}

الكتابة بين التجريب والتخريب وسؤال الحداثة (1)

أوس يعقوب 23 أبريل 2020
هنا/الآن الكتابة بين التجريب والتخريب وسؤال الحداثة (1)
المشاركون (يمين) أحمد، إبراهيم، عزالدين، ضياء وحسين

أسماء كثيرة من الأديبات والأدباء العرب، ممن اقتحموا عوالم التجريب، تعيش نوعاً من القلق الإبداعي، يظهر في سعيها لتجريب أساليب وأشكال مختلفة من الكتابة الشعريّة والسرديّة، واجتراح الجديد على مستويات عدّة.
إنه تجريبٌ يرونه لا من باب التمرد على الأشكال الكلاسيكيّة، بل بدافع التجديد، رغم يقينهم بوجود ميراث كلاسيكي ضخم، وافر السطوة ويُنظر له بتبجيل بالغ، لكنّه التجريب، هذا المخاض الصعب الذي ارتبط تاريخياً بتحوّلات البنيّة المعرفيّة والجماليّة في سياق نسق الثقافة الغربيّة ومركزيّتها بخطاب الحداثة، وما يحمله هذا الخطاب من حمولات تاريخيّة وفلسفيّة وحضاريّة.
نسعى في هذا الملف للوقوف على ملامح التغيّرات التي يشهدها أدبنا العربي، وحدود المنجز التجريبي في الرواية والقصة والشعر حتّى يومنا هذا، والخوض في التحدّيات الكبرى التي تواجه كل محاولات الخروج على النمط السائد في الشعر والسرد العربي المعاصرين.
وقد توجهنا إلى عددٍ من الكتّاب والكاتبات من شعراء وروائيّين وقاصّين ونقّاد بالأسئلة التالية: مع ظهور الأجناس الأدبيّة الجديدة هل أنتم/نّ مع التجريب والحداثة في الأدب؟ وما هو الحدّ الفاصل بين التجريب والتخريب الأدبي برأيكم/نّ؟ وهل ترون أنّ النقّاد تجاهلوا التجارب الكتابيّة الأدبيّة الحديثة؟
هنا الجزء الأوّل:

 لوحة للرسام الهولندي كورنيليس فان دير



















هيثم حسين (روائيّ من سورية مقيم في لندن):
عالم الإبداع لا يقاس بمسطرة

لا يمكن لأيّ أديب إلّا أن يكون مع التجريب في عالم الأدب، لأنّ هذا العالم ميدان منفتح على الاجتهاد والابتكار، والتجريب يساعد على الكشف عن الابتكار وتصديره، ذلك أنّ الارتكان للقارّ المستقرّ يغلق الأبواب في وجه الإبداع، ويسدّ النوافذ أمام أيّ تطلّع للتجديد.. لا يمكن المضيّ للأمام ولا التقدّم في عالم الإبداع من دون التجريب الذي يساهم بالكشف عن الجديد، عبر المحاولات، التي قد تخيب نسبة كبيرة منها في اختطاط درب جديد، أو تتمّ استعادة القديم باسم التجريب، أو الحداثة.
أمّا عن الحد الفاصل بين التجريب والتخريب الأدبي، فأرى أنّه ليست هناك حدود مدرسية بين المفاهيم، لأنّ عالم الإبداع لا يقاس بمسطرة تقيّد حدوده أو تفاصيله، لكن من خلال الذائقة الأدبيّة، والتذوّق القرائي، والتلقّي النقدي، يمكن فرز المجرّب عن المخرّب، ويمكن الإلقاء بنتاجات تزعم التجريب والتجديد وعدم الالتفات إليها.
يمكن أن يكون التجريب في سياق القضايا أو الأساليب، لكنّه يتحوّل إلى نقيضه، حين ينطلق الزاعم من مقولة إنّه ينقلب على تاريخ الأدب، بحيث يبتكر خطّاً أدبيّاً جديداً، في حين أنه استهلاك للمطروق سابقاً، وترقيع بائس لا يعبّر عن أيّ تجديد.
هناك مزاعم كثيرة ترافق، وتسبق وتتبع عمليّة التسويق، بحيث يتمّ تصدير نتاجات بعينها على أنّها علامات فارقة في عالم التجريب، في حين أنّ الصدمة تكون حين اكتشاف أنّ التضليل والتسويق يلعبان دوراً في خلق الأوهام وتصديرها.

لا يمكن القول إنّه ليس هناك جديد في عالمنا، وإنّ القدماء لم يتركوا للمحدثين أيّ جديد، لأنّ العالم ينضح بالجديد والتجديد، ونحن في خضمّ ثورة تقلب المفاهيم وتصدّر مفاهيم جديدة تناسب روح العصر وتحاول مواكبة سرعة التحوّل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا.
أقرأ أحياناً أقوالاً ملقاة بمجّانية مفرطة، كزعم أنّ فلاناً أسّس لخطّ إبداعيّ جديد، أو خلخل أسس السرد، أو تمرّد على الهياكل القديمة، أو قلب المفاهيم وابتكر مفهومه وأسلوبه، ويتكرّر الزعم ويعمّم على هذا وذاك، بحيث يفقد المعنى المراد منه، ويتماهى مع القديم الصدئ الذي لا روح فيه، وتكون المحسوبيات وراء كثير من هذه المزاعم والتصديرات التسويقية.



لا يمكن لوم النقّاد على كلّ شاردة وواردة، ولا تحميلهم أيّة مسؤولية في هذا المجال، لأنّ النقد في العالم العربيّ سجين ورهين مصالح ونفعات باتت شائعة ومعروفة، ورغم استهجانها، إلّا أنّها تكاد تغدو نمطاً شائعاً، متّبعاً، عبر تفاهم غير معلن.. أعتقد أنّ النقد شهيد المرحلة، وأكثر ما يتمّ الاستخفاف به، بحيث قد يوصف الناقد بأنّه حاقد، أو فاشل في الإبداع لذلك يلجأ للنقد، وذلك من منطلق النيل من آرائه حين لا تتوافق مع رغبات أصحاب الأعمال أو المسوّقين الدعائيين الداعمين لهم.

هناك نقد مقيّد في أروقة الجامعات، يترفّع بأغلبه عن تناول النتاجات المعاصرة، يركّز على الراحلين، وكأنّ نهر الإبداع جفّ وتوقّف عندهم، ويتمّ التعتيم على أعمال معاصرة، أو يتمّ التعاطي معها بانتقائية تتبع ولاءات ودوائر عديدة، منها القرب من السلطات، أو عبر العلاقات الشخصية. وهناك ما هو متعدّ على النقد، باسم النقد نفسه، وهو ما يسمّى بالنقد الصحافيّ، وهو نقد أقرب للعرض، أو الاحتفاء تارة، وللقدح تارة أخرى، في حين يكون الحيّز المتاح محدوداً، لا يفسح المجال للتناول بالشكل المطلوب.
ويكون هناك عامل الوقت أيضاً، فهناك مئات أو آلاف الروايات تصدر كلّ سنة، وأغلبها يزعم التجريب والتجديد والابتكار، وكثير منها ينسى بعد صدوره كأنّه لم يكن، لأنّ الاستسهال والاستعجال يكونان سمتين متجلّيتين وغالبتين.
باتت هناك عوامل تساهم في تصدير أعمال وتغطية أخرى، ولا يمكن لأيّ نقد مواكبة هذا الكمّ الذي يغرق الأسواق، ويختلط فيه الحسن بالرديء، وأمام هذا الواقع، يغدو الزمن هو الغربال الحقيقيّ، لا النقّاد الذين يجدون أنفسهم مقيّدين بحسابات متقاطعة تضغط عليهم، أو تحرّف مساراتهم بحيث يتواطؤون على تعظيم أعمال على حساب أخرى.

 

منصورة عز الدين (قاصّة وروائيّة من مصر):
لا ضمانات في الفن سوى الموهبة

التجريب بالنسبة لي مرادف للتجديد والسعي للإضافة والبحث في آفاق الأنواع الأدبيّة وعدم الارتكان للسائد والمجرّب قبلاً. هو مرادف أيضاً لمفهوم اللعب بمعناه الفني والجمالي، سواء على مستوى اللغة أو البنيّة والتقنيّات.
ومع هذا أدرك أنّ طموح التجريب محفوف دوماً بالمخاطر، فمن ينحاز له يعي أنّه بهذا ينتقي قراءه (إن جاز استخدام تعبير كهذا)، ويخاطر بالابتعاد عن دوائر التكريس التي تميل أكثر نحو الأعمال المطمئنة في مناطق المألوف والمتعارف عليه والأعمال الممتثلة للقواعد دون محاولة تحديها أو اللعب معها.
النقد للأسف لا يواكب التجريب، وينظر - في معظمه- بعين الارتياب وربّما الاتّهام للخروج عن المألوف. لا يقتصر هذا على مشهدنا الأدبي فقط، بل يمتد إلى ثقافات كثيرة في الغرب والشرق، وفي هذا السياق من الضروري تذكر أنّ معظم - إن لم يكن كل- التجارب الأدبيّة التي شكّلت خرقاً للسائد في عصرها قوبلت بالهجوم عليها أو على الأقل بالتجاهل. لم تُقدَّر "موبي ديك" مثلاً سوى بعد عقود على كتابتها، وشكك معاصرو هرمان ميلفيل في كونها رواية من الأساس، وعانى مارسيل بروست حتّى تمكّن من نشر "بحثاً عن الزمن المفقود"، واُتهِم جيمس جويس من جانب بعض معاصريه بأنه يكتب لنفسه ولن يجد من يقرأه أو يهتم بما يكتبه.

عادة ما يربط البعض بين التجريب والتخريب، كأنّ الأوّل الطريق الوحيد المؤدي إلى الثاني، في حين أنّ التقليد والامتثال للقواعد قد يؤديان بدورهما للتخريب بمعناه الهجائي. لنتخيل مثلاً ثقافة يعبد مبدعوها القواعد ويكتبون فقط وفق وصفات مضمونة ومجرّبة سلفاً، في هذه الحالة سنجد أنفسنا أمام مشهد راكد على حافة الموات لا يفاجئنا بأيّ جديد.  وتحضرني هنا جملة د. هـ. لورنس الموجهة لأرنولد بينيت والخاصّة بأنّ كلّ قواعد البناء صالحة فقط للروايات المستنسخة من روايات أخرى، فالكتاب غير المستنسخ من غيره من الكتب له بنيته الخاصّة.
لا يعني ما سبق أنّ التجريب لا يضمر تخريباً بين ثناياه، فالتخريب وعده وطموحه؛ لكنّه التخريب بمعناه الفني والجمالي بما ينطوي عليه من هدم بنيّة سائدة لاقتراح أخرى بديلة تّتسم بالمرونة والجدة في حالة كان التجريب موفقاً، أو بمعناه المباشر والواضح والمنطوي على إفساد فعلي في حالة كان التجريب مجرد ألعاب في الفراغ.

ما الذي يضمن أن يكون التجريب موفقاً؟! الإجابة أنّ لا ضمانات في الفن سوى الموهبة وسعي كلّ كاتب/ فنان إلى تطوير نفسه، وفهم طبيعة الفن الذي ينتجه والوعي بتاريخه وبالتحوّلات الكبرى فيه. أي أنّ معرفة "القواعد" والتقنيّات قبل التمرد عليها ضرورة لا غنى عنها.

 

أحمد ضياء (شاعر من العراق):
التخريب هو الجانب السلبي في عمليّة البناء


يؤثر الجّنوح إلى منظومة الفكر، الفلسفة، أثراً واضحاً على تكوين البؤرة التجريبيّة، الأمر الّذي يعطي الشّعر مكاناً آخر في فاعليّة الكتابة ذات الحضور الواضح والصّريح عبر سيستم الشكل والمضمون، بحيث يكون الهدف من ذلك الفعل تكوير خطاب شعري / إمبريقي خاصّ بامتدادات الإيهام الرّؤيوي الحاصل، أي أنّ التجريب هو تحوّل يطمس ثقافويّة التأريخ، عبر طهو البناء و/أو الخزّان المعرفي على قدر من مفاهيم (المعرفة من الموقع) أي تذهب هذه الانتقالة إلى ترويض كلّ الطّروحات وجعلها متماهية مع كلّ ما هو جديد ومعصرن.
وفي علاقتنا مع وسائل التّواصل تم تأكيد هذا الأمر، ففي أفق بيان (ما بعد الجّندر الشّعري) نلحظ كميّة التّحوّل الاجتماشعري مع المنظومة اليومية الّتي أهلته ليكون حاضنة لنتاجات الحرب.

الوعي هو الحد الإيجابي والسلبي في كلِّ المواقف، فهو القضيّة الّتي اشتغل عليها الإنسان. والأثر الإيجابي / الإبستمولوجي المرن، السّائل، المتميّع يكون مشغولاً عن إنتاج سبل جديدة في فاعليّة الفهم، إذ يعطي الحياة الشعريّة شيئاً توليفيّاً للتعبير عن الإرهاصات المحدثة.
والتخريب هو الجانب السلبي في عمليّة البناء، إذ يظلُّ مناصرو هذا التّكوين يراوحون بالعودة بأفكارهم صوب تضاريس جامدة صخريّة لا تمثّل حراك اليوم بل نتاج عقل توقّف.
لا أقول إنّ النقّاد تجاهلوا التّغيرات الجّديدة، إذ ثمّة طروحات تبنّاها النقّاد تنم عن تنامي في المنظومة مع المتغيّرات الجارية، وذلك النّموذج أسهم في تقدّيم نماذج شعريّة جديدة من شأنها مراقبة الدّوافع الثقافيّة، وهذا النير من المعرفة يمتلكه الناقد الإشهاري المعني بكلِّ الطّروحات المابعديّة، إذ يضطلع هذا التّكوين داخل أسس وتمرحلات معنيّة بالمقاربات الكليّة للنضيدة المعرفيّة الموجودة على أرض الواقع والشّعر، والرّاسب من كلّ هذه البيانات أو التّصاميم التجريبيّة يكون بمثابة المنعطف الثّقافي للخيوط المتشظّية بالانفجار المعرفي.

إستبرق أحمد (قاصّة من الكويت):
التجريب لا يملك دائماً جمهوراً من المصفقين



أتخيلنا نحن الكُتّاب كثيراً ما نحدق في الوحش ذي الرؤوس المتعدّدة، نصارع الكثير من الأسئلة، مدركين أنّه سيهبنا المغايرة لكنّه وجل الاختلاف، لذا دون إحجام نسرد حكاياتنا بتفريعات نأمل أنّها بتقنيّات ومستويات وسيرورات استثنائيّة دون أن نجزم، لكنّها تجعلنا نمارس العبث بالسائد والمُتكلّس. فور أن نربت على الوحش تغوص أيادينا في جسده، يلتهمنا، فلا عودة إلى الطرق المألوفة، التي أضحت مرّة وغير مستساغة، ندرك أنّنا نشبهه، فهذا المدعو بالتجريب لا يقاربه الجميع، لا يملك دائماً جمهورا من المصفقين، إنّما لديه الكثير والكثير من جمهور المتوجسين.
حتماً لا يؤمن بالتجاور مع البلادة والثابت، لذا يحثك على التجاوز والتمادي بكسر التوقعات، دون توقف، لذا نلقي أنفسنا إليه مدركين أنّه مَنْ يحقن العوالم التخييليّة بالتجديد والاكتشاف، ولا تتأتى هذه الطاقة المُبهِرة إلّا باشتراط الوعي والإتقان والشغف والرغبة العارمة لمحاولة الإبداع، نتبيّن بها الخيط الأبيض من الخيط الأسود بين معطيات التجريب وتواصيف التخريب، ذلك أنّ كليهما يرغب بالهدم وإعادة التشكيل، إلّا أنّ أوّلهما يستطيع تغيير كهرباء النصّ مضيئاً مسارب جديدة للتعاطي، أمّا الآخر فيقف عند تحقّق انهيار النمطيّة دون قدرته على بناء حيوات أخرى للنصّ. يجب أيضاً الإشارة إلى أنّه في الغالب من السهل التقاط التخريب وعزله، لكن هناك نصوص مخاتلة تحتاج لفترة طويلة حتّى تظهر أغنيتها؛ إذ الوحش/التجريب له ألاعيبه العجيبة في اختيار من يستطيعون حمل موسيقى الفن ونوتته أو ارتجالاتهم الحيّة لمقطوعة خجولة نابذاً الضعفاء والمترددين.

أما بالنسبة للناقد الذي تفترض وظيفته فك شيفرة النصّ ومعرفة مدى عافيته ومفارقته، فمن الغبن الادّعاء أنّه على صورة واحدة، فهناك الحاذق والكسول والمنتفخ ونماذج أخرى، ويحدد ذلك درجة ملاحقته للنتاجات الإبداعيّة ومدى حداثة رؤيته ونبذه للمحاذير وشحذه لأدواته والاقتراب من الوحش والتحديق في وجهه، وهو لا يكون إلّا للناقد الجريء الواثق والمتمكّن من خطه القادر على مجاراة العوالم المتحركة للنصوص، لكنّنا للأسف نرى القوارب ولا نرى الكثير يرتادها، لذا يجب أن نعترف أنّ الأغلبية في تيه التكرار والتقليديّة، وأحياناً يتأثر البعض بمقياس القارئ غير المحترف، متناولاً نصوصا معطوبة تستقطب الجماهير-لا بأس لو كانت جيدة-، أو تجذبه دوائر العلاقات الشخصية للأسماء، ناسياً أنّ أحد أهم ما تستلزمه وظيفته أن يكون باحثاً، ديناميكيّاً، منفتحاً، حياديّاً، مشغولاً باقتفاء جماليّات النصّ وليس بجمع فتات موائد المصالح الضيقة.

 

رزان إبراهيم (كاتبة وناقدة أكاديميّة من الأردن):
لا أرفض صيغة تمرديّة نُعرّف الحداثة بها



في البداية أقول: إنّ مصطلح الحداثة في الأدب هو مصطلح خلافي يجري تداوله على الساحة النقديّة على نحو غير دقيق. لكنّ هذا لا يمنع من وجود خطوط عريضة تعرف الحداثة بأنّها تعني التحلل من أعمدة النظم القديمة وقواعدها، استجابة لمنطق العصر الذي يحض على التحوّل المستمرّ، وأنّ الحداثة تعني تثويراً لأدوات إنتاج الفن، بما يترتب على ذلك من تحلل من كلّ ما يعترض حركة التغيير.

في مجال الرواية وامتثالاً لهذه الحداثة صرنا نلاحظ نمطاً روائيّاً تجريبيّاً يدفع بدماء جديدة ويثري العمل الأدبي، ويفيد من إمكانيّات توفرها فنون التعبير المختلفة. لكنّ الملاحظ أيضاً أنّ قسطاً من الكتّاب انفتحت شهيتهم نحو الحداثة والتجريب لدرجة أنّهم أخذونا إلى مساحة من الفوضى، ليصبح التجريب تجاوزاً مجحفاً لنظريّة الأجناس الأدبيّة، وتصبح الكتابة وفقاً لكريستوفر بتلر ضرباً من اللعب الحرّ في فضاء لا حواجز فيه ولا عوائق، ولا يقيم وزناً لتقاليد أو أعراف أدبيّة قارة، لدرجة أنّ بعض الحداثيين ينظر للكلمة باعتبار خصائصها المادية وحسب التي لا تشير لشيء.
في عالمنا العربي مشكلة الحداثة أنّها لم تتحقّق نتيجة تراكمات وتطوّرات داخليّة، وإنّما جاءت انعكاساً لحداثة غربيّة. وأنا هنا لا ألغي هذا الانعكاس لأنّنا نعيش في عالم مرتبط مع بعضه البعض، لكن ما يزعجني فيه صيغته الاتباعيّة لا الحواريّة. وإن جاز لي الحديث عن حداثة مأمولة فإنّي لن أرفض صيغة تمرديّة نُعرّف الحداثة بها، شرط أن أرى فيها إيماناً بقدسيّة السؤال وبحثاً عن أساليب وصيغ جديدة للتعبير تتلاءم مع حالة عربيّة مركبة لها مبناها الخاصّ. أمّا أن تصبح الحداثة رديفاً لغياب الشيء الجدي، أو تصبح زخرفاً وهروباً وصيغاً شكليّة مضلّلة تسلب من الرواية حقها في أن تقوم بوظيفة اجتماعيّة تجاه المجتمع، بحجة أنّ الإنسان فقد أيّ مجال للتصالح مع واقعه، فهذا يعني أنّنا دخلنا في خطاب فني منفلت.

في هذا السياق أميز بين حداثي متمكّن من أدواته قادر على التأسيس لعلاقات منطقيّة داخليّة، وآخر يقدّم لنا باسم الحداثة صوراً ولوحات مشوشة. وهنا يأتي دور الناقد في التمييز بين هذين النمطين، وأجدني مضطّرة لأن أعيب على بعض النقّاد محاولتهم إضفاء حالة نظامية وهمية يأتون بها من خارج النصّ الموسوم بالحداثي، لأنّ عمل الناقد بالضرورة يقوم على ركائز داخليّة مستمدّة من النصّ الأدبي نفسه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.