممارسات التحنيط وبنوا منه السراديب في منطقة الجيزة ولا تزال صامدة لليوم وعمرها أكثر من أربعة آلاف سنة، كما لا تزال قطع من خشب الأرز محفوظة في المتحف المصري. وقد استخدم الفينيقيون خشب الأرز لبناء أساطيلهم وسفنهم كما حفر فينيقيو صيدون وصور من جذوع الأرز منحوتات عملاقة لآلهتهم وعبدوها. خلال القرن الثاني للميلاد عمد الإمبراطور الروماني هادريانوس إلى اتخاذ تدابير من شأنها حماية عدد من أصناف الأشجار التي كانت تنمو في جبال لبنان، وما تزال صخور جبال لبنان تحمل كتابات بمثابة تذكير لحطابي تلك الأيام بواجباتهم. لكن تم استغلال شجر الأرز في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بكثرة، وقد أصبحت في أثناء الحرب العالمية الأولى مصدرًا رئيسيًا للأخشاب اللازمة لمدّ خط سكة الحديد التي أنشأها الجيش البريطاني لوصل طرابلس بحيفا، ولم يعد لبنان يحتفظ إلا بعدد محدود من غابات الأرز، غابات صغيرة وأشجار متفرقة كأنها تنتظر حتفها، ومن بين تلك الغابات، محمية حرش إهدن الطبيعية، حدث الجبة، تنورين، جاج، محمية أرز الباروك التي تضم غابتي أرز عين زحلتا ومعاصر الشوف، أما أكبرها فهي ما يُطلق عليها "غابة أرز الرب" في بشري.

 مالغورزاتا باشكو، شجرة الكستناء، 2012  
















 هدى قساطلي، القرنة السوداء، 2004 

















في مقال عن شجر الأرز في لبنان كتبت "نيويورك تايمز" في عام 2018: "على مرّ خمسة آلاف سنة من التاريخ، ثمنّت الحضارات شجر الأرز قبل أن تقطعه. فقد جرّد الفينيقيون والمصريون القدامى والإمبراطوريات اليونانيّة والرومانيّة والصليبيون والمستعمرون كما اضطرابات الشرق الأوسط المعاصرة لبنان من أشجاره، لكن لهذه الشجرة رمزيّة كبيرة في ذاك البلد الذي وضعها وسط علمه. وقد أطلقت وزارة الزراعة، منذ أربع سنوات، خطة جديدة تهدف الى زراعة 40 مليون شجرة بما فيها بعض الأرز. وتُشرف وزارة البيئة على إدارة محميات الأرز. ومع ذلك، لا تزال حتى اليوم الانقسامات السياسيّة وإرث الحرب يشلّ من قدرة الدولة على بناء نظم وطنيّة فعالة للكهرباء وإمدادات المياه والصرف الصحي وجمع النفايات فحدّث ولا حرج عن خطة قابلة للإنفاذ لحماية الأرز!".
هذا هو أرز لبنان الذي يُقطع كل عام وتنحسر مساحاته حتى أدرجه الاتحاد الدولي للمحافظة على البيئة في قائمة الأصناف المهدّدة بالانقراض. قد لا يبقى لنا يومًا ما سوى رؤيتها على العلم الوطني اللبناني، وفي الجانب الخلفي من قطع النقد المعدنية، وفي الطوابع البريدية، وفي قبعات رجال الشرطة ولوحات سياراتهم، وفي ذيل طائرات شركة الطيران اللبنانية.  



قصائد بألوان متعددة
الأشجار في معرض أليس مغبغب ليست أغصانًا وأوراقًا فحسب، هي قصائد بألوان متعدّدة وموسيقى تصويرية تأخذنا إلى فضاء آخر يشتغل على تشريح مآسي الخريطة اللبنانية بأسى وحب. سنكون بين أشجار متعدّدة الألوان والأحاسيس خالية من يد القاتل، فلا كائنات حية غيرها. أشجار أليس مغبغب سيرافقها الفنان نيكولاس جايلاردون في بعد بصري رقمي لشجرة أرز تتحرك تحت مرمى الهواء والموسيقى. ستطالعنا إيتيل عدنان بلوحتيها "شجر الزيتون، 1997"، خطوط بتدرّجات اللون الأسود على خلفية بيضاء، هي حكاية لبنان الكاملة عن التشبّث بالأرض رغم غموض الآتي والخوف من المجهول الذي تقدّمه لنا الألوان السوداء.

 يان دوموجيه، الرحلة، 2015. 


















يقول بابلو بيكاسو "الفن يمسح عن الحياة غبار الحياة اليومية"، وفعلًا قد
ينطبق هذا القول على أليس مغبغب التي أرادت أن تحكي حكاية
اللبناني في أرضه من خلال شجرة الأرز




سنستعيد معها من قصيدتها "الأرض شجرة زيزفون": أنت وأنا خلقنا من شجر نخرته ديدان التراب/ تغور العبارة ونغور/ نحن، مخذولين/ دون إيماءة صراخ/ أو نظرة رعب/ والصمت محرم علينا/ لا الحياة تخيفنا/ ولا الموت/ ولسنا مرغمين على التمتع بالربيع". حديث إيتيل عدنان عن الشجرة ستكمله في قصائد أخرى، "هي روعة هذا البلد/ يابس ولكنه حيّ/ الإيمان أن الآلهة سكنته/ في صمتها/ نود مشاركة هذه الأشجار سرّها/ إيقاع جمالها/ كيانها المطلق". إنها قصيدة من مراسلات إيتيل عدنان إلى هدى قساطلي، المصوّرة الفوتوغرافية، التي سنجد ثلاثة من صورها معلّقة على أحد جدران المعرض: "القرنة السوداء 1-2، 2004" و"الهرمل، 2005"، صور فوتوغرافية تنقل واقع الأشجار في لبنان، تنقل تشتّته وتشتّتنا معه، الأرض الجرداء الخالية من بياض الثلج، الخالية من حميمية الشجر العتيقة، أشجار متفرّقة تصيبنا بحزنها وعزلتها، هي محصّلة مؤلمة لما فعلته أيدينا بلبناننا، وثمة شجرة وحيدة ثابتة في الأرض، أغصانها منكسرة صوب الريح وكأنها نفسها اللبناني الثابت في وطنه والذي يرفض الهجرة رغم تصحّر الأرض تحت قدميه.   

  لوتشيانو زانوني، النواة، 2009. 















  إيتيل عدنان، شجر الزيتون، 1997. 



















رفعت أليس مغبغب غبار الانفجار وحطامه من بيننا ومنحت شجرة الأرز
مكانًا لسرد حكاياتها في هذا الوطن الذي لم يترك سياسيوه
فيه حيّزًا للسكينة، لنا ولأشجارنا على حدّ سواء.




صور نديم أصفر الفوتوغرافية أكثر تفاؤلًا من صور هدى قساطلي، سيدخل الضوء من بين أوراق شجر الأرز في ثلاث لوحات "غابة أرز تنورين، 2017". أشجار أرز تهبك بيتًا وحضنًا بألوانها الخضراء وانعكاس الأصفر بين أوراقها، وثمة موسيقى وصلاة تتمدّد أفقيّا وكأننا أمام كائنات دافئة ساكنة تخاطبك دون صوت.. جدارية لشجرة أخرى مرسومة بيد الرسام الفرنسي شارل بيل "الارتفاع، 2011"، رسمها بجذع واسع وأخضر ثاقب محمّلةً بقوة بقاء تواجه كل موت وتعكس وحشية جمال شجر الأرز. لكن ألوان مواطنه المصوّر إريك بويتيفين لن تتقاطع مع ألوانه، ففيما رسم بيل بالأخضر سنشاهد الألوان السوداء، الفضية، والبيضاء في أشجار بويتيفين "بلا عنوان، 2000"، جذوع وأغصان بلا أوراق يدخل منها الضوء مكثّفًا بالحزن، وكأن الموت ينتصر في النهاية وهي الثيمة التي اشتغل عليها المصوّر الفرنسي "موت الغابة" والتي تشبهنا تمامًا.
سيترك لنا النحات الإيطالي لوتشيانو زانوني شجرة من أشجاره الحديدية الخضراء "النواة، 2009"، وكأنه يخبرنا عن قوّة الشجرة وثباتها في صراعها الأبدي مع الإنسان وما اقترفته أيديه من تشويه لمسار الطبيعة، وهي نواة الأرض وبقاؤها بعد فناء الإنسان. وستعلّق النحاتة البولونية لودويكا أوغورزليك شجرتها "أدوات التوازن، 1998-2018" وسط المعرض على شكل أرجوحة مشغولة من الخشب والخيطان توثّق عبرها اهتزازات الحياة وعدم ثباتها.

 باسكال كورسيليس، زهر التفاح 2011
















 إريك بويتيفين، بدون عنوان 2000
















أما الرسامة البولونية مالغورزاتا باشكو فقد انشغلت بالتعبير عن جمال الطبيعة في لوحتها "شجرة الكستناء، 2012" دون الدخول في المساحة الوجدانية للشجر، الشجر هنا متحرّر من خراب المدن والإنسان، لديه كل أسباب الحلم، والأخضر يستدعي بهجات صغيرة كانت قد مرّت تحت أغصانه. الثيمة نفسها موجودة في لوحة "سماء الغابة، 2011" للإيطالي لويغي بيللي، هي صورة فوتوغرافية لأوراق شجر تغطي مساحة اللوحة بكثير من الأخضر وقليل من الأصفر، الحياة متوارية في الظل، ساكنة بلا حروب العالم العربي، وهنا قد نشعر بالفروق بين تصوير الأوروبيين للشجر في رسوماتهم وبين لوحاتنا التي تحتمل الكثير من الفقدان بين ألوانها.


عندما اندلعت الثورة الشعبيّة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت الحرائق تجتاح هضاب لبنان ووديانه وجباله. وكما سرت النيران في الغابات،
امتدّت الثورة على كامل الأراضي اللبنانيّة، موحّدةً كلّ
اللبنانيّين في هذه الكارثة البيئيّة ضدّ الخيارات
المخزية التي قامت بها السلطة آنذاك



سيكتفي الرسام الفرنسي يان دوموجيه ببعض أوراق الشجر ليحكي عن هجرة الإنسان الدائمة فوق الأرض في لوحاته الأربع "الرحلة، 2015"، أوراق شجر نبيذية عائمة على الماء فوق قوارب صغيرة، ألوان الأخضر المنعكسة على الماء بمثابة أرشيف لآمال وأحلام المهاجرين بحياة أفضل. ثمة لون رمادي للماء في صورة أخرى لقاربين صغيرين محمّلين بورق شجر أصفر، قاربين متباعدين وحيدين، ألوان تحكي عن ضبابية العالم الذاتي للمهاجر وهو يدخل في العتبات المبهمة للحياة. أما اللبنانية فاديا حداد فتحكي عن الهجرة عبر عنوان لوحتيها "عودة عابرة، 2001"، سترسم فيهما أحراش جزين وبكاسين. لوحتان تقيم فيهما سكينة القرية بحجارتها وطرقاتها وأشجارها. لوحات فاديا حداد لديها القدرة على تسليمك هواءً آخر لن تتنشّقه في أي مكان آخر، ثمة حنين يقودك إلى ذاكرة غافية توقظها فتوقظك من حاضرك البائس وسط وحشية المدينة وقساوتها، لكن هذه المساحة الجميلة ليست إلا عودة عابرة بنظر حداد لأن احتمالات الهجرة مختومة على كل جواز سفر لبناني.   
حرش الصنوبر في بيروت الذي يتناقص تدريجيًا منذ مئات السنين وكانت ميتته الأسرع خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تحاول الفنانة الفرنسية ليوبولدين رو إضافة الحياة إليه من خلال تلوين أوراق الأشجار بطلاء الأظافر على شكل حبيبات ملونة بألوان مختلفة في لوحاتها "غابة الصنوبر- بيروت، 2018"، "أشجار الصنوبر خلال الشتاء، 2018"، و"رواسب العزلات الاستعمارية، 2018"، ستقف الألوان فوق طبقات من الرمادي لبيوت بيروت وبعلبك وكأنها تستحضر الزمن الجميل فقد جاءت رو بصور فوتوغرافية لبيروت وبعلبك من الأعوام 1902، 1919، 1923، 1929 واشتغلت على إحيائها بالألوان، لكن هل يمكن إضافة الحياة إلى مدن يحوم الموت فوقها دون توقف؟

 لودويكا أوغورزليك، أدوات التوازن، 1998-2018 















  لي وي، بدون عنوان، 2009 



















الفنان الصيني لي وي يعوّل على السكينة في بانوراما هادئة لسفوح جبال لبنان مع شجرة صنوبر وحيدة في لوحته تتخذ في الأفق هيئة البقاء في لوحته "بدون عنوان، 2009" المشغولة بإحساس الطمأنينة وبالحبر الهندي على الحرير، الضوء في اللوحة يقتفي جمالًا حسيًا ما بين الليل والنهار. أما الفنان الفرنسي فرانسوا هوتين فاشتغل غرافيكيًا في لوحته "مسكن الأهوار، 2004" على شجرة معمّرة مع كوخ من القش أتى بهما من زمن الأبيض والأسود فاكتفى بهذين اللونين ليحكي عن الحياة من منظور الأوجاع المتراكمة التي تقوّي ولا تهدم الداخل. ومن الخشب والحديد والإكريليك اشتغل الفنان البلجيكي باسكال كورسيليس على "زهر التفاح، 2011"، عمل فني يتدلّى من سقف الغاليري يمنحنا ما ينقصنا من الضوء، سنبتعد عن عدمية الأسود في عالمنا وندخل في عالم سخي بعاطفته وبألوانه التي يلجأ إليها كورسيليس في كل أعماله، هي شجرة الأمل بجذوع بيضاء وطبقات من الفرح معلقة على الأغصان.
يقول بابلو بيكاسو "الفن يمسح عن الحياة غبار الحياة اليومية"، وفعلًا قد ينطبق هذا القول على أليس مغبغب التي أرادت أن تحكي حكاية اللبناني في أرضه من خلال شجرة الأرز، فرفعت غبار الانفجار وحطامه من بيننا ومنحت شجرة الأرز مكانًا لسرد حكاياتها في هذا الوطن الذي لم يترك سياسيوه فيه حيّزًا للسكينة، لنا ولأشجارنا على حدّ سواء.

 يان دوموجيه، الرحلة، 2015. 
شارل بيل، الارتفاع، 2011. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.