}

سعيد الكفراوي.. هذه أيام ليست مناسبة للوحشة

هشام أصلان 17 أبريل 2020
هنا/الآن سعيد الكفراوي.. هذه أيام ليست مناسبة للوحشة
سعيد الكفراوي (البوابة)

لدى الكاتب المصري الكبير، سعيد الكفراوي، مجموعة من الحكايات، هي ابنة موروثه الريفي. يقصها شفاهياً، وبات يعرفها الجميع، ويحفظها بعضنا من كثرة ما سمعها. يحكيها أينما تكلم، في الندوات، أو برامج التلفزيون، في جلسات الأصدقاء المنزلية، أو على المقاهي، في المحافل الثقافية داخل مصر، أو خارجها. عندما تأتي سيرته نتذكرها، ولا بد أن أحدهم سيقول إن تلك الحكايات من تأليفه، وليست حقيقية، كما يؤكد عادة. هو نفسه يتذكر ضاحكاً عندما كان على إحدى المنصات في بلد أوروبي، وحكى إحداها، وانطلق التصفيق في القاعة، قبل أن يميل على أذنه زميل المنصة وصديقه الكاتب الكبير، محمد البساطي، ويقسم مؤكداً أن الحكاية وليدة اللحظة، ويصحب قسمه بسُبة مداعباً صديقه. كان يحكي هذا الموقف دائماً في سياق شرح رؤيته لمدى أثر حكاية تخص صاحبها على متلق من ثقافة غير ثقافتك، ويتحدث لغة غير لغتك، كيف يتأثر بالحكاية المنتمية لعالم صاحبها أكثر مما يتأثر بالكلام العميق المشحون بالنظريات والرؤى. عن قوة الحكاية، وإن كان صدقها يأتي من كونها ابنة عالمك، وليس من حقيقة وقوعها.
ورغم معرفة أغلب أبناء الحياة الثقافية بحكايات سعيد الكفراوي، ومع حيرتنا في المسافة بين الواقع والخيال في ما يحكي، لا أعرف من يستطيع مقاومة سماعها كلما تصادف أن حكى، ذلك أن له أسلوباً شفاهياً ساحراً كما حكاياته التي يشير بها دائماً إلى طبيعة العالم الذي ينهل منه قصصه القصيرة.
الكفراوي أحد كتاب الستينيات البارزين، ذلك الجيل الأدبي الأكثر أثراً في الكتابة المصرية، بوصفه جيلاً حمل الهموم نفسها، فنياً وسياسياً، والإحباطات ذاتها. بعضهم استطاع إكمال مشوار الكتابة، وبعضهم غلّف نفسه بإحباطه وتوارى. كانوا يكتبون معاً، بينما يحتفظ كل منهم بخصوصيته.
وعلى عكس أبناء جيله، الذين بدأ أغلبهم بكتابة القصة، ثم اتجه إلى كتابة الرواية، ظل هو في

مكانه، مخلصاً للقصة القصيرة، كوسيط سردي، فأصدر مجموعات: "مدينة الموت الجميل"، و"ستر العورة"، و"دوائر من حنين"، و"كُشك الموسيقى"، وغيرها، فضلاً عن كتاب منتظر منذ عدة سنوات بعنوان "عشرون قمراً في حجر الغلام". سألته مرة عن سبب تأخر صدوره. قال: "عذبني هذا النص طويلاً، وأضناني مثل جرح. هل هو رواية، أم مجموعة قصص عن شخص من مولده لمماته؟ أنا لا أعرف. هي كتابة والسلام، كتابة عن الألم، وربما يكون هذا الكتاب قادراً على تشكيل معنىً ختامي لحياتي ككاتب، ولعله يقدر، أو يستطيع، أو ربما اقترب من ذلك. سأنتهي منه رغم سدة النفس إزاء ما يجري على أرض الوطن، مما يجعل الكتابة شديدة الصعوبة، وأنت ترى شعباً يعيش إحباطاته يوماً بعد يوم". تحدث الكفراوي عن كتابه المنتظر في مناسبات متعددة:  "هو عالم فطري عن الدهشة والغرابة والحزن وانكسارات صبي، عبر صيرورته في الوجود يعود عشرات السنين، وعبر صبر ومثابرة في محاولة تشييد عالم مضى يتكئ عليه ليعيش سنواته في الحاضر، محاولاً عبر هذا العالم مواجهة موته في الهزيع الأخير من العمر".
ويقف سعيد الكفراوي في كتابته عند تلك المنطقة العجائبية من غرابة الواقع. الفانتازيا الآتية من الموروث الريفي المصري. المساءات في القرى، وبين المقابر وأصوات "العديد"، في كتابة تحاول، أغلب الوقت، استعادة شيء من تلك الطفولة الريفية في رؤيتها لهذا العالم بعين مختلفة، غايته، كما يقول، استعادة زمن تلك الحوادث، وناس تلك الأيام، واستنطاق تلك الذاكرة، كمن يريد الحفاظ عليها.
في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، لم يكن سعيد الكفراوي قد جاء بعد إلى القاهرة. كان لم يزل في قريته الصغيرة الواقعة في مدينة المحلة، دائرته الأدبية هي من ستعرفهم الحياة الثقافية المصرية في ما بعد بشلة المحلة: المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد، والناقد جابر عصفور، والشاعرين محمد فريد أبو سعدة، ومحمد صالح. جاءوا تباعاً، وجلس سعيد الكفراوي في مقهى ريش بين تجمع أدباء الستينيات حول نجيب محفوظ: "كنا نحمل في وعينا حلم تغيير العالم. كانت هزيمة يونيو 67 قد حدثت. وكان بعض أفراد هذا الجيل قد تنبأوا بواقعها قبل أن

تقع. كتب صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة"، ونشر أمل دنقل قصائد من ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وأنجز محمد عفيفي مطر قصائد ديوانه "النهر يلبس الأقنعة". يكمل: "ولقد أوفى هذا الجيل بالعهد، بإبداعه الذي شارك فى خلق ذائقة جديدة واكبت رؤى الإبداع المصري الذي عاش حقب الزعماء، وزمن المعتقلات، والصلح مع العدو، وصعود تيارات الإسلام السياسي، ومشاريع الانفتاح الاقتصادي، ثم هجرة المصريين إلى الخارج، مثلما حدث في الزمن العثماني. وعبر ما حققته نصوص هذا الجيل، وما أبدعه من تخييل، سيظل علامة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية".
ومنذ سنوات، يشكو سعيد الكفراوي من الوحدة، تزايدت تدريجياً برحيل أغلب رفاق العمر واحداً تلو الآخر، واكتملت تلك الوحدة تماماً برحيل زوجته السيدة أحلام قبل عامين تقريباً.
وهذه الأيام، يمر سعيد الكفراوي بأحوال صحية ليست جيدة. خبر أزعجنا جميعاً، ذلك أن وجوده نشيطاً في هذه الحياة يضمن، لكثير منا، الحفاظ على ذكريات ممتدة. وتستعيد مجالسته الأيام الحلوة، وإن لم يخلُ حديثه من شجن دائم، وحزن مقيم على ما ذهب. ونحن، إذ لسنا مستعدين للتخلي عن الونس في هذه الأيام الصعبة، نأمل أن يعود للحركة بيننا في أقرب وقت، ويستكمل أقماره التي يجمعها في حجر الغلام.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.