}

جان دنيال ظاهرة صحافية اخترقت القرن

بوعلام رمضاني 13 مارس 2020
هنا/الآن جان دنيال ظاهرة صحافية اخترقت القرن
جان دانيال في مكتبه في "نوفال أبسرفاتور"/باريس (19/8/1975/Getty)
اختلف كثير من الفرنسيين، نخبة وشعباً عادياً، وخاصة من أنصار اليمين، واليسار، المتطرفين فكرياً، حول جان دنيال، الذي رحل مؤخراً عن عمر يناهز التاسعة والتسعين. لكن لا أحد يختلف حول اعتباره ظاهرة صحافية مكتملة الأركان والآثار المهنية التي ستبقى راسخة في التاريخ الإعلامي الفرنسي والعالمي.
دنيال الذي حارب الشيخوخة الزاحفة بالكتابة حتى الأيام الأخيرة من رحيله في التاسع عشر من الشهر الماضي، بقي يوقع افتتاحيات مجلة "نوفال أوبسرفاتور" الأسبوعية، متحدياً الحقيقة البيولوجية قبل رحيله الفعلي والملموس بستة أشهر حالت دون تحقيق حلم كتابته افتتاحية جديدة بمناسبة بلوغه قرناً من العمر، كما صرح، وكما أشار إلى ذلك الرئيس ماكرون خلال التكريم الوطني الذي خصه للراحل بساحة الإنفاليد في جو بارد وماطر.


محاور كينيدي وكاسترو
الراحل جمع وجادل خيرة المثقفين الفرنسيين الكبار، مثل رولان بارت، وميشال فوكو، وكلود ليفي ستروس، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، ومكسيم رودنسون. عشق الأدب متخذاً

من أندريه جيد دليله السياسي ضد الشمولية الشيوعية قبل كامو. إنه الراحل الذي رفض عرض صديقه فرانسوا ميتران بتعيينه سفيراً في إسرائيل، تحت وطأة حبه الخرافي للكتابة، وحسابات سياسية مرتبطة بالدولة الاستيطانية. كما أنه الرجل الذي كان شاهد عيان على أبرز الأحداث العالمية في شتى المجالات، طيلة قرابة قرن كامل. صفحة محاورته الراحل فيديل كاسترو لحظة اغتيال جون كينيدي يوم الثاني والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، ونقله رسالة من الأول إلى الثاني، تكفي وحدها لتأكيد صحة تفرده مهنياً، ناهيك عن تغطيته الصراع المغربي الجزائري حول الصحراء، وإعجابه بالعدوين اللدودين، الراحل هواري بومدين، والملك الحسن الثاني. صفحات أخرى تركته يدخل التاريخ، مثل دفاعه عن دولتين فلسطينية وإسرائيلية من منطلق يساري غير منصف في نظر فلسطينيين غير يساريين ويهود متطرفين في الوقت نفسه. تأييده لاستقلال الجزائر، ومعايشته إصرار شعبها الأبي على الانعتاق صفحة ناصعة أخرى في مساره السياسي والصحافي، خلافاً لألبير كامو، الذي ولد مثله في الجزائر الفرنسية، وكان قدوته العليا إبداعياً، قبل أن يمزق رفض الثاني صداقتهما بسبب ثورة المليون ونصف مليون شهيد التي ألصقها "بالإرهاب" الذي كان في إمكانه حصد روح أمه.

ماكرون: نحن نكتب افتتاحية وداعك
كما كان منتظراً، ألقى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يوم الثامن والعشرين من الشهر المنصرم، كلمة مؤثرة خلال حفل التكريم الوطني الذي خصص للراحل، بحضور زوجته

ميشال، وابنته سارة، التي عملت إلى جانبه لسنوات عدة، كصحافية في المجلة التي أسسها، مكرساً اليسار المعتدل، ومجسداً القطيعة مع الشيوعية الأرثوذكسية. سرد ماكرون في قالب ويكيبيدي، وهو يتوجه بنظره نحو النعش المسجى بالعلم الوطني الفرنسي، تاريخ المحطات الخارقة، والحافلة بإنجازات ومواقف ومنعطفات نادرة قلما يعيشها الصحافيون غير المتوفرين على ملكة وحس ومعرفة وفعالية وعناد وشغف جان دنيال. لأن الإيديولوجية اليسارية ليست هي من صنعت من الراحل أيقونة وطنية، راح ماكرون ينعي الراحل مركزاً على معالم وأوصاف خصوصياته المهنية، كقوله إنه كان صحافياً واسع القدرة والخبرة والإبداع، جميل وسلس الأسلوب، وعميق ودقيق التحليل (الأسلوب هو الشخصية)، الأمر الذي جعل منه نموذجاً يقتدى به. الراحل كان أيضاً، حسب الرئيس الفرنسي "صاحب رؤى تجمع الأضداد، وتدعو إلى الحوار، وآية ناطقة بشغف غير محدود للغة والآداب والأفكار". قبل توديع الراحل إلى الأبد، والتوجه به إلى مقبرة مونبارناس، كرم ماكرون مؤسس المجلة اليسارية المرجعية والتاريخية بكلمات أكثر تعبيراً على الحدث الجلل والمؤثر بكل المقاييس بقوله: "كنت تحلم بكتابة افتتاحية في عيد ميلادك المئوي، لكن القدر لم يسعفك. علينا نحن كتابة افتتاحية وداعك، وستبقون على قيد الحياة، لأن سلطة الكلمات لا تموت أبداً".

ابن البليدة مدينة الورود الجزائرية
ولد الراحل في مدينة البليدة يوم 21 تموز/ يوليو عام 1920، في عائلة بن سعيد البسيطة اجتماعياً، والأقرب فكرياً إلى الثقافة المتوسطية، والمواطنة الفرنسية، منها إلى الهوية اليهودية، وانعكس ذلك لاحقاً في كتاباته الصحافية والفكرية والسياسية، وفي مزاجه وتعاطفه مع العالم العربي، بوجه عام، ونضال الشعب الفلسطيني، بوجه خاص. أصبح في سن الخامسة عشرة قارئاً نهماً للأدب والسياسة، ومعجباً بصحيفة "فوندروديه" (الجمعة)، التي كانت تنطق باسم

اليسار المؤيد للجبهة الشعبية. شغف الراحل بالقراءة في سن المراهقة أفقده عام 1936 إعجابه بالشيوعية، بعد أن سحره كتاب أندريه جيد "عودة من الاتحاد السوفييتي"، وتحول إلى يساري غير شيوعي إثر دخوله جامعة الجزائر لدراسة الفلسفة، واحتكاكه بأصدقاء مجلة "إسبريه" الشهيرة. اليهودي اليساري غير العرقي الذي نجا من تأثر عابر بالصهيونية استجاب بسرعة لنداءات الجنرال ديغول، إلى الحد الذي دفع به إلى الالتحاق بالمقاومة التي ساهمت في تحرير الجزائر بعد وصول القوات الأميركية عام 1942. بعد فراره من الجيش، وجد الراحل نفسه في صدارة كتيبة لوكلير، والتقى في ليبيا صديقه شارل غيتا، الذي أنقذه  من الموت في أحداث بنزرت التي شهدتها المدينة التونسية الشمالية عام 1960 .


من جندي إلى صحافي وصديق كامو
انفجر الحس الصحافي الذي كان كامناً في أعماق العسكري السابق عقب الحرب العالمية الثانية، بشروعه في تحرير بعض المقالات في مجلة "كومبا" (مقاومة) عام 1946، قبل أن يتوقف عن دراسة الفلسفة في السنة اللاحقة، ليؤسس مجلة "كاليبان"، التي كانت مفتوحة لكل الحساسيات الأيديولوجية، رغم توجهها اليساري الواضح. يعتبر عام 1947 المنعرج الأول الذي سيرسم مكانة الراحل التي تعززت الى درجة غير مسبوقة نوهت بها صحيفة "نيويورك تايمز" التي راسلها ابن مدينة الورود الجزائرية. صاحب "الغريب"، الذي ولد مثله في الجزائر، لم يكن صديقاً عادياً لدنيال، وأصبح حاميه وسنده الأول والأخير، بعد أن رعاه مالياً، ومكنه من منصب رئيس تحرير استطاع أن يستكتب الكتاب أندريه شونسون، ولوييه، وجول روا، وإيمانويال روبليس، وساهمت شريكة حياته، ماري سوسينيه، الكورسيكية، هي الأخرى، في إطلاق وإنجاح مجلة "كاليبان"، إلى جانب رفيق دربه الجامعي، ألبير بول لانتان. بعد توقف المجلة عن الصدور عام 1952، عمل الراحل مدرساً في مدرسة خاصة في وهران، وأصدر روايته الأولى "الخطأ"، التي نشرها بفضل كامو، الذي كان يعمل في دار غاليمار. الصحافة، التي بقيت تسري في عروقه مثل دمه حتى آخر نفس من حياته، أعادته إليها بسرعة، بانضمامه في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1954 إلى مجلة "الإكسبرس"، التي أصبحت محطته الصحافية التي فتحت له باب المجد والشهرة، قبل أن يستقل ويطير بجناحيه حراً تحت سماء مجلة "نوفال أوبسرفاتور".

جان دانيال مع الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران في الصين (12/2/1981/Getty)

شاهد على الثورة الجزائرية
إذا كانت المحطات الصحافية والسياسية والأدبية والشخصية التي ميزت مسيرة الراحل دنيال كثيرة، وكلها هامة ومصيرية تقريباً، فإن تحوله إلى مراسل الثورة الجزائرية، تعد محطة استثنائية بكل المعايير والمقاييس، وعلى رأسها معيار كتابة التحقيق الصحافي الكبير، الذي يحيلنا على المرجعية ألبير لاندر. خصوصية هذه المحطة مزدوجة الأهمية والمعنى والرمزية، لأنها كشفت أكثر من أي وقت مضى التزام الرجل السياسي حيال قضية تحررية هزت العالم، وأكدت فرادته الصحافية كمراسل لمجلة "الإكسبرس"، التي وقع فيها مقاله الأول الشهير عن ثورة الشعب الأبي عام اندلاعها في 1954. الراحل الذي كان قريباً سياسياً من بيار منديس فرانس، ولم يكن رجل سلام في نظر الجزائريين، كما يكتب في فرنسا، تألق بتحقيقاته عن

الثورة الجزائرية المجيدة. وجد الراحل نفسه، رغم أنفه، شاهد عيان على همجية ودموية استعمار غاشم وبغيض سلط التعذيب على أبطال شعب أعزل فرض نفسه عالمياً بنضال مستميت، كما يفعل اليوم الشعب الفلسطيني الذي اضطر الراحل إلى الاعتراف بصموده وبحقه في دولة مستقلة تماماً كالشعب الجزائري.
الراحل الذي  رفض توقيع بيان 121، ووقعته شخصيات دعت إلى العصيان المدني مثل سارتر، فضَّل تبني المقاربة الديغولية لحل الحرب الجزائرية، كما كانت يصفها الإعلام  الفرنسي، واختلف مع رفيق دربه، ومثله الأعلى، ألبير كامو، حول استقلال شعب لم يتردد صاحب "الغريب" في التسوية بين "عنفه" وعنف المستعمر! قبل تدهور علاقته مع جان جاك سارفان شرايبر، مؤسس "الإكسبرس" في نهاية عام 1963، عمق الراحل شهرته الصحافية الدولية بمحاورته الرئيس كينيدي قبل ساعات من اغتياله، ونقله رسالته السرية إلى الزعيم الكوبي فيديل كاسترو.

نوفال أبسرفاتور، أو المجلة التاريخية
ككل الصحافيين الكبار الطموحين والمقتدرين، رفض الراحل عرض أوبير بوف ميري  بالانضمام إلى "لوموند"، واقتصرت علاقته مع الصحيفة الأشهر فرنسياً على تعاون يسمح للصحيفة بتغطية حصرية للأزمة الكوبية. بعد استراحة محارب في تونس، بسيدي بوسعيد، موطن السكينة والتأمل والتمعن، لبى نداء صديقه رجل الأعمال، كلود برديال، بتجديد مجلة

"فرانس أبسرفاتور" (فرنسا المراقب) التي اكتسبت حلة صحافية وفكرية وأدبية غير مسبوقة بعد تأسيسهما "نوفال أبسرفاتور" (المراقب الجديد) التي ما زالت تعرف حتى اليوم باسم "الأوبس" (المراقب) مختصرة كتابياً. لم يكن المال الذي ضمنه رجل الأعمال برديال لهذه المجلة عام 1964 العامل الحاسم في ضمان توزيع بلغ 400 ألف نسخة في السبعينيات، وفي جمع خيرة المفكرين والأدباء، والقدرة الخلاقة على الكتابة الأسبوعية بأسلوب عميق وبسيط وسلس في الوقت نفسه، هي التي استولت على عقول وقلوب الآلاف من القراء الذين لم يكونوا بالضرورة من مناصريه الأيديولوجيين. ما لم يقله كثيرون عن الراحل، الذي لا يختلف اثنان حوله كظاهرة صحافية تجاوزت حدود فرنسا كما رأينا، هو أن علاقته المتينة والشخصية بميتران أثرت على استقلاليته، رغم اختلافهما النسبي حول بعض القضايا، وتراجع المجلة الأسطورية لصيق تاريخياً بتراجع اليسار الإشتراكي، إلى الحد الذي أصبح فيه موت الحزب الناطق به أمراً وارداً. الراحل كان ظاهرة أيضاً، لأن استمراره في الكتابة الصحافية الأسبوعية حتى بلوغه قمة الهرم، لم تمنعه من التأليف بين سنوات 1952 و2016. من أشهر كتبه الثلاثين تقريباً "ديغول والجزائر"، و"أديان رئيس"، و"الحرب والسلام: إسرائيل وفلسطين"، و"السجن اليهودي"، و"مع كامو"، و"ميتران المنفلت".
أتذكر أنه حاول التوفيق بين مسؤولية عساكر الجزائر، وبين الإسلاميين، رداً على سؤال خاص بموقفه من العشرية السوداء، لكنه مال أكثر نحو الجنرالات، تعبيراً على موقف فرنسي ما زال قائماً حتى اليوم. لقد مكنني الحوار الذي نشرته عام 2002 في صحيفة "الخبر الأسبوعي" من الوقوف عند شخصية رجل مهذب وناعم يزن كل كلمة قبل النطق بها، تماماً كما كان يكتب بدقة متناهية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.