}

ألبرتو مانغويل في تونس.. منع البذور من ولوج الثغور

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 12 مارس 2020
هنا/الآن ألبرتو مانغويل في تونس.. منع البذور من ولوج الثغور
ألبرتو مانغويل
(إلى طلبتي)

بدأتُ قبل أربع سنوات تقريباً أنظّم ورشات للكتابة الأدبية لصالح طلبة شعبة "اللغة العربية وآدابها" في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. والنتيجة السعيدة أنني اكتشفت مقدرات مدهشة لدى الطُلّاب في القراءة، الكتابة، تخزين الأسماء، الأزمنة، الأمكنة، الأساليب والمفردات. وقد تمّ التوصّل إلى هذه الكنوز بطريقة وجدتُ نفسي، وطلابي أيضا، غير قادرين على تفسيرها. كانت البداية بتجريب كتابة قصة عن زيارة الكاتب الألماني غونتر غراس لليمن بدعوة من الكُتّاب اليمنيين، وبتشجيع من الرئيس علي عبد الله صالح نفسه. وكما توقّعتُ بالضبط، راح الطُلاب يجتهدون في معرفة من هو غونتر غراس؟ ما هي رواياته؟ طِباعه؟ نزعاته الدينية والاجتماعية والسياسية؟ وبعد بلوغ مستوى معرفيّ معيّن برواياته، راحوا يتكلّمون مثله، حتى أني ظننتُ أن أحدهم سيدخل إلى قاعة الورشة بغليون طويل في فمه، يتصاعد منه الدخان، وتفوح منه رائحة التبغ المثيرة. والطالب الذي ظننته سيفعل قدّم اقتراحاً في غاية التميّز: "أستاذ، سأكتب قصة قصيرة عن تدخّل السيد المحترم والنبيل غونتر غراس لدى الرئيس عليّ عبد الله صالح، قصد إصدار أوامره للسّماح للروائي الشاب وجدي الأهدل بالعودة إلى اليمن بعد أن كان قد هرَب من البوليس اليمني إلى هولندا".

أدركتُ في الحين أن الأهمية التي يمنحها الطالب الذكي لهذا الموضوع هي نفس الأهمية التي منحتها له قبل سنوات، وتحديداً في يوم قراءة مقالة للكاتب المصري يوسف القعيد عن القضية بجريدة "أخبار الأدب" المصرية. بل كان هذا الطالب يتكلّم وظهر أمامي كأنه دجاجة تحضن فراخها. كانت فراخه هي أفكاره الجميلة التي قدّمها في ذلك الصباح. وأذكر أن نظاماً كاملاً من التواصل المباشر مع المستفيدين من الورشة بدأ يتأسّس بيني وبينهم، عكس النظام التواصلي المتعثّر، أحيانا، خلال المحاضرات العلمية.
قبل أسابيع كنت قد تحدثت مع نفس الطالب حول تنظيم الورشات من جديد، ولاحظت أنه كان متحمّساً لنسج خيوط قصّة جديدة، فالعالم اليوم يعيش أحداثاً خطيرة جديرٌ بنا أن نكتب عنها القصص. العالم مليء بشهداء أبرياء، ومن توصيات الشعراء (هنا من الأفضل إطلاق شعراء على كلّ الأدباء) فتح مصراعي باب الوجدان على العالم الشاسع.
سألته:
- ما موضوع تخييلك القادم؟
أجابني مبتسماً:
- ألبرتو مانغويل يحلم بابن الهيثم.
أجبت بنفس الابتسامة التي لا ترسمها سوى السعادة والإعجاب:
- لكن تذكر أن ظلالاً أخرى ستدخل في عالم القصة. فظلّ بورخيس سيكون يرفرف مثل ملاك حول رأس مانغويل، وظلّ أرسطو مثل ضوء كلّ القرون يتوّج رأس ابن الهيثم. هذا، وستجد نفسك مخفوراً، وأنت تكتب، بجمهرة من العلماء المسلمين الذين عاصروا ابن الهيثم، ونفس الشيء بالنسبة لألبرتو مانغويل.
لكن الطالب جرّ مانغويل إلى أحداث قريبة جدّاً: مانغويل ضيفُ تونس. فسألته ومن سيرفرف حول رأسه، أجابني بسرعة، كأنه سهر الليلة كاملة يفكر في الموضوع:
- كمال الرياحي، وزير الثقافة التونسي، محمد علي اليوسفي، الحبيب السالمي، إلياس خوري، توفيق فياض، محمد الحباشة، ومجموعة من المثقفين والكتاب التونسيين. إني إن أردت كتابة قصة كاملة حول الموضوع عليَّ تطوير كل الكلمات التي قالها وكتبها مانغويل عن المكتبات والقراءة والصراع بين العقل والكلمات.
لقد قدّم مانغويل نفسه إلى قرّائه بالطريقة الأكثر اختلافاً. إنه ابن الأرجنتين، ولكنه أيضاً مولود في كل الأمكنة الأخرى. وربّما هنا يكمن السبب وراء حبّه للشاعر الأميركي وولت ويتمان الذي كتب: "أنا من آدلايد...أنا من مدريد...أنا أنتمي إلى موسكو".

لهذا السبب نصحتُ الطُلّاب، حين عقدنا لقاء دار حول كتابة قصة عن "زيارة مانغويل لتونس" بدعوة من بيت الرواية، وأصدرت وزارة الثقافة قراراً بمنع اللقاء، نصحتهم بالبحث عن ديوان "أوراق العشب" لويتمان، فمن يفكّر في مانغويل، سيفكّر في بورخيس، ومدن الأرجنتين. سيتلو علينا قصائد لويتمان. قلت لهم في جملة واحدة لها رنين الأجراس الصلبة: "ستمسكون بهم جميعاً وسيمسكون بكم، وفي النهاية ستفكرون في كتابة رواية وليس قصة قصيرة". فهذه الأصوات البدئية ستتكلّم من كل القرون، إلى أن تأتي إلى نقطة حالية: تونس، التي بدأت في تأكيد كلمات مانغويل حول القراءة، بغداد، بابل... إن هذا الكاتب جزء من كلّ.
لكن أحد الأذكياء رفع يده وتكلّم:
- هل علينا قراءة روايتي "المشرط" و"ألبيريتا يكسب دائماً" لكمال الرياحي، الكاتب المصارع الذي استضاف مانغويل؟ هل نقرأ لمحمد الحباشة روايته "رجل شارع روما"؟
كانت الشجيرات التي أراها من نافذة القسم تحركها ريح ضعيفة. كان كل شيء في الحديقة الخلفية يتحرّك. وكنت أنظر إليها كأنها مادّة للكتابة أرشد إليها طُلّابي، لينظروا إليها كيف كانت تتحرّك مع الريح. نظرت إلى كل شيء يتحرّك في الحديقة بعينين بارقتين، وعدت إلى الحوار:
- قبل قراءة الروايات المذكورة، تخيّلوا كمال الرياحي داخل مكتبه الزجاجي بمدينة الثقافة وهو يدبّج رسالته لمانغويل. ادخلوا إلى عقله وانظروا كيف كان يختار الكلمات. هل هي نفس الطريقة التي يختار بها كلماته في الرواية؟ هذا أمرٌ مهمّ للغاية. هناك شيء عظيم يحدث داخل عقولنا ونحن نكتب الرسائل. ولا تنسوا وصف مانغويل وهو يتلقى الرسالة من كمال. ربما يكون ذلك مدخلاً جيّداً لمن يريد كتابة رواية، لكن لا أظن أنه سيكون كذلك لمن يكتفي بكتابة قصة أو تقرير.
رفعت طالبة يدها طالبة الإذن بالكلام:
- أنا سأبدأ باجتماع هيئة بيت الرواية. سأصف مطوّلاً نقاشهم حول الضيف. ربّما سأُدخِل أيضا الكاتبة رجاء بنسلامة. لا شكّ أنها حضرت اللقاء التحضيري الأول، وإلا ما مبرّر ظهورها في الصور جنب مانغويل؟
  مباشرة بعد انتهاء الطالبة من الكلام، تدخّلت أخرى:
- سأبدأ قصتي بوصف وزير الثقافة وهو في مكتبه رفقة مستشاريه يتداولون حول ضرورة البحث عن مبرّر قوي لمنع مانغويل من دخول تونس. وسيكون عنوان القصة "منع البذور من ولوج الثغور". كما ستكون كلمة "إسرائيل" هي المفردة القوية، الشائكة، الغامضة، المتعدّدة الاستعمال. وحين يشتدّ الصراع الدرامي، أُدخل كلمة أقوى منها، كلمة تاريخية تكاد لا تشبه أي كلمة أخرى، هي "فلسطين". سترد "إسرائيل" في كلام وزير الثقافة، بينما سيكون ألبرتو مانغويل أول من ينطق "فلسطين" في القصة.
تدخّلت بسرعة قبل أن تفوتني الملاحظة:


 تركت الطلاب يفكّون شيفرة زيارة مانغويل إلى تونس، ويستعيدون خيوط قصّة مشابهة حول زيارة غونتر غراس إلى اليمن

















- في هذه اللحظة بالذات، على الكاتب أن يستعيد قِواه الفكرية والتخييلية. إنها إحدى الحالات الاستثنائية من حالات الكتابة الكثيرة. لقد كانت رواية "موت أرتيميو كروز" لكارلوس فوينتس صعبة على كاتبها وقارئها ومترجمها على حدّ سواء، لأنها بدأت بلحظة درامية قصوى، تحكّمت فيها ثلاث كلمات: الموت، السلطة (البرلمان، المال) ثم التذكّر. إذا بدأت بكلمات قوية فتحمّل الصعوبات القادمة، التي تنتظرك في الصفحات التي تلي هذه الكلمات. إنها إحدى حالات الكتابة الجريئة دون شكّ. ومن المؤكّد أن القارئ الحصيف سيتفحّص كل كلمة كُتبت تحت سلطة هذه الحالة.
تركت الطلاب يفكّون شيفرة زيارة مانغويل إلى تونس، ويستعيدون خيوط قصّة مشابهة حول زيارة غونتر غراس إلى اليمن. وبدأت أبحث عن سيجارة في جيبي. لكنّني تذكّرت أنني لا أدخّن. فاكتفيت بالنظر إلى الشجيرات التي تحرّكها الريح في الحديقة الخلفية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.