}

النمذجة وكورونا

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 16 مارس 2020
هنا/الآن النمذجة وكورونا
عمل فني عن فيروس كورونا رُسم في إسبانيا (Getty)
مع تحول بطش الفيروس المتجدد المتمدد إلى جائحةٍ وبائيةٍ مرعبة، أجدني مدفوعاً بشيطنة مشاكسة، إلى معاينة مواقف المثقف العربي من المسألة.

فعلى خلاف المنطق العقلاني المتماسك، يرتاح كثير من (مثقفينا) إلى القياس على نماذج جاهزة. النمذجة وِجاؤهم، وساترةُ ركاكةٍ معرفيةٍ تأمليةٍ ثاقبةٍ عند (نماذج) منهم يسدُّون أبواب الشمس في مشارق (الأمة) ومغاربها.
تتجلى نظرية المؤامرة، بادئ ذي بدء، بوصفها (تعليلة) سهلة الركوب، هلامية التواصيف، ممكنة التجديف في أي بحر وبركة ماء، وحتى وسط محيط متلاطم الأمواج، يحتاج ربّاناً حكيماً خبيراً عالماً بأسرار الماء وعنعنات الموج.


فهي (كورونا) إما مؤامرة غربية إمبريالية ضد اشتراكية سور الصين العظيم، أو العكس في حال كان (مثقفنا) ليبيراليَّ الطبع غربيَّ الهوى؛ فتكتّم الصين الشمولية غير الديمقراطية، هو من سهّل سبل انتشار الوباء كالنار في الهشيم.
وحين لا يجد المثقف العربي المغوار نموذجاً يقيس عليه، أو آيات من قرآن ماركس، أو أسفاراً من مقدسات ماوتسي، أو مقولات لا تقبل النقاش لهنغتنغتون، أو حلولا شافية عند هايدغر، أو هيجل، أو نيتشه، وقائمة تطول، فإنه يتلعثم ويسقط مغشياً عليه.
لا يفكر في العادي الواضح السهل البسيط: فيروس طوّر نفسه، وفق نظريات البقاء والاضمحلال، وبالرجوع إلى فلسفات العلم حول الفعل ورد الفعل، وما يتعلق بنظريات التكيّف وتطوير ملكات المناعة عند أجيال بعينها من تلك الفيروسات متناهية الصغر، ومع تحول تعاطي البشر مع المضادات الحيوية إلى ما يشبه تعاطيهم مع كأس الماء ولقمة الخبز، فإن منطق الأشياء، ونحن هنا نتحدث من زاوية العلم التطبيقي الخالص، يقول إن احتمالية حدوث طفرة عند نوع من أنواع هذه الفيروسات أمر وارد جداً. ثم إن الحياة، من زاوية بعينها، ليست سوى صراع متواصل مع الموت إلى أن ينتصر الأخير في نهاية المطاف.
فيروس لا يُرى بالعين المجردة وحّد العالم في جهاته الأربع، كنا نقول مجازاً إننا نعيش في قرية صغيرة اسمها كوكب الأرض، فإذا بالمجاز يتحوّل بسرعة مجنونة مروّعة إلى حقيقةٍ من خوفٍ وقلقٍ وَهَوَسٍ واضطرابٍ وجدانيٍّ يقينيٍّ مشوّش.
المثقف العربي عموماً (غير الحقيقي ولا العضوي طبعاً)، وليس في حالة كورونا فقط، يخفق في كثير من المسائل الحيوية اليومية العادية؛ فهو لا يملك رأياً مفيداً حول مشكلة سطح عمارته، ولا يدري ماذا يقول حول أماكن صف السيارات في حارته، ويتوارى عندما يفكر أهل الحي بحل مشكلة جار متعثر، ويكاد لا يرد على تحية الصباح، ويفتقد للمّاحية وهو يعبر الطريق إلى مشاغل الأيام. ثم إنه ظاهراتيٌّ نمطيٌّ تنتقل كثير من أحجياته المملة بين أوساطه الملوثة بأسرع مما انتشر الفيروس، أسرع بكثير، وبما يمكن النظر إليه كوباء مستشرٍ شرس متعالٍ يرفض أي مراجعة ذاتية، أو وقفة تأملية.
طبعاً المثقف المصطنع (كوم) و(المثقف) الحزبي (كوم) ثان، فهذا الأخير لعنة أين منها لعنة كورونا. إذ لا يتردد بتسخير كل المصطلحات الجوفاء فاقعة التهالك التي حفظها خلال عمره الشبيه بعد السنوات دون أي تمايز أو مغايرة، لتبرير موقف حزبه المؤيد لنظام دكتاتوري أحادي شمولي على سبيل المثال. ولا ينسى مهما تكررت المناسبات أو تراكمت اللقاءات، أن يستخدم مفردة (رفيق) أو مفردة (أخ)، ومفردات أخرى بالية عفا عليها الزمان: البروليتاريا، الإمبريالية، الرجعية، الانتهازية، البرجوازية، وقائمة تطول لا يغني إيرادها هنا ولا يسمن من جوع.
أصل مفردة مثقف لغوياً من ثقف الرمح أو السهم، أي سنّه وجعله قادراً على الوصول إلى غايته بدقَّةٍ وحدَّةٍ وفاعلية، فأين كثير (منّا) من أصل المفردة وتجليات معانيها، وضرورات تمثلها؟ ومتى يمكن أن يصبح المثقف العربي نفسه أنموذجاً، بدل أن يظل تائهاً في النبش داخل أكوام النماذج المعلّبة؟

تستفرد الجائحة بمباهج الكون، تحبس الناس داخل أقفاص الانتظار، تمنح الفرد مساحة التفكير بالوجود والعدم والحياة والموت والخير والشر ومتوالية الليل والنهار وناموس الحقائق وفكرة العقاب والثواب والعدل وهشاشة الكائن المغرور من بين باقي كائنات الكوكب ومكوّناته، ورغم كل هذا وذاك، لا يجد (المثقف المدعي) في هذه الفسحة فرصة إجراء (فورمات) format لإعداداته منتهية الصلاحية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.