}

التطبيع أداة صهيونية لإعادة كتابة التاريخ.. الأسباب والسياقات والمآلات(3/3)

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 1 يونيو 2020
هنا/الآن التطبيع أداة صهيونية لإعادة كتابة التاريخ.. الأسباب والسياقات والمآلات(3/3)
اللوحات المرفقة للتشكيلي عماد أبو اشتية
نواصل الخوض حول التطبيع في هذا الملف الخاص، والذي توجّهنا في إطاره إلى عدد من الباحثين والكتّاب العرب لسبر آرائهم حول هذا الموضوع في جوانب مختلفة منه، سواء اتفقنا أم اختلفنا معها، محاولين التوصّل وإياهم إلى فهم التطبيع في منشأه، وتحولاته في سياقاته الزمنية والسياسية والثقافية، وما يترتب على ذلك من آثار تنعكس على القضية الفلسطينية بوصفها لا قضية تحرير وحسب، بل أيضا قضية تحرر لا يمكن فصلها عن مطلب الحرية الذي انتفضت لأجله الشعوب العربية، منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وحتى اليوم.
هنا جزء ثالث وأخير نستكمل به تسجيل بعض الملاحظات حول التطبيع في إطاره الإعلامي والثقافي العام ونبحث فيه موقع فلسطينيي 1948 من عملية مقاطعة الاحتلال، وسبل التوفيق بين المقاطعة والانفتاح على هؤلاء الفلسطينيين العرب.

 


القضية الفلسطينية في قبضة الأيديولوجيا الناعمة
تجري اليوم محاولة خنق القضية الفلسطينية عبر أيديولوجيا ناعمة، ويحيلنا الكاتب والناقد عمر بقبوق إلى بيير بورديو في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" الذي ذهب إلى أن من "يسيطر على المعلومات ووسائل نشرها في المجتمعات المعاصرة، هو الذي يحكم ويفرض رؤيته على الآخرين. وبالتالي فإن القنوات التلفزيونية لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية أو للتثقيف، وإنما هي أدوات "عنف رمزي" تُستَخدَم للتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات الراهنة وضبطها"، وبالتالي يمكن قراءة بعض الدراما العربية التي عُرضت في الموسم الرمضاني الأخير بأنها أداة تستخدمها «أنظمة تمتلك وسائل الإنتاج (المال والمعلومات) لفرض فكر سياسي يتماشى مع واقع شاركت هذه الأنظمة بصياغته. وليس من باب المصادفة أن يتزامن طرح منتجات الأيديولوجيا الناعمة الدرامية على الشاشات العربية مع الترويج لما يسمى بصفقة القرن».
يشير بقبوق إلى نموذج من المسلسلات «حاولت أن تعيد صياغة التاريخ بحكاية درامية تخدم نهج التطبيع، ويكون الناتج في الغالب رواية جديدة تتضمن بعض الخطوط التي تربطها بالبروباغندا الإسرائيلية. وأبرز هذه الأعمال هو المسلسل الكويتي "أم هارون"». تضمن المسلسل برأيه «لغة جديدة على الدراما العربية، تبدو أكثر تقبلًا وتصالحًا مع الكيان الإسرائيلي، وجرت أحداثه في الكويت في الأربعينيات، وتخلله الكثير من اللغط والمفارقات التاريخية التي تخدم فكر التطبيع؛ منها تقرير سمعناه في الراديو، يذكر به المذيع أنه قد تم إنشاء دولة إسرائيل على أرض إسرائيل؛ بدلًا من استخدام كلمة "أرض فلسطين"، كما كانت معروفة للعالم كله حينذاك. ليبدو واضحًا أن المسلسل يسعى لرسم رواية تاريخية موازية، توارب الباب لتصالح سياسي قادم؛ ولكن الترويج لهذه الرواية البديلة بدا أمرًا بالغ الصعوبة، وهو ما أثبتته ردود الفعل الغاضبة التي واجهت المسلسل أثناء عرضه». وفي نموذج ثان تمثل في الأعمال الدرامية، التلفزيونية منها والسينمائية، التي يمولها ما يسمى بـ"محور الممانعة"، والتي تم إنتاجها في الأعوام الأخيرة لتشويه مفهوم المقاومة، يرى بقبوق أنها «قرنت بين الحق المشروع بالنضال ضد العدو الإسرائيلي وبين المجازر التي ارتكبها النظام السوري والميليشيات الإيرانية بحق الشعب السوري الثائر»، فمسلسل "حارس القدس" «اتبع بنية سردية مركبة، تتداخل فيها الخطوط الزمنية ضمن سياق يربط ما بين المجازر التي ارتكبها النظام السوري بحق شعبه وما بين حركات الانتفاضة الفلسطينية، ليجعلها امتدادًا  لها ويضفي عليها ذات الصبغة البطولية».


والمسلسل برأيه «ليس المحاولة الأولى في سياق طمس المفاهيم لتلبس محور الممانعة ثوب البطل» فسبقها مثلا «تظاهرة "أفلام مقاومة الحرب والاحتلال" السينمائية، التي استضافتها تونس، وعُرضت فيها أفلام إيرانية وسورية ولبنانية، بعضها يصور النضال المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلي والبعض الآخر منها يساهم بترسيخ رواية النظام السوري الإعلامية عن معارك الجيش السوري والميليشيات الإيرانية في سورية؛ لتنصهر جميع الأفلام في بوتقة واحدة سعيًا لتكريس أنظمة شمولية لا تتعاطى مع القضية الفلسطينية سوى كورقة رابحة، تبرزها عندما تشعر بأنها محاصرة لتضرب شعوبها بيد من حديد». بالنسبة لبورديو لم تعد الأشكال القديمة للنضال الاجتماعي والسياسي "قادرة وحدها على مواجهة التوحش الإعلامي والمالي الناتج من تزاوج التكنولوجيا الجديدة وعالم المال" بحسب بقبوق.


التطبيع في إطاره العام و"صفقة القرن"
التطبيع كما يراه الكاتب والشاعر راسم المدهون هو: « كل سياسة أو تصرف يبيح الاعتراف بالرواية الصهيونية للصراع العربي – الإسرائيلي أو يضمر ذلك». ومحاولا وضع التطبيع الإعلامي والثقافي في إطار عام يقول: «الأمر هنا يتعلق بفهم الصراع في أساسه على أنه صراعٌ بين روايتين تستند أولاهما إلى حقيقة انتماء فلسطين لأهلها الفلسطينيين والذين ينتمون بدورهم لأمتهم العربية، في مقابل رواية أخرى تستند إلى ادعاء استعماري استيطاني يستخدم غطاء دينيا ويحاول البحث له عن "جذور" تاريخية تقارب إلى حد بعيد، وإن بشكل كاريكاتوري، الفانتازيا التاريخية. العقود الأولى التي أعقبت نكبة 1948 كانت فترة بحث الفلسطينيين عن وجودهم السياسي ومجتمعه الذي دمَرت النكبة وحدته وكانت عربيا مرحلة صراعات امتزجت بل وتناقضت خلالها تفاصيل طموحات التحرير والتنمية مع القوى الكبرى التي تبنت المشروع الصهيوني وزودته بإمكانات القوة العسكرية؛ رأى جمال عبد الناصر أسباب النكبة في القاهرة ونظامها الملكي وحين أطاحه مع رفاقه من الضباط الأحرار بدأت مواجهة الغرب له في مسألتي التسليح والتنمية، وصار واضحا أن تلك المواجهة التي انتهت بنصر سياسي لمصر عام 1956 على الاستعمار التقليدي، ستتصاعد على يد الوريث الأميركي وستلحق بمصر وسورية هزيمة عسكرية هائلة وموجعة عام 1967، وهي هزيمة قالت بكلام واضح إنه لا يمكن الفصل بين التنمية وقضية فلسطين».



وبرأيه «يصح هذا في الحرب كما في السلم أيا تكن عناوينه خصوصا وأن التوجه العربي اللاحق للتسويات مع إسرائيل كان يتأسس دائما على إرادات متسرعة ومنفردة تستجيب للجزرة الأميركية – الإسرائيلية. ومع أن المسألة كلها لم تكن واقعية إلا أن التفاوض العربي ذاته كان أقرب للفضيحة منه إلى خوض صراع سياسي؛ فتسوية السادات في كامب ديفيد أعادت سيناء منقوصة السيادة، وكبلت مصر بقيود ثقيلة ناهيك عن إخراجها من الصراع، في حين واصل الفلسطينيون تمسكهم باتفاق إعلان أوسلو للمبادئ في وقت ظلت إسرائيل تماطل في تنفيذ ما يترتب عليها إلى أن أطلق إسحق رابين تصريحه الشهير "لا مواعيد مقدسة" في شبه إعلان واضح أن الأمور ستتوقف عند ذلك، ليواصل الفلسطينيون للأسف تمسكهم بأوسلو، الذي لم يبق منه في هذه الحالة سوى "التنسيق الأمني" سيء الصيت».


يتضح هذا الإطار من خلال "تباشير" صفقة القرن، التي معها، كما يذهب المدهون، «بدأ القصف بالتمهيد للتنصل من فلسطين وقضيتها وبدأ يعبّر عن نفسه في تخوين الفلسطينيين واعتبار روايتهم ذاتها مسألة قابلة للنقاش وإعادة النظر، وسط حملة مقالات غير مسبوقة تقوم على أكاذيب الدعم التي قدمت لهم وفشلوا في استثمارها، وامتدّت الحملة لتطال من ظلوا في فلسطين بعد نكبة العام 1948 باعتبارهم "اختاروا" جنسية الدولة الغاصبة.. إلى غيرها، من حملات الهذيان والتي عبّرت أخيرا عن نفسها في بعض أعمال الدراما التلفزيونية التي راح أصحابها يتذكرون اليهودي الطيب وينسون الفلسطيني الطيب رغم أن بلدان تلك المسلسلات لم يعش فيها اليهود وعاش فيها مئات الألوف من الفلسطينيين وصاروا جزءا من تاريخها».
كل ما سبق، برأي المدهون، يعود بنا بالضرورة إلى المربع الأول «كل سياسة أو تصرف يقوم على إقرار الرواية الصهيونية للصراع العربي – الإسرائيلي هي تطبيع، وهي مرفوضة لأنها تخالف الحقيقة وتخالف سياق التاريخ العام للبشرية وفي القلب منه تاريخ العرب الذي يقول إن فلسطين قضية عربية لأنها تختصر قضايا العرب كلها في الاستقلال والتنمية والحريات والحداثة».


التطبيع: مصلحة العرب أم مصلحة إسرائيل؟
لماذا تُطبّع دول عربية لا سيما خليجية مع إسرائيل؟ هل يخدم التطبيع مصالح تلك الدول أم تصب آلياته بمعظمها في صالح الكيان الإسرائيلي؟
المتخصص بالاقتصاد السياسي الكاتب أحمد القاروط يعتقد أن انتقال التطبيع إلى العلنية يثير التساؤل عن أسبابه وماهية محركاته، فيذهب إلى أن مشروع التطبيع الخليجي- الإسرائيلي ينبعث «من مبادرة السلام العربية التي أطلقت عام 2002، والتي اشترطت قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967 مقابل الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها. فما يحصل اليوم من تطبيع خليجي هو استمرار للجهود العربية السابقة لإنهاء الصراع العربي الاسرائيلي تبنيا لنظرية "السلام الاقتصادي"، والتي تطرح أن التكامل الاقتصادي بين الدول العربية واسرائيل سيعني تولد مصالح مشتركة تفضي إلى سلام دائم بين الطرفين شرط قيام دولة فلسطينية. وبما أن قيام دولة فلسطينية قابلة للبقاء أصبح مسألة في حكم الميتة، عنى ذلك الحاجة لتوجّه مغاير نحو العلاقات الاستراتيجية العربية الاسرائيلية لمواصلة تطبيق نظرية السلام الاقتصادي. وبينما يعني التطبيع الحالي تنازل دول الخليج عن شرط قيام دولة فلسطينية للتطبيع مع إسرائيل، إلا أنه لم يتم طرح بديل للفلسطينيين سوى استمرار العيش تحت الاحتلال».

إذًا كيف نفهم الفائدة المتحققة للخليج من هكذا تطبيع؟ برأي القاروط «أن وجود إسرائيل كان تاريخيا أهم موانع تشكل سوق إقليمية في الشرق الأوسط على غرار مثيلتها الأوروبية، مما قوّض جهود التكامل الاقتصادي في المنطقة. بالنسبة للدول الخليجية، أطال ذلك استمرار مشكلة حماية ثروتها المالية الناشئة عن الثروة النفطية وعدم مقدرتها على استثمارها في الدول العربية إلا بشكل محدود. لهذا كانت كثير من استثماراتها توجه للغرب، الذي يوفر حماية قانونية وأمنية لمليارات الدولارات الخليجية الفائضة عن الحاجة. إلا أن تغير الوضع الجيوسياسي في المنطقة بعد فشل مشروع سوق "الشرق الأوسط الكبير" الأميركي الذي بدأ في العراق، وعزم أميركا على الخروج من المنطقة إثر ذلك خلال السنين القليلة القادمة، عنى أن الأنظمة الخليجية لن تستمر بالتمتع بالحماية الأميركية، وأن عليها أن تجد صيغة أمنية جديدة لبقائها. لهذا يعمل الخليج على بناء شرق أوسط جديد يضمن له الحماية الأمنية، وفي نفس الوقت يخلق بيئة تساعده على استثمار فوائضه النقدية من بيع النفط بطريقة مستدامة».

ويضيف: «يشكل التطبيع الخليجي الإسرائيلي أحد محددات السوق الشرق الأوسطية التي تعمل السعودية على تشكيلها وقيادتها. فالتطبيع مع إسرائيل سيساعدها من وجهة نظرها في تحقيق توازن عسكري للقوى في وجه إيران وتركيا، وقد تم مؤخرا الكشف عن خطط لتشكيل ما يعرف "بالناتو العربي" والذي يضمن مشاركة إسرائيل في حلف عربي دفاعي، بحيث تطوى صفحة العداء استراتيجيا ويستعاض عنه بحلف عسكري واقتصادي. كون إسرائيل دولة بها قانون يحمي الاستثمارات يعني أن الاستثمارات الخليجية هناك ستكون محمية مما يطمئن دول الخليج على مستقبل استثماراتها. من حيث الجودة، لدى إسرائيل اقتصاد كبير نسبيا معتمد على عوائد بيع الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة المرتبطة بها. من وجهة نظر دول الخليج، سيشكل هذا التطبيع مدخلا مفيدا لها إلى عالم التكنولوجيا الصناعية المتطورة في حدود الشرق الأوسط، ويعمل كدافع لمشروع "نيوم" السعودي وخطط دمج التكنولوجيا في حكم المنطقة وتطويرها الاقتصادي. كما أن دخل السياحة الدينية الإسلامية المتوقع من فتح أبواب الحركة بين البلدان الخليجية وإسرائيل سيكون جذابًا للطرفين، وبالفعل بدأت دول خليجية بعمليات شراء فنادق في القدس بهدف التحضير لمستقبل السياحة الدينية. إذًا بالنسبة لدول خليجية، التطبيع مع إسرائيل ليس تنازلا عن دعم برنامج قيام دولة فلسطينية فحسب، بل هو إعادة نظر استراتيجية في طبيعة المصلحة الخليجية – ولو على حساب الحقوق الفلسطينية – التي ترى بقاءها بعد مرحلة الربيع العربي مرتبطا بقدرتها على الاستثمار الآمن وحل المشكلة الاقتصادية الاستراتيجية في الوطن العربي، والقائمة على الاختلالات البنيوية بين رأس المال والعمالة والاستقرار السياسي، بشكل مستدام».


فلسطينيو 48 والوعي الشقي
بعد اتفاقيات أوسلو مطلع التسعينيات، بدت قضية فلسطينيي 1948 شأنا إسرائيليا داخليا، فتعمقت الأسرلة، ومع سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة نتنياهو ترافق تشديد إسرائيل على الاعتراف بيهودية إسرائيل من الخارج مع التشديد على ضرورة تأكيد يهودية إسرائيل تجاه الداخل، بالذات أمام المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، عبر إقرار قانون "الدولة اليهودية" وتعديلات قانون المواطنة، وغيرهما من وسائل سياسية وقانونية.
يتم اليوم، بقصد أو بدون قصد، تجاهل خصوصية نضال فلسطينيي 1948 في سبيل حقوقهم السياسية والقانونية بحيث أن: حيازتهم على بطاقة الهوية وجواز السفر الإسرائيليين، وانخراطهم في الفضاء السياسي الإسرائيلي، يكونان مأخذا للتشكيك في انتمائهم لعروبتهم ولوطنيتهم.



يشير زهير توفيق، الكاتب والأكاديمي في جامعة فيلادلفيا- الأردن، إلى أن المشروع الصهيوني قد واجه «في سنوات انتصاره الأولى، مشكلة آنيّة، تمثلت بإدارة شؤون 150 ألف فلسطيني، لم يغادروا بلادهم، وكيفيّة تدبير حياتهم وتدميرها، وحشرهم دائما وأبدا في موقف الدفاع عن النفس، كونهم موضوعات يجري التلاعب بها بالتهجير الداخلي والمحاصرة والعزل إبّان الحكم العسكري، أو هم الشواذ الذي أفسد القاعدة الصهيونية بنجاح المشروع كما خطط له الصهاينة قبل وبعد بلفور. واليوم، تحولت المشكلة إلى معضلة كبرى، تكاد تفسد حاضر ومستقبل "إسرائيل" كدولة ذات أغلبية يهودية ساحقة، بوجود مليون ونصف مليون فلسطيني يشكلون 20% تقريبا من السكان. لقد تحول هؤلاء إلى "ذات" فاعلة في مفاصل الحياة الإسرائيلية، ولم يعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي ممثلهم الوحيد كونهم عاجزين تاريخيا من 48 عن تمثيل أنفسهم بأنفسهم، والآن امتلك الفلسطينيون في الداخل أدواتهم السياسية ومجتمعهم المدني والأهلي. إن أهم مآثر عرب فلسطين 48 هو التمسك بالهوية العربية وإفشال الأسرلة والتأكيد على الهوية العربية الفلسطينية، وما الجنسية والبطاقة وجواز السفر الإسرائيليين إلا متطلبات الواقع والبراغماتية والمواطنة التي لا مفر منها لتحقيق المزيد من المكاسب المطلبية والسياسية».
هذه المعادلة الصعبة برأي توفيق «يصعب على المتطرفين والمراهقين اليساريين وأصحاب الرؤوس الحامية استيعابها، ومن هنا يأتي شقاء الوعي الفلسطيني في 48! ما بين الوقوف في وجه السياسات الاسرائيلية التي تعمل على تصفية حضورهم إن تعذّر تصفية وجودهم؛ وبين تشكيك العرب في الخارج بوطنيتهم كونهم يحملون الوثائق الإسرائيلية، ويساهمون في المؤسسات الرسمية كالكنيست، وكأن المشاركة الفلسطينية رغبة صهيونية عارمة! لقد أثبتت الأحداث أن سياسات التطرف العربي واتهام الناس بالتطبيع هو نضال مجاني مجحف بحق الصامدين وتضليل ذاتي وأسهل طريقة للتنصل من استحقاق الدعم اللازم لصمود عرب 48. هذا ولم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا تتمسكون بهوية وجنسية دول التطبيع التي تندّدون بها ليل نهار، وتعلمون علم اليقين ماذا فعلت بفلسطين والفلسطينيين؟! الخجل عاطفة ثورية كما يقول لينين».
أما الصحافية والكاتبة رشا سلامة فتعود بنا مع ذاكرتها إلى عام 2015 فتقول «حين كنت في وهران، في الجزائر، وإذ بسائق التاكسي الذي أمطرني، كعادة الأشقاء الجزائريين، بفيض من الترحاب والتمجيد حين عرف أني فلسطينية، يعاجلني بسؤال: هل حقًا تتزوجن كفلسطينيات من إسرائيليين؟ حينها، أمضيت الطريق الطويلة كلها وأنا أشرح له عن جدلية الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، موضحة له أن هؤلاء الأزواج فلسطينيون أبًا عن جد، لكن ثمة معطيات على الأرض فرضت عليهم حمل أوراق ثبوتية إسرائيلية».




تضيف سلامة «حين أتت فيروز للغناء على مسرح الأرينا في عمّان، في عام 2007، أنيط بي آنذاك تغطية الحفل لصالح جريدة الغد، لأجد ذاتي أكتب تغطية كاملة عن الفلسطينيين الذين أتوا من الأراضي المحتلة في عام 1948، والذين شكّلوا أغلبية الحضور، كما سيحصل لاحقًا في حفلات تواجدت بها في منطقة البحر الميت لكاظم الساهر وماجدة الرومي، وكلما قابلت أحدًا منهم ضمن التغطية الصحافية، كان يغرق في حالة من التأسي على الغربة التي يشعرون بها بعيدًا عن محيطهم العربي. ما سبق، بالإضافة لحوارات سابقة أجريتها مع ساسة وفنانين ومثقفين من الأراضي المحتلة في عام 1948، جعلني أفهم جيدًا معنى أن تكون بطلًا صامدًا على أرضك، ومعنى أن تبقى في قرية أجدادك، ومعنى أن تكظم غيظك في غير مرة وأنت ترى المحتل "مواطنًا" إلى جانبك، وفي الوقت ذاته، وبرغم كل ما سبق، تجد شقيقًا عربيًا يتهمك بالعمالة؛ لجهل لديه وقلة دراية، أو ليجعلك شماعة سهلة وجاهزة ومتاحة دومًا لإثبات فرضياته أن الشعب الفلسطيني "خائن ومفرّط"».


ما هي أسباب سوء الفهم هذا؟
يذهب الكاتب حيان جابر إلى أنه في مواجهة الاحتلال وتحديه وهزيمته، رسم اللاجئ الفلسطيني صورا متنوعة للصمود الفلسطيني، لكنها تحولت في كثير من الأحيان إلى «جدار عازل يحجب الحقيقة أو الواقع بما له وبما عليه، الواقع القائم على مزاوجة بين مزيج من التناقضات الفردية والجماعية، تناقض بين اليومي واللحظي، بين الروتيني والخاص بمرحلة محددة، تناقض بين غزة والضفة، تناقض بين عرب الداخل وبين أخوتهم في باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هذا التناقض، دفع البعض نحو فهم الواقع بذاته، وبالتالي نحو إدراك محدداته وضوابطه وحدود الفعل ضمنه والضرورات اللازمة لتطويره، في حين يدفع آخرون نحو مزيد من الانعزال عنه والغرق في صور متخيلة ومبالغة فيها، تستشهد بجزء محدد من صورة عامة أوسع، وهو ما يؤدي لاحقا إلى استبعاد باقي الصورة، حتى لو أدى ذلك إلى استبعاد جزء من الشعب الفلسطيني. فيصعب على بعض اللاجئين والعرب المزاوجة بين نقيضين يتمثل الأول في حمل الهوية الإسرائيلية والمشاركة في انتخابات الكنيست بالتصويت أو الترشح، وبين الصمود الفلسطيني على أرض فلسطين. فالصمود في الوعي العام عبارة عن مواجهة دائمة، وصراع يومي خطابيا ورمزيا وجسديا، وبالتالي يصعب عليهم مجرد تخيل أن يترافق مع حمل هوية إسرائيلية أو حتى مع المشاركة الانتخابية من خلال الترشح أو التصويت، فالهوية والانتخابات وفق هذا المنطق هي نقيض الصمود لأنها اعتراف ولو آني بسلطة الاحتلال غير الشرعية؛ اتفق مع الحاجة للبحث في الترشح للكنيست من زاوية سياسية، لكن الهوية والتعامل مع المؤسسات التي أفرزها الاحتلال هما جزء أساسي من أدوات الصمود الفلسطيني، ولا سيما في الأراضي المحتلة عام 1948. هنا نعني الصمود بمعنى القدرة على البقاء داخل فلسطين، القدرة على التعلم والعمل وبناء حياة اجتماعية وسياسية كاملة ومتكاملة، رغم الاحتلال ورغم سياسات التطهير العرقي المستمرة، ورغم إصرار الاحتلال على تهميش واضطهاد وخنق الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يقيم في وطنه، إلى حد التأسيس لنظام فصل عنصري (أبارتهايد) يحصر السكان الفلسطينيين في معازل وكانتونات، ويخضعهم لاستغلال اقتصادي وسياسي واجتماعي شنيع».
وبرأيه «الهوية والمشاركة في الانتخابات وغيرهما من مظاهر التعامل اليومية مع سلطة الأمر الواقع المفروضة بقوة السلاح وبالدعم الدولي على أرض فلسطين، مظاهر قديمة جديدة، فرضها الاحتلال على من بقي داخل فلسطين. لكننا نراها اليوم أو يراها البعض بصورة مغايرة عما كنا نراه سابقا، نتيجة عدة عوامل أولها تطور وسائل الإعلام وسهولة الاطلاع على مواقف بعض الأصوات الفلسطينية التطبيعية وأحيانا الصهيونية، وثانيها انتهاج الاحتلال مزيدًا من السياسات والقوانين التي تضيّق الخناق على فلسطينيي الداخل حتى في خطابهم اليومي وصولا إلى علاقتهم مع وسطهم العربي إجمالا والفلسطيني تحديدا، وثالثا بحكم تراجع الفعل الصدامي بعد أوسلو لا سيما بما يخص عرب 48 دون التدقيق في أسبابه الموضوعية، ورابعا بحكم حل الدولتين الذي أعاد تعريف الفلسطيني دوليا وللأسف داخليا، كما رسم حدود الفعل الفلسطيني وحصرها في مجموعة محددة وواحدة».

السياسات وآليات العمل المطلوبة
ما العمل في هذه الحالة؟ وكيف يمكن التوفيق بين مقاطعة إسرائيل سياسيا وثقافيا ومقاومة التطبيع معها، وبين مد جسور لفلسطينيي 1948 لدعم صمودهم واحتضانهم عربيا حفاظا على هويتهم العربية، واستمرارهم جزءا من المشروع الوطني الفلسطيني العام؟
تقول سلامة "ذات مرة، كنت أحاور المفكر عزمي بشارة، حين خرج من فلسطين نحو الأردن، فأجابني على سؤال طرحته، قائلًا: على من يكتبون الانتباه لكونهم يجب أن يبتعدوا عن كلتا الحالتين: شيطنة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في عام 1948، وفي المقابل تمجيدهم كثيرًا. من هنا، يجدر الانطلاق: لدينا أهل في الأراضي المحتلة عام 1948 صمدوا في مدنهم وقراهم وبلداتهم رغم التضييق كله، لكنهم في الوقت ذاته يعانون من إشكالات عويصة تستلزم حلًا منها على سبيل المثال تفشي الجريمة في أوساطهم؛ بسبب إهمال الأمن الإسرائيلي الذي نصّب ذاته حارسًا عليهم من غير وجه حق. حاليًا، تجري شيطنة لافتة لصورة الفلسطيني ليس في الأراضي المحتلة في عام 1948 فحسب، بل في عموم المناطق: الضفة وغزة والمنفى، وأخال السبب هو الجهل وغياب الوعي، وهو في مرات الاستسهال والنحي باللائمة على الفلسطينيين لتبرئة الذات العربية وتبرير تقصيرها، وكذلك التساوق مع أجندات أنظمة عربية باتت تجعل التطبيع جزءًا سافرًا جدًا من أجندتها حاليًا. التوعية في المقام الرئيس هي الحل، التوعية الفلسطينية للعالم العربي والعالم أجمع بخصوصية الحالة الفلسطينية التي أفرزها الاحتلال، وشرح الأثمان التي دفعها الفلسطينيون جراء هذا الاحتلال، وشرح الصمود الذي يصر عليه أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948، والتوعية بخطورة المحتل الإسرائيلي ليس على فلسطين وأهلها فحسب، بل على عموم العالم العربي كذلك، ويكون هذا عبر ردود محكمة ورصينة وعلمية تبث عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة لضرورة احتضان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في عام 1948 ودمجهم في الفعاليات الفلسطينية والعربية كجزء أساسي من النسيج الفلسطيني، بل تسليط الضوء بشكل خاص على ما يقبضون عليه من تراث ولهجات وثقافة وهوية، وإيضاح أن الوقوف مع هؤلاء الفلسطينيين هو وقوف مع السجين لا السجان. هؤلاء عرب أقحاح وفلسطينيون حتى النخاع، وليسوا إسرائيليين كما تجري شيطنتهم".



وتختم سلامة فتقول: «لا بد لحركات مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي ومناهضة التطبيع أن تؤكد على هذه الرسالة، من خلال الإصرار على إشراك فلسطينيين من داخل الأرض المحتلة في عام 1948، في فعالياتها، والتأكيد على أن هؤلاء فلسطينيون وليسوا احتلالًا تجب مقاطعته. أغمض عينيّ كلما أتت سيرة أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948 وأستذكر تلك السهرة التي حظيت بها مصادفة في بيت عائلة في قرية دبورية، قضاء الناصرة، حين كان كل شيء فلسطينيًا خالصًا بلا شائبة: اللهجات والأطباق والدبكة وصورة الرئيس الراحل ياسر عرفات تحرس الساهرين في صالون البيت وشرفته».
وبصدد السياسات المطلوبة للتعامل مع الموضوع  الفلسطيني «بشكل  جدلي شامل وكلي؛ أي  دعم عرب 48، للحفاظ على أرضهم وعروبتهم من جهة ومقاومة التطبيع ومقاطعة اسرائيل  من جهة أخرى» يؤكد توفيق «على  أهمية نضالهم السلمي الذي اقتضته ظروفهم، وأهمية دورهم كونهم يمثلون العامل الداخلي الأكثر أهمية وخطورة في المشروع الفلسطيني. أما معايير الدعم والمساندة لهم أو للنخب الفلسطينية النشطة هناك دون الوقوع في طاحونة التطبيع  والأسرلة فهي برأيي المتواضع: رفض الرواية الصهيونية المؤسسة لمشروع الاحتلال والاستيطان والنكبة واللجوء؛ رفض التجنيد والخدمة في جيش الاحتلال؛ رفض الدخول في شراكات في مشاريع اقتصادية استغلالية إسرائيلية؛ الإيمان بحق الفلسطيني في أرضه والدفاع عنها والمقاومة بما هو متاح؛ التمسك بالهوية العربية؛ رفض الانضمام لأحزاب صهيونية؛ رفض الأسرلة والتهويد وبيع الأرض. إن هذا البروتوكول أو الميثاق الوطني مدخل لتجاوز الأزمة حول كيفية التعامل مع عرب 48 التي أضحت قضية جدلية في سياسات الرفض العربي والدعوة للمقاومة، وكأن المقاومة بوسائلها وأساليبها وصفة سحرية نهائية ثابتة في كل زمان ومكان أو نص مقدّس لا يحتاج لتغيير أو تطوير».

يختم توفيق بقوله إن «عاملين حدّدا مستقبل المشروع الصهيوني وإسرائيل سلبًا وإيجابا؛ وهما طرد السكان العرب من فلسطين، وتواطؤ الأنظمة العربية مع الصهيونية في تهجير مئات الآلاف من اليهود العرب من بلادهم إلى إسرائيل، ولو أن الحكمة بأثر رجعي لا تجدي نفعا، ولكن، ماذا لو بقي أكثر من الـ 150 ألف فلسطيني في الداخل، وماذا لو حرمت اسرائيل من هجرة نصف مليون يهودي عربي وشرقي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات؟! لقد نجح المشروع الصهيوني في استقدام اليهود العرب، لكنه استيقظ من نشوته ليواجه كابوسا مؤرّقا مفاده: كيف أحتوي مليون ونصف مليون فلسطيني، بوصفه عددا عصيا على التدجين والاحتواء والأسرلة، فلا كبارهم ماتوا ولا صغارهم نسوا».

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.