}

الباتاكلان ومعاني الاحتفاء بالعصر الذهبي للموسيقى العربية

فائزة مصطفى 26 مارس 2020
هنا/الآن الباتاكلان ومعاني الاحتفاء بالعصر الذهبي للموسيقى العربية
تاريخ مسرح "الباتاكلان" العريق يمتد إلى سنوات القرن الـ19
لا يمكن أن تمر بمحاذاة مسرح الباتاكلان في شارع فولتير الشهير بباريس، من دون أن تتذكر الاعتداءات الدامية التي هزت عاصمة الأنوار قبل خمسة أعوام، وليست وحدها أسماء تسعين قتيلا من تتصدر لافتة تذكارية مثبتة عند باب المسرح، بل حتى أطيافهم تكاد تسكن أركان القاعة الحمراء الفسيحة، ولأن باريس حفلة كما لقبها الكاتب الأميركي أرنست همنغواي، فقد حرص الباتاكلان على فتح أبوابه بعد عام فقط على الفاجعة بحلة جديدة، كما قرر أن يتحول إلى القبلة الأولى للفنانين العرب تحت شعار: "الإرهاب لا دين له".


مشاركة كثير من الفنانين من أصول

عربية ومسلمة لم تمر مرور الكرام
في حدود التاسعة ليلا من الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، قتل متطرفون من أصول مهاجرة 130 شخصا في سلسلة من العمليات الإرهابية شملت تفجير قنبلة أمام ملعب كرة قدم، وإطلاق النار على مقاهي ومطاعم في باريس، فيما كانت حصيلة الضحايا أكبر في مسرح الباتاكلان بعد أن أطلق المسلحون النار على الجمهور، ولسوء الحظ كانت القاعة مليئة على آخرها في تلك الحفلة التي قدمتها فرقة "نسور الموت" الأميركية الشهيرة، لتختلط إيقاعات موسيقى الميتال الصاخبة مع صوت الرصاص، وتحولت أرضية المسرح ومقاعده إلى عرض دموي سيبقى عالقا في ذاكرة المكان طويلا. وفي محاولة منها لترميم الجراح، قدمت الفرقة الأميركية التي تمكنت من النجاة في تلك الليلة حفلا بعد ستة أشهر بقاعة الأولمبيا في العاصمة الفرنسية، وحضر الحفل الناجون من المجزرة وأهالي القتلى، وكان منظر المصابين وهم يمشون بعكازاتهم وآخرين يجهشون بالبكاء منظرا مؤلما جدا.

وتزامنا مع محاولات لترميم الجراحات ونسيان الذكريات الأليمة، كانت خطابات الكراهية تطال المهاجرين من أصول مسلمة، أو تلك التي يصيغها المؤمنون بنظرية المؤامرة على الإسلام والمسلمين، وستلقي تلك الأحداث بظلالها على أجندة المسرح، وعلى قائمة الفنانين الذين سيصعدون على الخشبة مستقبلا، لكن المنظمين أدركوا مدى المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وضرورة مواجهتهم لموجة الانتقادات التي تطال برمجتهم لفنانين من أصول مهاجرة، وقد حرصت إدارة المسرح على تحويله إلى رمز للسلام واستمرار الحياة ومقاومة الإرهاب، وهذا ما حملته تصريحات المدير جيروم لانغليه خلال إعادة افتتاح القاعة بمناسبة الذكرى الأولى للهجمات، حينما تحدث عن اتساع دور المسرح من النشاط الثقافي نحو تحوله إلى مزار لأهالي الضحايا أيضاً. وأضاف قائلا: "صمت سنة هو أيضاً طريقة لمواساتهم واحترام مأساتهم ودورنا اليوم هو أن نقول بأن الباتاكلان استمر في الحياة". ونذكر أن الفنان البريطاني الشهير ستينغ هو أول من غنى بعد إعادة افتتاح المسرح، ورافقه عازف البوق اللبناني إبراهيم معلوف.

ورغم نجاح المسرح في نفح روح جديدة في المبنى بدءا بتغيير الديكور والجدران، ثم توسيع نشاطاته الثقافية، إلا أن الكثير من الفنانين من أصول عربية ومسلمة لم تمر مشاركتهم في الباتاكلان مرور الكرام، مثل الفنان الكوميدي الفرنسي من أصل مغربي ياسين بلعطار، المعروف بإثارته للجدل في بلاتوهات القنوات الفرنسية، وبلعبه دور المدافع عن أبناء الضواحي والمهاجرين، فمنذ ترديده لعبارة: "أنا لست شارلي" بعد الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو الساخرة، أضحى عرضة للانتقادات من قبل بعض وسائل الإعلام التي تتهمه بالتعصب وبإنكار ظاهرة الإسلاموية، إذ كتبت مجلة "ماريان" عنه مقالا بعنوان "ياسين بلعطار، مهرج مزور وخطر حقيقي"، ثم وضعت مجلة "فالير أكتويال" في عددها الصادر في يناير/كانون الثاني الماضي صورته على غلافها وكتبت أسفله: "المحرقون الجدد"، ووصفته كاتبة المقال بالدخيل على الجمهورية، بل حتى مدراء المسارح والمنتجون اضطروا إلى إلغاء عروضه في الفترة الأخيرة بعد تزايد مشاكله، واتهامه بالتهديد والعنصرية على خلفية ما ينشره من تغريدات، لكن قبل هذه الحملات وتحديدا في الرابع من مايو/أيار 2017 ، قدم بلعطار عرضا استثنائيا بعنوان "غير قابل للتحكم" في الباتاكلان، ليصبح أول فكاهي يصعد خشبة المسرح بعد إعادة افتتاحه، كما حظي الفنان بحضور الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند الذي كان يودع حينها قصر الإليزيه، وقد وصف هولاند عرض أكثر الفنانين الذين ساندوه في حملته الانتخابية بالسلاح الذي يحارب الظلامية.

وفي محاولة منه لمحاربة الدغمائية وتصحيح الصورة النمطية عن المهاجرين، دعا بلعطار لحضور مسرحيته خمسين شابا من حي مولنبيك ببروكسل حيث ينحدر منفذو الاعتداء الذي استهدف القاعة العريقة. ويعتبر الممثل الهزلي مشاركته الفنية في الباتاكلان تحديا للتخلص من الخوف، بعدما ظل عاجزا عن النظر صوب المبنى كلما مر بجانبه في طريقه لتقديم برنامجه الصباحي على إذاعة "نوفا"، كما رأي الكوميدي المتمرد مشاركته فرصة لطي صفحة التراجيديا ولنشر الفرح.
بعد نحو خمسة أشهر، اضطر مغني الراب الفرنسي من أصول جزائرية مدين إلى إلغاء حفلتيه المبرمجتين في 19 و20 أكتوبر/تشرين الأول، بعد تعرضه لتهديدات يمينية متطرفة حسب ما نشره الفنان على موقع انستغرام، ثم نقل الحفل بعد أربعة أشهر إلى قاعة زينيت. وواجه مدين حملة من أنصار اليمين المتطرف ووسائل إعلام وسياسيين بينهم من ينتمون إلى الحزب الحاكم "الجمهورية إلى الأمام"، ومنعوه من تقديم عروض في الباتاكلان حتى أن عائلة أحد ضحايا الهجمات وصفت مشاركة المغني بأنها تدنيس للمكان. ويؤخذ على صاحب أغنية "النمر العربي" إطلاقه لأغنية "لا للائكية" ستة أيام قبل الهجوم على الصحيفة الساخرة بباريس في العام 2015، إذ اتهمه منتقدوه بالدعوة إلى الكراهية، واستدلوا بجملة في أغنيته التي يقول فيها "أصلبوا العلمانيين"، ليصنفوه كـأخطر المتشددين الذين يروجون لأفكارهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذه الاتهامات لم تقف حائلا أمام استمرار أعماله الفنية، كما أصدر في خضم تلك الحملة أغنية بعنوان "باتاكلان" عام 2018.


رمز للسلام واستمرار الحياة ومقاومة الإرهاب
في يناير/كانون الثاني 2018، احتفى الباتاكلان بالفنانين التونسيين المنصف ذويب ولمين النهدي اللذين يحظيان بشهرة وسط الجالية المغاربية في فرنسا، وتحت إلحاح المنظمين قدم الثنائي أشهر مسرحية لهما "المكي وزكية" التي عرضاها في تسعينيات القرن الماضي، ولقيت آنذاك نجاحا في عدة دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وكندا. وعرض الفنانان أيضا مسرحية "نموت عليك" في الباتاكلان، لتصبح فرقتهما أول فرقة فنية عربية تصعد فوق خشبة هذا المسرح بعد الأحداث الدامية، وقد اعتبرا مشاركتهما رمزية وسعيا منهما لإبلاغ رسائل السلام التي تحملها الثقافة العربية.
ومنذ بداية العام الجاري، واظب المعلم الباريسي على احتضان مواعيد فنية عربية لافتة، مثل سهرة لتكريم الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وللاحتفاء بالعصر الذهبي للموسيقى العربية، حيث أدى الفنان المصري الشاب محمد محسن أهم الأعمال الموسيقية التي ألفها عبد الوهاب وغناها بصوته أو منح ألحانها إلى مطربي عصره، وعليه استحضر صاحب "في قلبي مكان" بصوته الجهوري أجمل أغاني وردة وأم كلثوم وفيروز ونجاة الصغيرة وعبد الحليم وغيرهم، وقاد رئيس الأوركسترا التونسية المايسترو محمد لسعود عشرين موسيقيا من مختلف الجنسيات، ليرتحل بالجمهور إلى ليلة ساحرة من ليالي ألف ليلة وليلة. وقد أدرك صاحب "اللف في شوارعك" عشية الحفل فقط أنه سيصعد خشبة نفس المسرح الذي شهد هجوما داميا قبل خمسة أعوام، مما جعله يحس برهبة المكان ورمزيته، واعتبر غناءه أمام 1700 شخص بمثابة مقاومة الإرهاب، وأضاف في حوار له: "لقد عرفت بلدي أحداثا مماثلة من تفجيرات واعتداءات، لكن الفن يلعب دورا كبيرا في استمرار الحياة، كما تقرب الفنون بين وجهات النظر، مثلما توحد بين الشعوب".

وسعت الشركة المنتجة إيليا إيفنت من خلال إشرافها على تكريم موسيقار الأجيال إلى إبراز الإرث الموسيقي لهذه الشخصية الفنية التي جددت الموسيقى العربية، ومنحت لها بعدا حضاريا من خلال نهلها من الإيقاعات العالمية.


تكريم محمد عبد الوهاب و فيروز والبوب المغربي.. والثقافة الكردية
اقترحت شركة مزيكا تنظيم سهرة مماثلة لتكريم المطربة اللبنانية فيروز في مسرح الباتاكلان في مارس/آذار الجاري، لكن تم إلغاء الحفل كسائر البرامج الثقافية على خلفية تداعيات فيروس كورونا. وسيكون الفرنسيون في الخريف القادم على موعد مع المغنية كارلا لامية التي ستؤدي مع فرقة مزيكا أجمل أغاني فيروز، وستستحضر مجد صاحبة "نسم علينا الهوا" في عصر الأخوين الرحباني، وما نجم عن ذلك التعاون من روائع موسيقية تتراوح بين الشرقية والكلاسيكية، والفولكلورية والملتزمة، أضحت اليوم أغاني خالدة في ريبرتوار الفن العربي، وحولت صاحبة "جارة القمر" إلى سفيرة لبنان نحو النجوم مثلما لقبها محمد عبد الوهاب. وتحتفظ باريس في ذاكرتها حفلة فيروز الخالدة في العام 1979، حينما وقفت بطلتها الشامخة فوف منصة قاعة الأولمبيا، لكن سيشهد مسرح باتاكلان أول سهرة لتكريم ديفا الأغنية العربية في ليلة 19 سبتمبر/أيلول 2020.
وبسبب فيروس كورونا، أجل مسرح باتاكلان حفل مغني البوب المصري الإيطالي "محمود" إلى أبريل/نيسان المقبل، ويحظى الفنان الشاب بشهرة وسط شباب الضواحي الفرنسية وفي إيطاليا، ويُعرف بابتكاره لأسلوب بوب الأحياء الشعبية أو البوب المغربي، وحقق ألبومه "جيوفونتي بروسياتا" (الشباب الضائع) أعلى المبيعات بعد صدوره العام الماضي، ويروي فيه قصته مع والده الذي تخلى عنه صغيرا. تنال أغنياته مشاهدات قياسية على موقع اليوتيوب، كأغنية باريو التي سجلت ستة وثلاثين مليون مشاهدة. وفازت أغنيته صولدي (المال) في مهرجان سان ريمو للأغنية الإيطالية العام الماضي. وتلقى هجوما شرسا من اليمين الإيطالي المتطرف غداة فوزه بالمرتبة الثانية في مسابقة يوروفيجن عام 2019، خاصة من طرف وزير الداخلية السابق ماتيو سلفيني الذي رفض أن يمثل بلاده شخص يدعى محمود.

ويستعد باتاكلان أيضا لاحتضان سهرة الاختتام للنسخة الأولى للمهرجان الثقافي الكردي ليلة 25 أبريل/نيسان المقبل، وينظم هذا الحدث الذي ينطلق في الرابع من الشهر نفسه المجلس الديمقراطي الكردي في فرنسا، بالتعاون مع منظمة تشرف عليها السيدة دانيال، أرملة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، وستكلل ليلة الختام في المسرح العتيق بعرض للموسيقى الكردية التقليدية وباقي أصنافها الثرية والمتنوعة، وتتناوب على الخشبة فرقة لاوجي التي تنحدر من منطقة حاكاري التركية، يؤدي فنانوها ما يشبه الشعر الملحمي، يشتغلون على التراث الموسيقي الإيراني والعراقي المجاور، وعلى نتاج انصهار ثقافات الإثنيات والأعراق خلال فترات زمنية بعيدة، وفازت الفرقة بجائزة أحسن موسيقى تصويرية في الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان إسطنبول الدولي للفيلم. وتشارك أيضا الفنانة الخرسانية يلدا عباسي بباقتها الفولكلورية التي تبرز الايقاعات الغنية لمنطقتها حيث تعيش أقلية كردية منذ القرن السادس عشر ميلادي، ويقاسمها خشبة الباتاكلان الشاعر والعازف التركي من أصل كردي القيثار هيفون الذي يشتهر بأغانيه عن السياسة والحروب والحب. كما يستحضر الفنان الألماني من أصل كردي جميل كوكيري إيقاعات قديمة على آلة الطنبور، ويمزجها مع تجارب جديدة.
وتحتل صورة الكردي مكانة في وجدان الشعب الفرنسي لارتباطها بمعاني الحرية والمقاومة، وعززت هده المكانة صور النساء الكرديات وهن يتقدمن جبهات القتال في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية.

لم يكسب المسرح شهرته من الاعتداء الإرهابي التي شهده، بل لكونه أحد أبرز المعالم الثقافية والتاريخية في مدينة الأنوار، واشتهر في السنوات الأخيرة بعروضه للموسيقى الحداثية مثل الميتال والروك والبوب، لكن تاريخه العريق يمتد إلى سنوات القرن التاسع عشر حيث بناه المهندس المعماري شارل ديفال على شكل قصر صيني بوسط باريس سنة 1864، واستمد المسرح اسمه من أوبريت ألفه الموسيقي الفرنسي الألماني الكبير جاك أوفنباخ سنة 1855.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.