}

جدوى الشعر في زمن الفجائع.. شهادات ورؤى (3)

أوس يعقوب 22 فبراير 2020
هنا/الآن جدوى الشعر في زمن الفجائع.. شهادات ورؤى (3)
يحمل الشعر أسئلة الوجود، ويتحمّلُ قلقنا، وضياعنا (Getty)
في ظلِّ ما نعيشه اليوم من فجائع أصابت أوطاننا بعد أنْ واجه الطغاة شعوبهم المنتفضة بآلة القتل والترويع والبطش يوم غصت الشوارع الثائرة بالأحرار والحرائر في غير بلدٍ عربيّ، مطالبين حكامهم -الذين أسقطوا معادلة الشعب والحكم العادل- بالحرّيّة والكرامة والعدالة، يصبح السؤال ضرورياً وملحاً عن جدوى الشعر في راهننا العربيّ، وعن مكانة ودور الشاعر، الذي كان قديماً شرارة كل ثورة، خاصّة الآن ونحن نشهد مع الموجة الثانية من ثورات الربيع العربيّ، تحوّلات كبرى في مشهدنا العربيّ سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.

نفتح ملفاً خاصاً مع عدد من الشعراء والشاعرات من مشرق عالمنا العربيّ ومغربه، وممن اختاروا المنافي البعيدة أوطاناً مؤقتة لهم، سائلين إياهم: "ما جدوى الشعر في زمن الفجائع الذي نعيشه اليوم؟".
هنا الجزء الثالث:

 من اليمين : شفان، درويش، بلحاج، داغر

















شربل داغر (لبنان): القصيدة لذاتها
يتحدث الفيلسوف "كانط"، في معرض حديثه عن الأعمال والسلوكات التي تنتسب إلى أحكام الجمال، عن أنّها "غائية من دون غاية". فالفن يشتمل على غائية أكيدة، إلّا أنّها لا تخدم ما هو واقع خارجها. فالقصيدة إنْ وُظفت لغير أهداف الجمال، لا تكون من الفن، وإنّما تخضع لأحكام الأخلاق. القصيدة لِذاتها، إنْ أمكن القول... هذا ما انتهيتُ إليه. هذا ما يصح في القصيدة، ولا سيما في الأزمنة الحديثة.
وهو ما يصح، بكيفية ما، في قصيدتنا العربيّة راهناً. يصح في قسم من شعرنا، ما دام أنّ بعضه، قبل ثمانين عاماً كما اليوم، يوظف القصيدة على أنّ لها جدوى، ونفعيّة.
هكذا يقف الشاعر في قصيدته كما لو أنّه فوق منبر أو منصة. كما تقف القصيدة في عالمها السياسيّ والأيديولوجيّ المبثوث، كما لو أنّها تنخرط في تظاهرة... يعتقد البعض من الشعراء، أو يظنون، أنّ لهم أنْ يشاركوا غيرهم في الفجيعة، وينطلقون في ذلك من شعور إنساني، ومن رغبة في الشراكة الأليمة إلّا أنّهم، في ذلك، ينتسبون إلى خطاب مسبوق، إلى مشاعر موضبة وصادحة... الفجائع كثيرة في عالمنا، ولعلها تتفاقم. إلّا أنّ النظر إليها لا يتعين، في نظري، في موقف مسبق، مستل من خطاب قومي، أو يساري، أو إسلاموي، معروف.

وإنّما له أنْ ينطلق مما يختبره الشاعر بنفسه، حيث هو، ووفق ما يرى... فالعالم العربيّ لا يعايش اليوم صراعات الأمس، بين سلطة ومعارضة، وإنّما يعايش شقاقاً أهلياً في جوانب كبيرة منه. وهذا يعني، في نظري، أنّ بعض ما نصدر عنه قد يكون فيه بعض أسباب الفجيعة. لهذا، في ما يخصني، كتبت شعراً، في "نقد الشهيد"، وكانت "دموعي جافة" فيه.
للشعر جدوى لذاته، وإلّا لكنتُ انقطعتُ عنه منذ سنوات بعيدة. قد يكون لتلفظي الشعري جدوى إذ يصدر الكلام عني، من غامضي ونواغصي، مما يقع بين التعبير والتأمل. جدوى لي، قبل غيري، إذ أتنفس فيما أكتب. فأنْ يشاركني غيري، ويجد جدوى له فيه، فهذا ما يجعلني أتقدم في هذا المبهم الغامض بصحبته.

 

سمير درويش (مصر): رؤية الأجسام بحجمها الطبيعي
لم يعد الشعر - كما كان- أداةً للوصول إلى أهداف ينتظرها الآخرون، لم يعد - مثلاً- دعاية للقبيلة، أو حافزاً لمحارب كلاسيكي يحمل سيفاً، أو - حتى- رسالة مغوية ترقق قلب امرأة وتفكك حصونها. الشعر خان هؤلاء جميعاً وغيرهم وأخلص لنفسه فقط!
إنْ انتظرت من القصيدة أنْ تقود الجماهير إلى الثورة مثل "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، أو أنْ يتحوَّل إلى شعارٍ يرفعه الغاضبون، مثل "لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كلّ قيصر يموت/ قيصر جديد"، أو أنْ يكون مادةً لتباهي الشاعر بذاته، مثل "الخيل والليل والبيداء تعرفني"، فأنتَ ولا شك تقف في المكان الخطأ منتظراً الرسالة التي لن تأتي!
أحمد شوقي - وامتداداته حتى نهاية ستينيات القرن العشرين- هو آخر الشعراء الكلاسيكيين الذين استخدموا الشعر لأغراض ظاهراتية كذَّابة، حتى حين مدح الرسول والحج والكعبة. وصلاح عبد الصبور هو البداية المبكرة للتعرف على الشعر الجديد، الحقيقي، حين تخلى طائعاً عن مدح الأمراء والوزراء والمدراء العموميين والكعبة والمدينة المنورة، وغازل عم مصطفى، الفلاح الفقير في قريته النائية الذي لا يجد قوت يومه، حين (حاول) أن يصف حاله - أو حال عامل اليومية- الذي يخرج في الصباح بحثاً عن الرزق، وهو لا يمتلك ثمن كوب شاي.
ماذا يفعل الشعر؟ سأقول لك.
الشعر الجديد يفعل ما لم يستطع العرب فعله طوال 1400 عام، بشعرائهم وشيوخهم - وهم لا يمتلكون إلّا الشعراء والشيوخ-! فقد ارتد إلى ذات الشاعر، ومشاعره، وأحلامه وآماله وهزائمه وانكساراته وضعفه، وأبنائه وحبيباته، والمناخ الرديء الذي يعيشه في منطقة لا تعترف بالحرّيّة والخصوصيّة.

الشعر يعري ذات الشاعر إلى حدٍّ الفضح، فيعري القارئ كذلك، وتكون النتيجة أنْ نتعرف على أنفسنا بصدق، وأنْ نتخلص من الخطابية والكذب والادّعاء. الشعر الجديد يجعلنا نستطيع أنْ نجيب عن سؤال "من نحن؟" ببساطة وعمق، وبرأيي نحن مجرد قطيع يعيش في منطقة لا يتحكم في ثرواتها، ندفع ثمناً باهظاً كلّ ثانية لتمسك حكامنا بمقاعدهم، حكامنا أسوأ ما فينا، الشعر يفضح عجزنا عن الحركة والفعل، ويدحض كلّ مبرراتنا الخائبة للاستكانة والرضا بالقليل، و(المعرفة) هي الطريق الوحيد للحركة والفعل.
الشعر الشعار والأغراض تسبب فيما وصلنا إليه الآن، لأنّه ضللنا فأعطانا صورة غير صورتنا، وأقنعنا بما ليس فينا، وصور لنا أنّنا سادة العالم في حين أنّنا في ذيل الأمم، وحتى الفترة التي نتباهى بها، فترة الغزوات الإسلامية، لم تُشيّد على تقدم ثقافي وحضاري واقتصادي، بقدر ما طلبت السلطة والجزية! أما الشعر الجديد فهو كاشف بقدر ما هو كئيب ومنعزل وأحادي وحزين، الشعر الجديد هو بداية رؤية الأجسام بحجمها الطبيعي!

 

سعد شفان (العراق): الفجيعة قاتلة الشاعر ومنقذته
سؤال كبير حقاً، كأنّك تضع وجهاً قبيحاً أمام مرآة قد نظفت للتو، أو تضع سكيناً في جيب قاتل. أعتقد أن للفجيعة دورا كبيرا في قتل الشاعر وإحيائه بشكل نسبي، الأمر المهم هو كيف يموت الشاعر خلال الفجيعة وكيف يمكن إحياؤه من خلالها؟ يموت الشعراء بطرق مختلفة وخاصة، الشاعر يخترع الطريقة التي يموت بها بينما بالنسبة لشخص عادي هو ينتظر الموت بشكل عبثي ربما، يختلف الشاعر هنا برؤية الفجيعة كيفما كانت بمنظور خاص به وكيف يمكن توظيفها وتركيبها إلى عمل أدبي أو إلى الشعر على وجه التحديد، الفجيعة هي قاتلة الشاعر ومنقذته في آنٍ واحد.
الشاعر يجب أنْ يكون صريحاً وحقيقياً تجاه كتابة الشعر بغض النظر عن جماليّات اللغة وتشبيهات وما شابه وتكمن أهميته في مصداقية ما يكتبه وتوثيقه إلى عمل شعري تاريخي أو إنساني، يكون باستطاعته أنْ يترك شيئاً بسيطاً مع قارئ عادي حين ينتهي من قصيدته، أنا ضدّ أنْ يبني الشاعر قصائده على الخيال في زمن فجائع متراكمة، أنا معه في استغلال فجائع من أجل الكتابة ومن أجل إحياء نفسه بعد موته في الكتابة.

بمعنى آخر الشاعر كائن مستغل لمأساته وربما مأساة الذين يحيطون به أيضاً من أجل الكتابة، هذا لا أعتبره أنانية بقدر ما هو موقف لا يضر كلا الطرفين بشيء، موقف يولد من خلاله وحش جميل يسمى الشعر. في الوقت الحالي قد يمر الشخص العادي بمختلف الفجائع منها الحروب وما ينتج عنها من النزوح والقتل وبيوت مهدمة وتهجير واللجوء وما إلى ذلك. دور الشاعر هنا الكتابة عن ذلك بكثير من الحقيقة وبقليل من الجمال أي اختراع هويته الشعريّة، بذلك يشكل أهمية كبيرة جداً وعنصراً مهماً في نقل أحداث جماعة أو فرد بشكل ما.

عائشة بلحاج (المغرب): الشعر صقل للأثر البشري
يحمل الشعر أسئلة الوجود كلّها، ويتحمّلُ قلقنا، وضياعنا، وغربتنا بين الناس. ما يحتمله الشعر عنّا، أكبر مما يُحمّلنا إياه من هموم، وقلقٍ شعري مزمن؛ من قصيدةٍ ننتظرها، من شعورٍ لا يستوي في جملة، أو كلمة تصرُّ على الهروب من الذاكرة، رغم النّداء الملح لجاراتها، اللّاتي لا يكتملن من دونها. الكتابة نحتٌ في الزّمن، وفي الوجود الإنساني؛ صقلٌ للأثر البشري على الأرض، وتسجيلٌ للمرور في هذا العالم، مثل عمّالِ مصنعٍ يسّجلون حضورهم اليومي في البّوابة، يحرص الشعر على تسجيل مرورنا في نفق الحياة.

الكتابة تنفسٌ ضروري من أجل البقاء على قيد الحياة، خارج ما هو مصطنع ونمطي، خارج الرّائج أو "التريند"، كلّ شيء يخضع لثقافة "التريند" أو "الطوندوس" الآن، لذا نحن أحوج من أيّ وقت آخر، لشيء روحي شفاف، بالغ الخفّة وبالغ الثقل معاً، كالشعر، ليحرّرنا من السّطحي والعابر.
لا يمكنني تصوّر نفسي دون كتابة؛ حتى قبل أنْ أكتب، كنت أتوق للكتابة، كفعل خارق، وخلّاق لعوالم وشخصيات. وكمتنفّس للاختناق الذي عشته كامرأة. متنفس تمنّيت أنْ أستطيع تسجيل يومياتي من خلاله، حركةً بحركة، نفساً بنفَس. لكنّني خفت أنْ يطّلع الآخرون على ما أكتب، فيكتشفوا عري ذاتي، ونقاط ضعفي؛ فاخترت الشعر لأنّهُ "غامض"، ثم اكتشفت أنّه أكبر "كاشف" وأكبر مُعرٍّ للرّوح، ولم أتوّقف عندها. كان الوقت قد فات على العودة من حيث أتيت، وليس من ضوءٍ يقود إلى نهاية، فتركت له أنْ يكشفني أمام نفسي، قبل الآخرين. ثم أدركت أنّ للجميع قصصه، وقسمته من الخيبات وسوء الطالع، وحنينه إلى الطفولة؛ للجميع هزائمه، التي لا يُمكنه الاعتراف بها، حتى لأقرب النّاس إليه.

عبر الشعر، أتخلى عن حياتي بوضعها على الورق، لأفتح إمكانية حياةٍ جديدة، أخفّ وطأة. عبر الشعر، أصفّي حسابي مع الحياة، وأُشرّح خسائري، وعبرها خسائر آخرين يشبهونني، أو أشبههم. كما أنّه وسيلة لفعل ما يستحيل في الواقع، مثلما يقول محمود درويش. الشعر ينبع من الدّاخل الغني بالخارج، غير المنطوي، أو المنعزل بشكل كلّي عنه. الشعر يُخلقُ في علاقاتِ الشاعر مع محيطه، ومع العالم الذي يعيش فيه، وما سبقه. مع الموروث الثقافيّ، الذي يُحاصره والذي يُغنيه، مع الزّمن الذي يعيشه، والذي يخنقه، والذي يضيع منه. مع الإيمان بالمطلق، الذي يستمد وجوده المهزوز والذي بدونه لا استمرار، ومع الشكّ المهول الذي يأكلُ يقينياته كالسّوس.
الشاعر بذرةٌ صالحة تلفّها التربة، كائنٌ غريب في بيئته، وهو مخيّر بين هذه الغربة، أو الغربة الأقسى: غربته في ذاته؛ هذه الذّات التي تتضخّم، وتوخزه، كلّما فكّر بالآخرين: ماذا عنّا؟ من يجعل العالم جميلاً لنا؟ من يُحسّن مزاجنا لهذا اليوم؟ وكلّما زادت غربة الذّات في العالم، زادت تضخماً وتطلباً، فيضيع صوت الشاعر في شكواها من العالم، الشاعر الذي يصبح صوت الذّات التي تجد طريقها للانتقام من العالم، الذي مارس عليها في نظرها كلّ أشكال الإقصاء والإخراس. ليس ذلك فقط، فلها أنْ تُخلّد كذات مبدعة في صوت الشاعر، ولكينونتها أنْ تَخلُد كذلك بفضل الشعر. فكيف تجد متسعاً للعالم، وسط هذا الحفر المستمرّ في الأنا، الكائن الأكثر حضوراً في صوت الشاعر؟
بالنّسبة لي فكّرت دائماً في الكتابة كوسيلة - إلى جانب التّنفيس- للكشف عن مساوئ البيئة التي نعيش فيها، عن الطّبقات الكثيفة التي تغطّي الحقائق، والوضعيات الصّعبة التي تعيشها الفئات المسحوقة، والمحرومة، في مقدّمتها المرأة.

في ذهني كتابةٌ تدخل ضمن فعل التّغيير؛ الكتابة التي تؤدّي إلى خلق وعيٍ جديد بالوضعيات. فالكتابةُ - أيضاً- حفرٌ بطيء في الوضعيات الجامدة، والترسّبات الكثيفة، لثقافات لا تنتصر لما هو إنساني، وتُفضّل الانحياز للفئات الأقوى في غابتنا البشريّة، بينما الكتابة انتصار للإنساني، وللضّعيف وللعابر لتخليده.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.