}

محمود رضا حين خطف أنظارنا برقصته الأخيرة

هشام أصلان 16 يوليه 2020
هنا/الآن محمود رضا حين خطف أنظارنا برقصته الأخيرة
محمود رضا (1930 - 2020)
في أحد مشاهد الفيلم الشهير "غرام في الكرنك"، تجمع بين بطليه محمود رضا وفريدة فهمي قُبلة محورية ومهمة لضبط السياق، حيث البطلة تحب البطل بينما يتهرب هو منها ويكتم مشاعره لظنه أنها مرتبطة بغيره، وفي لحظة ارتباك لا يستطيع المقاومة وتأتي القبلة كاشفة لمشاعره، غير أن حرجًا بالغًا واجههما في أداء القبلة لأن فريدة فهمي في الحقيقة هي زوجة علي، شقيق محمود رضا، ومخرج الفيلم. ليس ذلك فقط، بل إن محمود أيضًا في الحقيقة هو زوج شقيقة فريدة. ومعالجة للحرج، اتفق الجميع على أن يتم تصوير اللقطة من زاوية توحي بالقبلة من دون تلامس حقيقي للشفتين، فقط اقتراب شديد وتلامس في جانبي الوجه، ما يقلل الحرج ولكن لا يرفعه تمامًا، وفي حين يأمل الجميع أن تنتهي اللقطة سريعًا بعبئها، يحدث أن يُعاد المشهد ثلاثًا وعشرين مرة لأسباب مختلفة، بين عطل في الكاميرا أو خطأ في الإضاءة أو ما إلى ذلك.

لا دروس مستفادة من الموقف السابق، ولا محاولة تحليل أو قراءة خارج السياق، فقط موقف طريف أنقله للمهتمين ممن لم يشاهدوا لقاءً قديمًا للفنان الكبير محمود رضا مع الإعلامية نهال كمال، استعيد مؤخرًا في تغطية رحيل رضا قبل أيام عن تسعين عامًا.
الفيلم المذكور هو واحد من أفلام سينمائية قليلة أٌنتجت لـ"فرقة رضا للفنون الشعبية" وتؤدي فيها استعراضاتها المشهورة، فيما تبقى مفارقة أن تاريخ إنتاج الفيلم الاستعراضي الشهير هو أكتوبر/ تشرين الأول 1967، أي بعد هزيمة يونيو/ حزيران بأربعة شهور فقط.
والأثر الذي لفرقة رضا في الذاكرة المصرية كبير، حد أنه لا توجد فرقة للفنون الشعبية في شهرتها عبر كل الأجيال منذ تأسيسها في الخمسينيات، ورغم خفوت لمعانها قبل سنوات ليست قليلة.


بدأت الحكاية عندما فكر محمود رضا، الراقص وقتها في فرقة آلاريا الأرجنتينية، في إنشاء فرقة للفنون الشعبية. طرح فكرته على وزارة الإرشاد القومي، التي ستصبح فيما بعد وزارة الثقافة، ووافق الوزير فتحي رضوان على احتضانها قبل أن يتراجع لأسباب تتعلق بتكلفة رواتب الراقصين، غير أن محمود لم ييأس وكوّن مع أخيه علي الفرقة بشكل مستقل من حوالي عشرة راقصين وراقصات، على أن يكون هو راقصها الأول وبطلها وفريدة زوجة أخيه بطلتها. وراح يمر على مدن وقرى مصر في الدلتا والصعيد لاستيعاب أبرز الرقصات الشعبية المصرية، وكانت المشاركة الدولية الأولى للفرقة في مهرجان الشباب في موسكو حيث الفوز بالمركز الثاني، وفي أوائل ستينيات القرن الماضي، صدر قرار جمهوري بتأميم فرقة رضا وضمها لوزارة الثقافة، وكان الأخوان محمود وعلي رضا قد تعرفا على الموسيقار علي إسماعيل الذي لقبه البعض ببيتهوفن المصري، ما صار له بالغ الأثر في نجاح الفرقة بوضع أشهر مقطوعاتها الموسيقية، وتضاعف عدد الراقصين والراقصات عشرات المرات عبر أكثر من جيل، واعترفت الدولة بصلاحية كلمة "راقص" في خانة البطاقة الشخصية، وعاشت الفرقة سنوات طويلة شديدة الازدهار، وصنعت مكانًا مرتاحًا وأصيلًا لها في التراث الثقافي والفني المصري وباتت موجودة في الذاكرة الجمعية بعدد من التابلوهات الاستعراضية الممتعة واللافتة في الاحتفالات الرسمية أو المهرجانات الفنية داخل وخارج مصر، أو عبر مشاركتها في عدد من الأفلام الاستعراضية التي افتقدناها نهائيًا منذ سنوات طويلة، فيما صار محمود رضا من أشهر الراقصين ومصممي الرقصات في العالم العربي إن لم يكن أشهرهم، وكذلك فرقته.

بنظرة تبتعد قليلًا عن التلقي العام، ربما نحتاج إلى إعادة نظر في فكرة "الفن الشعبي" التي صدرت بها الفرقة نفسها وقامت عليها، ذلك أن ما قدمته وتقدمه، في إحدى زوايا النظر، لا يعتبر فنًا شعبيًا محليًا خالصًا، لكنه استلهام لفنون الاستعراض المحلية، والعمل عليها لتخرج في تلك الصورة التابلوهية، وربما الأوبرالية، حيث رقصات الصعيد والريف والسواحل المصرية، يؤديها راقصون ذوو مهارات جسدية أقرب لمهارات فناني الباليه، بتصميمات تم تنسيقها وإخراجها باحترافية، وكأنها، في محاولة للتبسيط، رقصات محلية تمت سنفرتها وتخليصها من شوائبها.

محمود رضا وفريدة فهمي 


















وكان لفت نظري إلى هذه المسألة، قبل سنوات، المخرج عبد الرحمن الشافعي، رئيس فرقة النيل للآلات الشعبية، وهي فرقة كبيرة شهيرة أسسها الفنان زكريا الحجاوي، وتقدم استعراضات تعتمد على الآلات والرقصات والغناء الشعبي المنتمي للريف والصعيد في مصر، ولها مشاركات دائمة في مهرجانات الفنون الشعبية في العالم. كنت سألته مرة عن الفرق بين الفرقتين، النيل ورضا، فقال لي إن فرقة النيل تعتمد على الفن المحلي الفطري من دون إدخال أي تعديلات عليه أو الاعتماد على مهارات جسدية خاصة، فتجد العازفين والمطربين والراقصين هم مواطنون عاديون تستطيع رؤية أشباههم في احتفالات العائلات الريفية، على عكس فرقة رضا التي يتدرب راقصوها على فنون الباليه والمرونة ويقدمون الفن الشعبي في إطار أوركسترالي يشبه، في بعض الأحيان، فنون الأوبرا. تلك ليست مقارنة، فالفرقتان تقدمان نوعين مختلفين من الفن الاستعراضي، ولكن هي محاولة للتوضيح.
قبل أحد عشر عامًا، وبينما كانت فرقة رضا تختتم استعراضًا أحيت به مناسبة ما، فوجئ الجمهور بصعود مؤسسها محمود رضا إلى خشبة المسرح، ومشاركة الراقصين رقصتهم الختامية. كان في حوالي الثمانين من العمر. لم نر تلك اللقطة على نطاق واسع وقتها. وقبل أيام، انتشرت اللقطة بشكل كبير عبر مقطع فيديو على السوشيال ميديا، وصنع حالة كبيرة من البهجة وسط أجواء متسمة بالكآبة من عدة نواح. لا أحد يعرف السبب وراء انتشار الفيديو في هذا التوقيت، لكن شيئًا قدريًا أدار وجوهنا عن أجواء الكورونا والعراك السياسي والاجتماعي، لنبتهج بينما نتفرج على محمود رضا في رقصته الأخيرة.

# محمود رضا ـ فيديو رقصته الأخيرة: 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.