}

إيمانويل كوتشا: الفيروس يحرِّرنا بشكل كبير

هنا/الآن إيمانويل كوتشا: الفيروس يحرِّرنا بشكل كبير
إيمانويل كوتشا يحضر مؤتمراً فلسفياً في موناكو/فرنسا (8/6/2017/Getty)
بعد نجاح كتابه "حياة النبات" (2016)، الذي أعاد فيه الاعتبار لحياة النباتات، يواصل الفيلسوف الإيطالي، إيمانويل كوتشا، تأمّلاته بخصوص اختلاط وتحوّل الكائنات الحية، في إصداره الأخير "تحوّلات"، الذي يقدّم فيه أطروحة لافتة للنظر بقدر ما هي مُطمئِنة: جميع الكائنات الحية، من البشر إلى النباتات، مروراً بالجراثيم، تشترك في حياةٍ واحدة لا بداية لها ولا نهاية، تنتقل من شكل إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، وتواصل مسيرتها منذ قرون طويلة، ولا تنتمي لأيّ كائن في الواقع. ومبعث التفاؤل في هذه الأطروحة هو أنّها، حين تصف استمرارية الحياة، تضع الإنسان في موقعه المناسب: إنّه مجرد عربة للحياة من بين عربات أخرى كثيرة، بحيث أن ولادته ليست بداية، بقدر ما أن موته ليس نهاية.
بمناسبة ما يعانيه ويواجهه العالم حالياً بسبب تفشّي فيروس كورونا، نقترح في ما يلي ترجمة لآخر حوار مع كوتشا:

 

(*) أنت من الذين يشتغلون على الروابط بين الأحياء، ماذا ألهمك فيروس كورونا؟
كلُّ فيروس يثير فينا القلق: إنّ حياته هي تحويل (قاتلٌ في بعض الأحيان) لحياة الآخرين. إنّه دليل على أنّ الحياة التي نعتبرها ملكاً لنا ليست هي حياتنا: يمكن أن تصبح في أيّ وقت حياةَ كائن آخر، حتى لو كان بعيداً عنّا بيولوجيّاً وتشريحياً، وهو ما يقوم به الفيروس، الذي بإمكانه أن يستقرّ  في أجسادنا ويصبح سيّدها.
الفيروس هو دليل على التغيُّر الذي يطرأ على كلّ حياة، كما لو أنّ هذا التغيّر كان موجوداً

بشكل منفصل عن الكائنات الحيّة: بهذا المعنى، فهو أفضل مثال عن المستقبل. إنّ المستقبل، مثل الفيروس، هو القدرة على تنمية حياةٍ لا تخصّنا، إنّه مرض حميد يُجبر الأفراد والسكّان على تغيير أنفسهم، وعدم الاستمرار  في الوضع نفسه إلى الأبد. لهذا السبب، لا يحتاج المستقبل أن يوجد مثل الماضي، أي مثل نصبٍ تذكاري: إنّه هذا الواقع المتناهي الصغر، تماماً مثل فيروس كورونا، الّذي يمكنه أن يسبّب أزمة لإنجازات قرونٍ عدّة من التطوّر التقنيّ الهائل، وتهديداً لحياة كوكب بأسره في أيّ لحظة.
كلُّ فيروس، وخصوصاً فيروس كورونا، يعلّمنا ألّا نقيس قوّة الكائن الحيّ على أساس أجهزته البيولوجية، الدماغية والعصبيّة. كما أنّه يكسر نرجسيتنا الغريبة: منذ حقبة الأنثروبوسين ونحن نستمرُّ في تأمُّل عظمتنا، ولو بشكلٍ سلبي، ونعظِّم من شأن قدراتنا الخبيثة والمدمّرة، ولسان حالنا يقول :"انظروا كم نحن أقوياء". تُذكِّرنا الفيروسات بأنّ لدى أيّ كائن القدرة على تدمير الحاضر وتأسيس نظامٍ غير معروف، وغير متوقّع. أخيراً، يكشف لنا فيروس كورونا أنّ الحياة تسخر من الحدود، ومن الكيانات السياسية، ومن التمييز بين الأجناس، وأنّها تمزج وتربط بين الجميع. إنّه يساهم في تحرُّرنا بشكل كبير.

(*) هل تعتقد أنّ ما يميّز الحياة هو التحوُّل؟ ما تعريفك للحياة؟
التحوُّل هو الاستمرارية بين جميع الكائنات الحيّة الحالية، الماضية والمستقبلية: جميعها تشترك في الحياة نفسها. اُنظر إلى أيّ كائن حيّ: إنّه بالضرورة تحوَّل من حياة سابقة هي الّتي أنجبته. إنّه الحياة السابقة نفسها، لكنّها استطاعت أن توجد في مكان آخر، وبشكلٍ مختلف. وهذه الاستمرارية ليست فقط نتيجة التوالد داخل النوع نفسه، ولكنّها أيضاً ما يربط بين جميع أشكال الحياة. وحسب داروين، كلّ نوع من الأنواع هو تحوّلٌ لنوع سابق: كلُّ الأنواع لها الحياة الواحدة نفسها التي تنتقل منذ قرون من نوع إلى آخر، من عصر إلى آخر، وتستمرُّ في القيام بذلك إلى الأبد. كلُّ واحد منّا هو حياة الآخرين: هذا هو التحوُّل. أنا حياة قذفَتها أمّي خارج جسدها، وأُجبرتُ على العيش بشكل مختلف عنها. لكنّني أيضاً حياة الرئيسيات التي انقذفت خارج النوع، أنا حياة الفيروس الموجود بداخلي، وسأصير قريباً حياة النباتات التي ستتغذَّى على جسدي.

 

(*) هذه الاستمرارية في الحياة تتحدّى فكرة الولادة باعتبارها بداية؟
يُنظر إلى الولادة على أنّها بداية مطلقة وعملية فردية، بينما هي مَمرٌّ يقود الحياة نفسها من

شكل إلى آخر، من نوع إلى آخر. الحياة التي نحن عليها، والتي نعبِّر عنها كانت موجودة قبلنا، كانت هي حياة آبائنا، وحياة أجدادنا، تنحدر في ممرٍّ دائم يصل حتّى بداية الحياة على هذا الكوكب. وفي هذا الممرّ يتواصل الفرد مع النّوع، ومع الأرض، ويقوم كلُّ واحد منهم بتحويل الآخر. لهذا السبب لا يوجد شيء أكثر شمولية من الولادة: بلّوط، فُطر، قطّة، جُرثومة، كلّها كائنات محدَّدة بالولادة. كلّ طفل هو جسمٌ فَرَض تحوّلاً على مادّته الأصلية، كلّ كائنٍ وُلِدَ في جسم آخر: أن يولد المرء لا يعني أنّه قادر على فصل تاريخه عن تاريخ العالم. الولادة بهذا المعنى هي مسلسلُ هجرةِ الحياة، نحن أنفسنا نسمح لذاتٍ أخرى أن تهاجر في داخلنا، أو نسمح بمرور نَفَسٍ قادم من مكان آخر، ومتّجهٍ نحو مصائر أخرى. كلّ ولادة هي استمرار للصفائح التكتونية. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الولادة من المحرَّمات. ثقافتنا يهيمن عليها الرجال، أولئك الّذين لم تُتح لهم فرصة إنجاب الحياة. ربّما لهذا السبب نحن مهووسون بالموت، بينما هناك القليل من الأبحاث والأدبيات عن الولادة، لأنّها ما تزال تشكّل لغزاً.

(*) على هذا المنوال، ألا يمكن اعتبار الموت نقيضاً للحياة؟
الموت شرنقةٌ تسمح للحياة بالانتقال من نوع إلى آخر. إنّه يفتح للأجسام المنذورة لحياة إنسانية باباً نحو أشكالٍ أخرى من الحياة، بمعنى أنّ هذا الجسم سيصبح لسوء - أو لحسن الحظّ - وجبةً للدّيدان والبكتيريا والفطريات، وأنّ هذه الحياة ستتحوّل في أجسام أخرى.

 

(*) هل ستكون الحياة هي نفسها في جسد إنسانٍ، وفي جسدِ دودةٍ، أو زهرة؟ هذا أمر مذهل!
لكنّه أمر يحرّرنا أيضاً. مهما حدث، ستستمرُّ الحياة معي، أو من دوني، وذلك على الرغم من إخفاقاتي. الأمر لا يتعلّق بي فقط، إنّها الحياة الماضية والمستقبلية ما يعبُر من خلالي، مثل قوّة أرضية. أنا لا يزعجني هذا الأمر كثيراً!

(*) هل تعتقد أن للأكل أهمية بالغة في تحوُّل الحياة. كيف يكون ذلك تعبيراً عن الكونية؟
أكثر ما يثير البهجة في تجربة الأكل هو: نحن نعيش الحياة نفسها التي للكائن الذي نتغذَّى

عليه. إنّ رابط القرابة بين جميع الكائنات الحيّة هو من أسُس علم البيئة في القرن الثامن عشر. في البداية، تسبَّب ذلك في فضيحة كبرى، لأنّه تضمَّن فكرة حرب الجميع ضدّ الجميع. وكانت الطريقة الوحيدة لتحييد هذه الحرب هي ترجمة الظّاهرة من خلال الديناميكية الحرارية: الأكل مقابل الطاقة. لكن هذه الاستعارة لا تقول إنّنا نأكل الأحياء فقط، ولا يمكننا أن نأكل غير الأحياء. في كلّ مرّة نأكل فيها، نفكّر في الهويّة المطلقة لحياة الآكِل والمأكول. هذا لا يعني فقط أنّ هناك شيئاً حيّاً في الطماطم. الحقيقة هي أنّ الطماطم توجد بداخلي، وبالتالي فإنّ مجال المشاركة ليس طاقيّاً فحسب، بل ميتافيزيقيّاً أيضاً. فِعلُ الأكل هو فعلُ تكاثرِ للأحياء ومشاركةٍ كاملة للحياة. يختفي كائنٌ ما، لكنّه لا يختفي تماماً، لأنّه يسمح للحياة بمواصلة مسارها.

(*) هل يعني هذا نقداً شديداً للنّباتيين والمدافعين عن الحيوان؟
مكافحة التعصُّب للنوع تصلح في حالة عدم وجود الأنواع، لأنّ كلّ نوع هو مزيج وخليط من الأنواع الأخرى. وبالتالي، لا يمكن اعتبار الإنسان أكثر جدارة من باقي الكائنات الأخرى، لأنّه لا وجود للإنسانية، فهذه الأخيرة مجرّد "فرانكنشتاين" مركّب من كائنات حيّة أخرى. إنّها حالةُ تجميعٍ مؤقّتٍ لحياةٍ هي نفسها موجودة في كلّ مكان. لذلك يحقّ للبشر أن يأكلوا كلّ شيء، مثلما للفيروس الحقّ في تدمير كلّ شيء. ورغبةً في تجاوز المركزية البشرية، وسَّع البعض مجال الحقوق الممنوحة للإنسان لتشمل جميع الحيوانات. لكنّ الدفاع عن الحيوان هو في الواقع إشكالٌ "إنساني، مفرط في إنسانيته". إنّنا نُجرِّم فعلَ الأكل الّذي هو مصدر الحياة. لهذا نجد، في العمق، لدى أنصار الحيوان مفهوماً بورجوازيّاً للحياة، ومُفرطاً في اللّيبرالية. على كلّ واحد أن يبقى في الحدود الخاصّة به، ولا يمسّ الآخرين. إنّ الرؤية المبنية على فكرة ملكية الحياة وهويّتها الصارمة والمحدَّدة هي عكس فكرة التحوُّل التي أدافع عنها.

(*) إذا كانت حياتنا لا تملك أيّ ميزات "فردية أو حصريّة"، كما كتَبت، فكيف نتلمّس طريقنا، وما هي الفلسفة التي علينا أن نخلقها من دون الاستعانة بمفهوم "الأنا"؟
القول بأنّ الحياة ليست شخصيّة لا يعني عدم وجود الأنا. فالحياة هي بالضرورة فريدة بالنسبة لكلّ واحد منّا. لكنّ أساس هذه الأنا غير محدَّد، ولا يتطابق مصدرُها مع شكلها. الأنا مجرّد عَرَبة، شيء يحمل شيئاً آخر غيرَه بشكلٍ دائم. لنأخذ مثالاً ملموساً: كلُّ منّا هو ابنٌ أو ابنة شخصٍ آخر. أنا هو جسدُ أمّي. أنا هو أمّي، حرفياً، بعد أن تمَّت مضاعفتي، وأُجبرتُ على العيش خارج جسد أمّي، وبشكلٍ مختلف عنها. إنّ هذا التناقض هو الّذي يخلق الفردانية والتميُّز. وهو قد يفسّر أيضاً سبب صعوبة الحياة، ولماذا نعيش في وضعٍ حَرج للغاية: لقد تمّت برمجتي لأعيش حياة والدتي، وليس حياةً أخرى. لأنّ الفرد وُلِدَ من حادثٍ طارئ. يجب أن نوسِّع هذه التأمّلات لتشمل إنسانيتنا: ما نسمّيه الأنواع هو مجموعة من الحوادث الّتي سمحت بتمييز هؤلاء التّوائم السيامية، الّذين هم الآدميون، عن باقي الرئيسيات والفيروسات والفطريات... لقد ابتعدنا عنها كثيراً، ورسمنا خطوطاً مختلفة، لكنّنا نمثّل الحياة نفسها.

(*) في كثير من الأحيان، يقال "إنّ بيتنا يحترق" للتحذير من تغيّرات المناخ. ولكن، حسب رأيك، البيت ليس صورة عَمَلية للحديث عن هذه الحياة المشتركة. لماذا؟
بل إنّها صورة خطيرة! يقوم علم البيئة على أساسٍ أبويّ لا بدّ أن نبتعد عنه الآن. أن نفكّر في

البيت كنظامٍ مثالي ومطلق ليس أمراً جميلًا للغاية. صحيح أنّ البيت يضمُّ تعايشاً سلميّاً بين الأفراد - وليس دائماً، مرّة أخرى -، ولكنّه، بحكم تعريفه على الخصوص، أداةُ استبعاد: أنا في البيت والآخرون في الخارج. مصطلح "إيكولوجيا" نفسه يستند على هذه الصّورة [لقد تمّت صياغته عام 1866 من طرف عالم الأحياء الألماني، إرنست هيكل، من خلال الكلمة اليونانية "أويكوس"، التي تعني "البيت".
تاريخياً، كان أوّل من أراد أن يفكّر في مجموع الأنواع الحيّة على الأرض هو كارل فون ليني (1707-1778)، في زمنٍ كان يُعتقد أنّ الأنواع ثابتة. في الواقع، لم تكن توجد في هذا العالم الثابت قرابة بين الأنواع، لهذا فإنّ وجهة النظر الوحيدة التي بإمكانها أن تحضن جميع الأحياء كانت هي الرب. ولا يمكن للمرء أن يلوم علماء الطبيعة آنذاك، لأنّه لم يكن بإمكانهم أن يتصرّفوا خلاف ذلك: فالربّ، باعتباره أباً للجميع، أجبرهم على تصوّر العالم على أنّه بيت يديره ويحكمه هذا الأب. لكن هذا هو المتخيّل الأبويّ حرفياً: البيت عبارة عن فضاء، بحيث لكلّ شخص فيه فائدة ومكانة محدَّدة. إنّ علم البيئة هو العلم الذي يتصوَّر أنّ الأحياء منذورين للبقاء في البيت إلى الأبد. بينما نحن في الواقع نتنقلّ باستمرار  من خلال احتلالِ حياةِ وأجسادِ الآخرين، ولهذا السبب يجب أن نشطب كلمة "إيكولوجيا" ونفضّل عليها استعمال متخيّل المدينة. نحن في حاجة الآن إلى "إبسن" في مجال البيئة ليشجب أهوالَ الأسرة والحياة المنزلية.

 

(*) أنجزت الحوار سونيا فور، وأناستاسيا فيكران، ونشر في جريدة "ليبيراسيون" الفرنسية يوم 13 آذار/ مارس 2020.


ترجمه عن الفرنسية: نجيب مبارك.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.