}

المسكوت عنه في الإعلام والثقافة.. ما نعرفه ولا نقوله

مناهل السهوي 23 مارس 2020
هنا/الآن المسكوت عنه في الإعلام والثقافة.. ما نعرفه ولا نقوله
لوحة للتشكيلي الروسي أندريه ريمنيف
لدينا نحن البشر دوماً ما نقوله عن طريق الثقافة والفن والإعلام، إنّها وسائل نحكي فيها عن وجودنا ورغباتنا وهواجسنا، تتمدد لتتسع حيواتنا، وتذهب بنا لتجربة حياة موازية، لكننا نضطر مرغمين في بعض الأحيان إلى تقليصها حتى تتناسب ومساحة الخوف والتردد إن جاز التعبير. ولكن ما هي مساحة الخوف؟ هل هي ما نخشى قوله ونُرغم على السكوت عنه مجبرين لأسباب داخلية أو خارجية حتى لا نقع ضحية للنبذ، الهجوم أو الأذى؟
لدينا في عالمنا العربي العديد من القضايا التي تُطرح بطرقٍ مواربة والتي قد لا تطرح على الإطلاق بسبب العديد من المخاوف التي تحكم حياة الفرد والفنان والإعلامي، منها السياسية والاجتماعية والدينية، فكيف يتحدث المثقفون العرب عن هذه القضايا وما هو المسكوت عنه في إعلامنا وثقافتنا.
في التحقيق التالي نلقي الضوء على بعض تلك القضايا:


المثنى الشيخ عطية: القضايا المتعلقة بجوهر الاستبداد
يرى الشاعر السوري المثنى الشيخ عطية أن الإعلام والثقافة مفهومان مختلفان، ومهامهما مختلفة كذلك، كما أن كلاً منهما يحمل مفاهيم متعددة؛ فالإعلام الرسمي هو غير الإعلام المعارض، والثقافة الجمعية هي غير الثقافة السائدة، إضافة إلى أن مهام الإعلام تختلف من مكان إلى آخر، ومن نظام إلى آخر حتى لو تشارك العالم العربي بخضوعه للاستبداد.
يتابع قائلاً: "أعتقد أن مهمة الإعلام الرسمي، في دولة مستبدّة، هي ترويج سياسة النظام وتغطية مفاسده، والدفاع عنه وعن حاكمه، ويدخل في تنفيذ هذه السياسة، أكثر من تجاهله بعض القضايا أو تقديمها بطريقة مواربة، تزييفُ الحقائق، وتقديم أكاذيب توافق هذه السياسة على أنها الحقائق". لكن وحسب الشاعر السوريّ فإن هذا الإعلام يفشل غالباً بمهمته، بسبب أن تغطية الحقيقة مهمة صعبة للغاية، وأن من يخدمون مهمة النظام هذه هم غالباً من عديمي الكفاءة، وأن معظمهم مستأجرون، ولا يملكون قوة الاعتقاد التي تقوّي عامل منح الإعلام مصداقية، ويضاف إلى ذلك ما يقوم به الإعلام المضاد للمعارضة على اختلاف دوافعه من كشف لتزييف هذا الإعلام.

من جهة ثانية وبالنسبة لإعلام الدول الديمقراطية، يعتقد عطية أن هذا الإعلام لا يستطيع أن يتجاهل بعض القضايا، أو يقدّمها بطريقة مواربة، فالمعارضون موجودون داخل هذا الإعلام نفسه، والإعلام المعارض من مختلف الجهات يقوم بعرض آرائه وحقائقه بحرية، ومواطنو الدول الديمقراطية لهم حق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب، ويستطيعون إسقاط الحكومة إن لم يقوموا بانتخابها بعد انقضاء مدتها الشرعية. 
لكن بالنسبة للثقافة ومن وجهة نظره ينتقل الأمر إلى مستويات أكثر تعقيداً، فثقافة أنظمة الاستبداد السائدة تقوم بتجاهل بعض القضايا، أو تقدمها بطريقة مواربة من خلال المثقفين المرتبطين بها، سواءً كان ذلك قناعةً أو ارتزاقاً أو خوفاً. ويقول في ذلك: "إن فعل الشاعر أدونيس في التغطية على جرائم النظام السوري بتبرير الخوف من "الأسلمة"، مثال صارخ على ذلك؛ لكنّ هذه الثقافة تعاني في هذا المستوى من وجود مثقفين نوعيين يقومون بتفكيك وكشف تعقيد هذا الفعل، كما قام المثقف صبحي حديدي والعديد من المثقفين النوعيين بهذا ضمن المثال المطروح". ويرى عطية أن هذه الثقافة تقوم بتقديم وترويج قيمها ومثلها التي تعاني من الركاكة وانكشاف طبيعتها "الهابطة"، وزوالها مع زوال النظام الذي أنتجها، بسبب عدم استطاعة ركاكة هذه الثقافة التثبت في الثقافة الجمعية، وإن تثبّتت ففيها ما يساهم في تعرضها للنخر من مختلف قيم الخوف التي ترى فيها واهمةً نجاتها.

عطية: القضايا المسكوت عن طرحها في الثقافة والإعلام العربي هي جميع القضايا المتعلقة بجوهر الاستبداد، وجوهر الفساد، وجوهر الحرية

















وينهي المثنى بقوله "وعلى هذا فإن القضايا المسكوت عن طرحها في الثقافة والإعلام العربي هي جميع القضايا المتعلقة بجوهر الاستبداد، وجوهر الفساد، وجوهر الحرية، الذي يكشف استعصاء أنظمة الاستبداد الحاكمة على الإصلاح، ويطالب ويقوم بفعل التغيير الجوهري لهذه الأنظمة إلى أنظمة ديمقراطية تتحقق فيها انكشافات الإعلام والثقافة وانكشافات أسباب قيامهما بالتجاهل والمواربة، ارتزاقاً أو توافق مصالح، أو خوفاً، تحت ضوء حرية الرأي، مهما حاولت القوى المتصارعة القيام به من تضليل ومواربة".


عماد آرنست: المسكوت عنه الأكبر الجنس
يبدأ المخرج المصري عماد آرنست بقوله: إننا جميعاً ومنذ الشباب وإلى الآن، نسمع ونواجه في حياتنا ومهنتنا وفنوننا تابوهات ثلاث كالسياسة والدين والجنس، وتهاجمنا "كمصطلحات" رقابية حمائية غامضة الحدود وحادة التحذير، وهي المجال الحيوي لمهمة كلّ من الإعلام والثقافة موضع سؤالنا والمسكوت فيهما.
إلا أن المخرج المصري تعلم مبكراً من الفلسفة، كفنان مشغولٍ للغاية بأمور السعادة والقيمة والمعنى، آليتي تفكير هامتين، أولهما حسب قوله: "أن ماكينات الأمان النفسي الحمائية الفردية والسلطوية، وأقصد هنا أي ماكينة للتفكير وآليات ضبطها وتطبيقها، هي من صُنعِ كل من الفرد والمجتمع ونوع سلطته التي يفرزها". يتابع آرنست: إلّا أنّها، وفي الأخير، وإذا ما سادت داخلياً وتصلبت لفترات زمنية طويلة في كلّ منهم تحدث إنحرافات وتشوهات تعرقلهم عن التقدم والحياة، بل وتخضعهم في عضوية متدرجة زمنياً، وسريّة حد الإفلات من الرصد الداخلي، لمسارات الجمود والإنحطاط وأخيراً الإنهيار أو أقلها تقديراً الإرتباك البندولي الذهني داخل صراعات غريزة البقاء.

وتأتي الفلسفة حسب آرنست لتحذرنا بثاني آلياتها؛ فكلما وضِعَت أمامنا في الثقافة في معناها الواسع "مصطلحات" غامضة الحدود وساطعة التحذير كتلك فثمة "مفهوم" جلل يقبع خلفها وعلينا البحث عنه، فهي مجرد مسكوت حاضر لغيابه، وهو في حالة سؤالنا هذا "الهوية".
يقول في ذلك: "وكما تلاحظين نحن كجماعة متحدثة للغة العربية وفنانيها ومتعاملون بها مهنياً وحياتياً، لسنا الوحيدين المشتبكين في حرج بالغ من بين الجماعات البشرية مع مفهوم "الهوية" على مستوى العالم الآن". وحسب آرنست فالهوية أزمةُ قرنٍ حداثيّ كاملٍ سبق أن عاشه أسلافنا جميعاً، ولكن أهميته الآنية تتعلق بكونه يخصُّ مسار نجاتنا لا مسار بقائنا، لكن المخرج المصري يؤكد أننا الأكثر بطئاً وتسلطاً ولوعاً وغموضاً (في شكل أسطوري مذهل ومتغلغل) تجاه طرحه علناً في علاقته بمصطلحات ثلاثية التابو، وخاصة في علاقته المعلوماتية الشائكة مع مفهوم "الثروة".

 آرنست: نعاني من كلّ الظواهر العنيفة التي نتناولها في رطانة مثرثرة في خطاباتنا الثقافية بنفس آليات البطء والتسلط واللوع والغموض

















يتابع المخرج المصري أن السياسة كتابو لا تُطرَح في منطقتنا في علاقتها العضوية الشائكة مع الهوية والثروة، ومسكوت عنها في كلّ منصاتنا الرسمية والهامشية والفردية والجماعية والشللية والعائلية والقبلية في وطننا العربي. ويضيف: "ونفس الأمر ستجدينه في علاقة الدين كتابو ثان بكلّ واحد منهما. ولأن كلا التابوهين ليسا سوى حضور متجل للمسكوت الأكبر عنه والمرتبك الأعلى من بين التابوهات الثلاث وهو الجنس"، لذا نجدنا نعاني من كلّ الظواهر العنيفة التي نتناولها في رطانة مثرثرة في خطاباتنا الثقافية بنفس آليات البطء والتسلط واللوع والغموض، وذلك أكثر من العالم المتحضر "اليميني" في لحظة أزمته أيضاً مع الهويّة والثروة.
ينهي آرنست بقوله: "ولأن البشر جماعة واحدة، ولأن فلسفاتهم تلهث في عجز لإكتشاف ضوء آخر النفق، لذا، ولرصدي لأنطولوجيا الفن في علاقتها بالفلسفة والأسطورة، وخاصة في كل عقدين قبل نهايات القرون وبعدها، أبشرك وأبشر فنانينا بما قلته منذ سنوات: لقد آن أوان أن يتراجع الفيلسوف ويتقلد الفنان مقعد الخيال الإنساني لحلحلة التابو البندولي الأكبر؛ هوية العقل".


محمد الهادي الجزيري: الفكر الأُحادي الرافض للآخر
يرى الشاعر والإعلامي التونسي محمد الهادي الجزيري أن المسكوت عنه هو معضلة قديمة جديدة ولها جذورها في الفكر العربي الإسلامي، فطرح كلّ ما يجول في النفس العربية من وساوس وهواجس على الناس أمر مستبعد وإن تجرّأ بعض "المجانين الكبار" على فعل ذلك ولقوا الويلات جرّاء شجاعتهم وإخلاصهم للحقيقة.
يتابع الجزيري بأنه وفي تاريخنا كما حاضرنا ثمّة ثالوث ممنوع الحديث عنه والتطرق له وهو الدين والسياسة والجنس وإن اختلفت ردّة فعل كلّ سلطة حاكمة على كلّ خروج على الطريق المستقيم، حسب البلد الذي يقيم فيه الخارج والمارق.

ويتابع: "ولكم في جغرافيا الوطن العربي نماذج دالّة على ما أقول، ولنا في دهاليز التاريخ شواهد دامغة وأمثلة صارخة مثل حادثة ابن المقفع ونهايته الأليمة ومثل ما وقع لكتب ابن رشد من حرق ومثل ما يقع في العصر الحديث من سجن اعتباطي لشاعر كتب قصيدة لا تعجب السلطان، فالمشكلة مرتبطة بالفكر الأحادي الرافض للآخر والمضيّق عليه كلّ درب وباب وفُتحة يستنشق منها نسيم الحرية (وإن كنت مؤمنا بالأجل المحتوم لهذه الفترة / فلكلّ نهاية)".
ويرى الجزيري أن الأمثلة كثيرة وهي قضايا بالغة الأهمية مثلاً ولا يوجد من يتطرّق إليها ومردّ ذلك الخوف المهيمن على النفوس حسب رأيه، فمن يتجّرأ على الحديث عن مسألة الحكم مثلاً، من يجد الشجاعة في نفسه للتطرّق لموضوع سيطرة القبيلة على مفاصل الدولة والفساد الذي ينخر كلّ شيء..

 الجزيري: الحرية ديدن هذه الأمة والمعركة بين الوردة والسيف اقتربت من نهايتها 

















وفي سبب تجاهل موضوع ما يرى الجزيري أن المراد من ذلك كتم صوته ودفنه وهذا ما تحاوله الصحافة العربية حتّى لا تسقط في فخّ المواجهة وتصطدم بالقوّة الغاشمة للسلطة من إغلاق وسجن ورصاص وأشياء أخرى غير وديّة. يقول: "أعتقد أنّ المعركة بين الوردة والسيف اقتربت من نهايتها وما يحدث في بلدان عربية كثيرة يدلّ على صواب ما ذهبت إليه، فالحرية ديدن هذه الأمة وما هذه العراقيل التي نستشفها في وسائل الاتصال وفي الصحافة المكتوبة خاصة وفي باطن الإنسان العربي المسلم ما هي إلا تململ الفرد والمجموعة والشعب والأمة من شدّة حبسها". وبحسب الشاعر التونسي ثمّة إنجازات يقوم بها بعض "الزعماء" تصبّ في نهر حريّة الفرد خاصة في الثالوث المحرّم والمحظور. ويتابع: "وأعتقد أنّ العالم وليس فقط العرب ذاهب بخطى حثيثة إلى حريّة الاختيار وفرز الطالح من الصالح واتخاذ القرار الفرديّ في ما يخصّ الفرد، فلا سلطة لعائلة أو قبيلة أو دولة على أحد، وأقول كلامي هذا، منتظراً تحقّق نبوءتي في القريب العاجل إذ أنّ العالم يغلي".

منى كريم: ذكورية الوسط الأدبي
تظنّ الشاعرة والأكاديمية العراقية منى كريم أن القضايا المسكوت عنها في الثقافة العربية كثيرة ولكن المشكلة ليست في غيابها بل في كيفية طرحها. تقول: "لو أتكلم كامرأة عربية في المجال الأدبي، ألاحظ أننا نادراً ما نناقش ذكورية الوسط الأدبي بإعلامه ودور نشره ومحرريه وكتابه".

 كريم: القضايا المسكوت عنها في الثقافة العربية كثيرة ولكن المشكلة ليست في غيابها بل في كيفية طرحها

















ومن وجهة نظرها تتضح هذه الذكورية في الاختيارات والنقد المطروح أو بالأحرى الاحتفاء أو التهميش وحتى وصولاً إلى التشكيك والتشويه والتحقير والتحرش الجنسي وغيرها مما تتعرض له المرأة في هذا الوسط أو طرق التعامل مع منتجها الإبداعي. تتابع كريم بأن المحزن هو أن الكاتبة العربية حتى وإن كان لديها المنبر أو تحقق نجاحاً ما فإنها لن تتطرق لمثل هذه القضايا خوفاً من الإقصاء وردود الفعل والتشكيك.

وتضيف: "بمجرد أن نطرح تساؤلات تخصنا كنساء يتم اعتبار الأمر فئويا واستعراضيا وانتقاصا من قيمتنا الأدبية". وحسب منى يظن البعض، خاصة الجيل الأقدم من الكاتبات، أن هويتهن كامرأة تناقض هويتهن ككاتبات وتحد من حريتهن متعجبة من كثرة الأسماء النسائية في ثقافتنا دون أن نجرؤ بعد على تجاوز هذه الخطوط لنؤسس مساحة أكبر للنساء خالية من الخوف والأحكام والتهميش.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.