}

كورونا.. الوباء في زمن العولمة

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 22 مارس 2020
هنا/الآن كورونا.. الوباء في زمن العولمة
كورونا... فرصة للمطالبة بنظام عالمي أكثر تضامنا وإنسانية
خلقت العولمة سوقاً دولية مزدهرة، وبنى المصنعون سلاسل توريد مرنة عن طريق استبدال مورد أو مكون بآخر عند الحاجة، وأصبحت الثروة الوطنية جزءاً من الثروة العالمية، وظهر تقسيم عالمي للعمل، ودفع التخصص باتجاه كفاءات أكبر وتحقق نمو مطرد.
خيارات السوق فرضت اعتمادا متبادلا، واحتضنت الشركات سلاسل التوريد العالمية، ما أدى إلى ترابط شبكات الإنتاج التي أصبح الاقتصاد العالمي أسيرا لآلياتها، بحيث أن مُنتجاً معيناً أصبح يصنّع في عشرات البلدان، فبصرف النظر عن نوع وطراز السيارة فإنها اليوم تتألف من قطع تأتي من 35 بلدا، وقبل شرائنا للهاتف المحمول ليصبح قيد استخدامنا له تعبر مكوناته المختلفة 15 بلدا. ومع عالمية الإنتاج أصبحت الدول، أكثر اعتماداً على بعضها بعضاً، في ظل عدم تمكن دولة من السيطرة على جميع السلع والمكونات التي يحتاج إليها اقتصادها، وتم دمج الاقتصادات الوطنية في شبكة عالمية واسعة من الموردين.
كان سقوط جدار برلين في أواخر ثمانينيات القرن الماضي البداية لتوحيد النظام الاقتصادي العالمي، وتغيّرت الصين بعد ماو تسي تونغ، الذي طويت برحيله صفحات الكتاب الأحمر، رغم استمرار الحزب الشيوعي الصيني كمنظومة سياسية وإدارية أحكمت قبضتها في إدارة البلد. إلا أن الصين تخلّت عن الشعارات الأيديولوجية، وركّزت على الأعمال والتجارة والتوجيه بعيداً عن السياسة، محلياً ودولياً، وطوّرت رأسمالية خاصة بها، قدمت أقل كلفة إنتاجية، مما دفع بالشركات الصناعية الكبرى لتصنيع أغلب القطع اللازمة في هذا البلد، الذي أصبح منطلق سلسلة إنتاج ممتدة على مستوى العالم، وهو ما أدى إلى انخفاض كبير في أسعار المنتجات الاستهلاكية، ونجحت على مدار عقدين كاملين في خفض معدلات التضخم، وتحقيق النمو الاقتصادي، وتحرك الصينيون ومنتجاتهم وأموالهم إلى كل مكان، وأصبح اقتصادها الثاني عالميا، ليمثل عند اجتياح فيروس كورونا 17% من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، واعتمدت صناعة الأدوية العالمية على الصين في 80% من إنتاجها.

وبعد رواج العولمة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية سبيلا وحيدا للتقدم يأتي فيروس كورونا ليكشف هشاشة العولمة، ويقلب الموازين العالمية معيدا دولا كاملة عقودا إلى الوراء، وقافزا بأخرى إلى المقدمة؛ تلك التي يمكن أن تحسن توظيف "سياسات الاستفادة من الكوارث".
أسهم تكتم الصين طويلا على الوباء، في أن يقطع كورونا الكرة الأرضية كلها قبل أن يستعد العالم للمواجهة. الكارثة الكونية جعلت الأصوات تتعالى مطالبة بأوسع تعاون بدل العمل الانفرادي. لم يفعل وباء عالمي في تاريخ البشرية ما فعله كورونا، ورغم أن ضحاياه لا تزال بالآلاف، مقارنة بمئات الآلاف الذين خلّفتهم، منفردة، حرب أو وباء اجتاح هذا التاريخ، لكن لم يسبق لوباء أن اجتاح العالم بأسره، وبالسرعة نفسها، ولم تغلق الحروب، بما فيها حربان عالميتان، الحدود وتمنع التواصل بين البلدان والقارات. المفارقة أن الوباء المعولم جعل العزل أمراً واقعاً بدءاً من الدوائر الجغرافية الأكبر وصولاً إلى الأصغر.




كورونا والعولمة الهشة
في السنوات الثلاث الماضية، تباطأت معدلات التبادل التجاري، وحجم التجارة الدولية، في ظل مناخ من العداء المتصاعد بين القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة والصين، وهو ما اقترن بتراجع الطلب على المواد الأولية، وتراجع أسعار البترول. ووفّر تفشي فيروس كورونا، المناخ الأكثر مناسبة لتسعير هذا الصراع، الذي يشهد العالم مزيدا من فصوله. وفي هذا الإطار، تبدو الحكومات أقل قدرة على استيعاب التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة، وأدواتها أقل تأثيراً. فلم تسمح العولمة بالانتشار السريع للأمراض المعدية، فحسب، بل عزّزت الترابط العميق بين الشركات والدول، مما يجعلها أكثر عرضة للصدمات غير المتوقعة، ويتكشف اليوم مدى ضعف الشركات والدول في مواجهة الأزمة.

مع كورونا انهارت أهم سلاسل الإمداد، وسارعت الدول لتكديس إمداداتها الطبيّة، وحظر التنقُّل والسفر، وباتت الأزمة تُحتِّم إعادة تقييم شاملة للاقتصاد العالمي المتداخل. وتسبب الافتقار إلى بدائل التصنيع الآمنة في انهيار سلاسل التوريد، كما حدث في بعض القطاعات الطبية والصحية نتيجة لفيروس كورونا الجديد. ففاجأ ارتفاع الطلب منتجي الإمدادات الطبية الحيوية، مما أدى إلى منافسة بين الدول على الموارد. النتيجة: تحول في ديناميكيات القوة بين اقتصادات العالم الرئيسة، كشفت عن هشاشة النظام المعولم، بعد انهيار عديد من القطاعات الاقتصادية. وبعد أن اعتمد المصنّعون على تكوين مخزون من الإمدادات لحماية أنفسهم في الأزمات، اعتمدوا في عصر العولمة على سلاسل التوريد التي تنهار اليوم في ظل وباء عالمي يمنع مورداً واحداً في بلد ما، من إنتاج مكون حاسم ومستخدم على نطاق واسع. ومنذ منتصف يناير/ كانون الثاني خلق كورونا فوضى حقيقية في سلاسل إمداد الصناعات العالمية، فتقطعت سلاسل الإمداد الصناعي في العالم بين الدول والقارات، وتوقفت حركة الطيران والسفر، وأغلقت بعض الدول حدودها.

كورونا والتضامن العالمي
الديناميكيات الاقتصادية للعولمة تُهدِّد بتصاعد الأوضاع وتعميق الأزمة، مع عرقلة سلاسل الإمداد الخاصة بالمستلزمات الطبية العاجلة. حيث يمكن لمزود الخدمة الوحيد، أو مناطق محددة في العالم تختص بمنتج واحد فحسب، أن يتسببوا في هشاشة مفجعة في أوقات الأزمات بانهيار سلاسل الإمداد، ليعرقل التذبذب في الإنتاج مكافحة الفيروس المستجد، فالإمدادات الطبية الحرجة مثل «الكواشف»، التي تستخدمها المختبرات للكشف عن الحمض النووي الريبي الفيروسي، نفد مخزونها في العديد من الدول، ولم تتمكن شركات إنتاج الكواشف، وعلى رأسها «كياغن» و«روش» العالميتين من مواكبة الزيادة غير العادية في الطلب على منتجاتهما. وقد أدى النقص إلى تأخير إنتاج معدات الاختبار في الولايات المتحدة، التي تجد نفسها مضطرة للانتظار مع دول أخرى، لشراء المواد التي تحتاجها.

وحتى قبل تفشي الفيروس أنتج الصينيون نصف الأقنعة الطبية في العالم، وكثّف مصنّعوها إنتاجهم نتيجة للأزمة، لكن الحكومة الصينية اشترت فعلياً كامل إمدادات الأقنعة في البلاد، بينما استوردت، أيضاً، كميات كبيرة من الأقنعة وأجهزة التنفس من الخارج. ومن المؤكد أن الصين كانت بحاجة إليها، ولكن نتيجة زيادة الشراء، كانت هناك أزمة عرض أعاقت استجابة الدول الأخرى للمرض. حظرت روسيا وتركيا تصدير الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس. وفعلت ألمانيا الشيء نفسه، على الرغم من أنها عضو في الاتحاد الأوروبي، الذي من المفترض أن يكون له «سوق واحدة» تسمح بتجارة حرة بين الدول الأعضاء. واتخذت الحكومة الفرنسية الخطوة الأبسط المتمثلة في الاستيلاء على جميع الأقنعة المتاحة.
وباستثناء الصيدليات ومحلات البقالة، فإن إيطاليا في حالة إغلاق كامل، وسط انتشار سريع للفيروس، فأغلقت المدارس والجامعات والمطاعم، كما ألغيت مباريات كرة القدم، ولا يُسمح إلا بالسفر الضروري للغاية. وكان من المفترض أن ترسل دول الاتحاد الأوروبي للإيطاليين بعض الإمدادات الحيوية، بناء على طلبهم، لكن ذلك لم يحدث. إجراءات الدول الأوروبية المنفردة تقوض التضامن وتمنع الاتحاد الأوروبي من اعتماد نهج مشترك لمكافحة كورونا.
تسييس إدارة دونالد ترامب للمرض ساهم في التأخر في تبني استجابة متماسكة للوباء في الولايات المتحدة، التي تفتقر إلى العديد من الإمدادات التي تحتاج إليها، إذ لم تجدد مخزونها الوطني من الأقنعة منذ عام 2009، ولديها جزء صغير، فقط، من الكمية المطلوبة. ولم يكن مفاجئا أن يستغل المستشار التجاري للرئيس دونالد ترامب، بيتر نافارو، هذا النقص، لتهديد الحلفاء، وتبرير الانسحاب الإضافي من التجارة العالمية، بحجة أن الولايات المتحدة بحاجة إلى "إعادة قدراتها التصنيعية وسلاسل التوريد للأدوية الأساسية".

هناك تحول في سياسة التضامن العالمية، فبما أن صحّة وسلامة المواطنين على المحك فقد تُقرِّر العديد من البلدان، أن تحظر الصادرات أو تُصادر إمدادات ضرورية للخارج، حتى إن عنى الأمر إلحاق الضرر بدول حليفة أو جارة لها. وحتى اللحظة لم تكن الولايات المتحدة هي القائد في الاستجابة العالمية لفيروس كورونا الجديد، وبدا أنها تتنازل عن دورها لصالح الصين، التي استطاعت السيطرة على انتشار الوباء. يعيدُ كورونا تشكيل الجغرافيا السياسية للعولمة، والبقاء لمن يستطيع التكيف.
قيّد كورونا حركة النقل، وأقفل المدارس، وألغى الأنشطة الرياضية والفنية والثقافية، وأربك الاقتصاد العالمي، وأجبر الناس على الحجر الذاتي، ويشهد العالم اليوم تراجعاً ملحوظاً في التعاون الدولي متعدد الأطراف، على عكس التعاون الدولي في عام 2009، حيث اجتمعت الاقتصادات الكبرى مع الاقتصادات الصاعدة، في إطار "مجموعة الـ 20"، لأخذ التدابير اللازمة لمواجهة الأزمة. ولا يمكن إغفال تأثير تراجع التيار الوسطي المتبني للعولمة وللتعاون متعدد الأطراف على الساحة الدولية، وصعود التيارات القومية والانعزالية، في تشكيل المناخ المتوتر والاستقطابي الذي يهيمن على التفاعلات العالمية حالياً، ويعيق التعاون في الأزمة الحالية.

كورونا -إيران (فاطمة بهرامي/ وكالة الأناضول) 


















هل وضع كورونا حدا للعولمة؟
لأول مرة في التاريخ الإنساني يشترك العالم، البلدان المتقدمة والنامية، في حالة طوارئ لمواجهة عدو واحد، ومع اتساع رقعة انتشار الفيروس، فإن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحاً لأن تنسّق الدول الجهود فيما بينها لمواجهة كلفة هذه الأزمة على المستوى الأهم والأكثر كلفة، وهو المستوى الإنساني.

غيّر هذا الفيروس العالم بالفعل، وتحت وطأته تتداعى تكتلات سياسية واقتصادية، تغلق الحدود، وتمنع حرية تنقل الأشخاص بين البلدان، والحريات والحقوق الفردية باتت مهددة مع ضرورات الحجر الصحي، وتستمر بالتمزق الروابط التجارية، ويتعثر الانسياب السلس للسلع والبضائع والخدمات بين الدول والقارات، ويبدو أن الوباء يبدد ما بنته العولمة خلال عقود من الزمان.
يعتقد البعض أن أزمة كورونا ستحدّ من العولمة، وستضعف المنطق الذي يستند إليه دعاة الانفتاح الاقتصادي، وإزالة الحدود التجارية بين الدول، وستقوي دعاة الانغلاق التجاري والاقتصادي أمثال الرئيس ترامب، والتيارات الشعبوية المناوئة للاجئين والتي تطالب بتعزيز سلطة الدولة، والتركيز على الاحتياجات الاجتماعية المحلية على حساب حرية الأفراد والتعاون بين الدول.
البعض الآخر يعتقد أن العولمة لا تزال منتصرة، حتى لو لم تحل المشاكل العالمية، في ظل عدم وجود حكومة عالمية، واستمرار وجود دول ذات حدود، وحكومات تقوم، في كل حالة محددة، بحل المشاكل العالمية على مستواها، وتتواصل بطريقة ما وتساعد بعضها البعض، وأن ما يحدث اليوم إن هو إلا تمرين عالمي لتحديد مدى استعداد الدول للسيطرة على حدودها، ومدى تطور النظام الطبي أو تخلفه، ومدى السرعة التي يمكن بها أن تحدد الدولة بؤر انتشار الفيروس. أما على صعيد التكامل الصناعي والخدمي الذي كان قائماً على سياسة اختيار دول التصنيع بناءً على رخص الكلفة، فسيتغير، وسيتيح المجال لدعاة توطين الصناعات ومكوناتها لتنفيذ السياسات الحمائية في الصناعة، وستعيد الشركات والصناعات التفكير في سلاسل إمداداتها، وستضع في الحساب المخاطر المترتبة على ذلك، إلى جانب حساب كلفة إنتاج المكونات والمواد الأساسية.



كورونا عربياً


يصنف مؤشر أمن الصحة العالمي دول العالم إلى ثلاث فئات: مستعدة جدا، متوسطة الاستعداد، وضعيفة. ويستند المؤشر في تصنيفه إلى عدة معايير منها: القدرة على الكشف المبكر عن المرض، وإمكانية منع انتشاره، وسرعة الاستجابة في علاج المصابين، والطاقة الاستيعابية للنظام الصحي. ولم تتضمن الفئة الأولى أي دولة عربية.


زحف الفيروس إلى البلدان العربية، مهددا اقتصادها ومجتمعاتها، مما أوجب الاستعداد للتعامل معه بهدوء وشفافية، ووضع خطط محددة لإدارة الأزمة، حتى لا تكون تداعيات الموقف أخطر من المرض نفسه، لكن منظمة الصحة العالمية شكت من عدم شفافية بعض الدول العربية في التعامل مع المرض. وفي ظل التقصير الحكومي، وغياب الشفافية، واللجوء للإنكار والتطمين الزائف، وكأن كورونا قضية أمن دولة، استمرت عدم ثقة المواطنين بالحكومات، وتم إيجاد مصادر بديلة غير رسمية لتقصي الحقائق تمثّلت في وسائل التواصل الاجتماعي، وتعليقات المستخدمين، في فضاء يخال الواحد منا أن الجميع فيه أصبحوا أطباء ومختصين بعلم الأوبئة، انخرطوا في بازارات الوصفات والعلاجات.
ورغم أن الوباء هزأ من اختلافاتنا الدينية والقومية، تم تسيس المرض، وجرى تبادل الاتهامات، وتم النظر إلى المرض على خلفية الأزمة الخليجية، أو حالة الاستقطاب السني- الشيعي التي تعصف بالمنطقة، أو نظر إليه بوصفه عقابا إلهيا ضد تلك البلاد التي تحارب المسلمين (خلّصت الصين جميع مواطنيها من الوباء دون تفرقة). وبعد أن وصل الوباء إلى بلاد المسلمين، جرى الانتقال من نظرية العقاب الإلهي إلى نظرية المؤامرة.

تحت ضغط القلق من المستقبل لا يضع انتشار الشائعات حول كورونا الأمور في حجمها الطبيعي، مما يهدد بتفشي هيستيريا جماعية تهدد أفراد المجتمع وتوازنهم النفسي.

ومهما كانت خطورة الإصابة بالوباء كبيرة في حد ذاتها، فإن طرق التعامل السيء معها، وما يرافقها من شائعات، قد تكون أشد خطرا، حين تهدد الروابط الاجتماعية، وتطلق العنان لشكل خفي من حرب أهلية يتوخى معها الجميع الحذر من الجميع، ويصبح هاجسهم الوحيد هو أخبار المرض على حساب غيرها من أمور اجتماعية وسياسية لا تقل أهمية.
رغم مرارة التجربة الحالية غير المسبوقة التي يمر بها العالم، ومنه عالمنا العربي، إلا أنّها فرصة لأن تتمسك الشعوب بحريتها، وبحقها في المعرفة، وللمطالبة بأنظمة صحية أكثر تطوراً وفعالية، وبنظام عالمي أكثر تضامنا وإنسانية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.