تشرح المؤلفة كريس كونتي أسباب وضعها هذا الكتاب، فتقول "إن التاريخ الذي تعلمناه، أي النسخة الرسمية من التاريخ، كتبت على يد المنتصرين، أولئك الذين انتزعوا الأراضي لأنفسهم بالقوة، وتركوا ضحاياهم يعانون بصمت". وأضافت "معظمنا انجذب إلى من يصفون أنفسهم بالأبطال، ونسينا في الوقت نفسه الجانب الآخر من الذاكرة. ولم نعط أنفسنا الوقت اللازم لننظر إلى الزوايا المعتمة، حيث تقبع حشود الضحايا مع بعضهم البعض، معتقدين بأنهم الأناس الذين نسيهم التاريخ".
وتضيف كونتي أن هذا هو الأمر مع إسرائيل، حيث كتب التاريخ على يد المنتصرين، لكن الرواية الرسمية الإسرائيلية تواجه بالأسئلة من قبل أبناء هؤلاء المنتصرين، وتحديداً من قبل المؤرخين الجدد الذين عادوا إلى الأراشيف، ووجدوا الوثائق التي أعيد فحصها، والتي جلبت المزيد من الأدلة إلى الضوء، وجمعوا المزيد من الاعترافات التي تتحدى "الكليشيهات" الإسرائيلية الرسمية واسعة الانتشار عن "فلسطين البلد الفارغ من السكان"، في حين "أن
وعن الشهادات المجمعة في الكتاب، وعددها نحو عشرين شهادة شخصية، تقول كونتي: "عمل فريق متنوع من الصحافيين والمصورين والمترجمين الفوريين والمحررين العلميين بصورة متصلة من أجل إيصال شهادات هؤلاء الفلسطينيين الذين عاشوا النكبة، هذه الكلمة التي تصف بشكل مناسب واقعهم الذي أجبروا على العيش فيه لنحو سبعين عاماً متصلة، حيث فقدوا عائلاتهم الأقرب وممتلكاتهم، منازلهم وأرضهم، وفوق ذلك كله هويتهم الخاصة".
وتصف المؤلفة أصحاب الشهادات المقدمة في الكتاب بأنها لأولئك الأشخاص الذين ولدوا قبل النكبة وتتراوح أعمارهم اليوم بين 75 و95 سنة.
قدم للكتاب د.سليم تماري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت، والباحث المشارك في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومحرر مجلة "حولية القدس"، حيث امتدح قدرة المؤلفة على الجمع بين سير عدد من الناجين في حرب 1948، من الشخصيات الهامة، مثل بطريرك اللاتين، ميشيل صباح، والكاتب فيصل دراج، والمحامي فؤاد شحادة، جنباً إلى جنب مع شهادات أناس عاديين، وهم الغالبية، جاؤوا أصلاً من القدس، أو أن هذه المدينة احتلت مكانة مركزية من حياتهم. ويضيف تماري أن قصص الناجين من حرب 1948 ليست سيراً تروي مقاومة بطولية، لكنها تقدم لنا صوراً عن تحدي الأشخاص وثباتهم ضد كل الصعاب. إن تلك القصص تروي لنا ردود فعلهم الساخرة والعنيدة ضد القهر والمنفى، حيث تظهر القدس كخلفية لمآزقهم. كما أن صور الطاهر القنطرة الحميمة والمتقشفة تمنحنا تذكيراً مؤثراً عن عواقب ونتائج حرب 1948 التي لا زلنا نعيشها حتى اليوم.
وفي تقديم ثالث للكتاب، تتناول المؤرخة، فلسطين النائلي، الباحثة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، ما تسميه "الذكريات الحية"، حيث تجري نوعاً من القراءة المعمقة في الشهادات المقدمة في الكتاب، وتحلل معانيها الضمنية، لتؤكد على أهمية هذه الذكريات في تحدي التاريخ الذي كتبه المنتصر في حرب 1948، وتنتهي باقتباس إدوارد سعيد، يعود إلى عام 1984، يتحدث فيه عن الحاجة إلى تدوين السرديات الفردية من أجل استيعاب وتدعيم الحقائق وتعميمها، ومن ثم لإدخال هذه السرديات في التاريخ، واستخدامها في الرواية التاريخية بهدف إعادة التأسيس للعدالة.
وإلى جانب شهادات عشرين رجلاً وامرأة تتراوح أعمارهم ما بين أواسط السبعينات، وأواسط التسعينات، ممن ولدوا قبل نكبة 1948، حفل الكتاب بعشرات الصور التي استخرجت من الأراشيف التاريخية، أو قام بتصويرها الطاهر القنطرة. وقد احتلت الشهادات والصور المرافقة لها أكثر من مئتي صفحة، فيما احتلت بقية الكتاب أربعين صورة ملونة للقدس العربية، كما هي اليوم، ظهرت فيها مشاهد عامة للحرم القدسي، وأخرى للطبيعة المحيطة بالمدينة، ولأحياء
لا يتسع المجال لإلقاء الضوء على ذكريات الشخصيات العشرين التي رواها الكتاب بمهنية عالية، وبلغة أصحابها، دون أن يهمل توثيق وإضاءة الأحداث التي تعرضوا إليها بهوامش ضافية، مما جعلها مرجعاً توثيقياً لتلك الشهادات. لذا نكتفي هنا بالإشارة إلى أن ثماني من أصل عشرين شهادة كانت لنساء تراوحت خلفياتهن ما بين الانتماء إلى عائلات ثرية، أو مهن رفيعة، كالطب، أو الصيدلة، أو شغلن أدواراً سياسية، وبين نساء "عاديات" كن شاهدات على أحداث غير عادية.
كما ضم الكتاب شهادات لرجال من النخبة: محامون، كتّاب، رجال دين، قادة سياسيون وأناس "من تحت": مزارعون ومدافعون عن الأرض ولاجئون. من بين هؤلاء كان ثمة مقيمون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وآخرين صامدون في أراضي 1948، وفئة ثالثة لجأت إلى بلدان عربية أخرى، لا سيما الأردن، إضافة إلى شهادة اثنين من المغتربين الفلسطينيين في أميركا اللاتينية.
بقي أن ننوه إلى أن الكتاب ضم ــ استثناء ــ سيرة المناضل ماجد أبو شرار، الذي استشهد اغتيالاً في العاصمة الإيطالية، روما، عام 1981، كأحد فصول الكتاب. وقد اعتمدت كتابة سيرته على أفراد من أسرته وأصدقائه ورفاقه. ويذكر هنا أن عدداً من أصحاب الشهادات المنشورة في الكتاب توفي قبل دفعه للنشر.
* باحث ومصور.