}

هل الفنون الفلسطينيّة ما زالت وسيلة مقاومة؟.. شهادات (2/2)

ضفة ثالثة ـ خاص 25 يوليه 2020
هنا/الآن هل الفنون الفلسطينيّة ما زالت وسيلة مقاومة؟.. شهادات (2/2)
(نبيل عناني)
شغلت قضية فلسطين والصراع مع إسرائيل منذ بدايات القرن العشرين فكرَ ووجدان المثقّفين والمبدعين الفلسطينيّين من أدباء وكتّاب وفنّانين، فمثّلت الثقافة والفنون ضلعًا من أضلع النضال الوطنيّ ضدّ الممارسات والانتهاكات الإسرائيليّة كافّة. للوقوف على مدى تأثير الحركة الفنّيّة الفلسطينيّة في تعزيز وحماية الهويّة والرواية الوطنيّة الفلسطينيّة في الزمن الحالي، توجّهت "ضفة ثالثة" إلى عدد من الفنّانين الفلسطينيّين من تشكيليّين، ورسّامي كاريكاتير، وسينمائيّين، ومسرحيّين، وموسيقيّين، ومصمّمي غرافيك، ومصوّري فوتوغراف، ممّن ينتمون إلى مختلف الأجيال والمشارب والاتّجاهات الفنّيّة، ويعيشون في أجزاء الوطن السليب المتقطّع الأوصال (أراضي 48، والقدس، والضفّة الغربيّة، وقطاع غزّة)، وفي دول الشتات وبلدان المنافي البعيدة، سائلين إياهمّ: إلى أيّ مدى ما زال الفنّان الفلسطينيّ يعمل على أن يكون منتجه الفنّيّ شكلًا من أشكال مقاومة الاحتلال سواء أكان يعيش في فلسطين المحتلّة، المثقلة بالهموم، أو في الشتات والمنافي البعيدة، وبالتالي ترسيخ وجوده وصموده في مواجهة آلة القتل الإسرائيليّة من جهة. ومن جهة ثانية كيف تمكّن الفنّان الفلسطينيّ بمنجزه البصريّ والفنّيّ أن يتصدّى للرواية الصهيونيّة التي تروّج الأكاذيب وتزور التاريخ، وتحاول تغييبه عن الأجيال الشابّة التي لم تعش مرحلة النكبة والنكسة وما سبقهما، باختراع وتثبيت وجدان صهيونيّ مرتبط بفلسطين كأرض وكفكرة، بواسطة فعل إبداعيّ يقاوم المشروع الإسرائيليّ الاستعماريّ الاستيلائيّ، ويطوّر ويكرّس الوجدان الفلسطينيّ ويفعّل ذاكرة الأجيال التي اُقتلعت من أرض الآباء والأجداد؟ وكان سؤالنا الأخير لهم من خلال تجربتهم الشخصيّة، هو: هل تمكّنت الفنون بمختلف أنواعها من رصد المعاناة الفلسطينيّة والتقاط إرهاصات الأمل بفلسطين حرّة؟ فكان هذا الملف الذي ننشره على جزأين. هنا الجزء الثاني والأخير.

                                                                                                                                                                    (أوس يعقوب)



  تصميم غسان كنفاني 





















التشكيليّ نبيل عناني (رام الله):
دور الفنّ في بناء وعي الجماهير الفلسطينيّة
بعد تخرجي من كلّيّة الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1969 كانت صدمة حرب حزيران (يونيو) 67 لا تفارقني خاصّة أنّ الحرب حدثت وأنا في مصر ولم أستطع العودة للوطن إلّا بعد أن تقدّم والدي بطلب لم الشمل وتمت الموافقة عليه، لأُعين بعد عودتي في دار المعلمين التابعة لوكالة الغوث (أونروا) في مدينة رام الله مدرسًا للفنون عام 1971، وللأسف مكان الزميل الفنّان الراحل كامل المغني الذي سجنته سلطات الاحتلال حينها بتهمة أمنيّة.
في هذه الفترة رسمت مجموعة من اللوحات عبّرتُ عن حرب 1967 وآثارها، وعن معاناتي والأثر النفسيّ جراء عدم قدرتي على الدخول إلى وطني، وشعوري بالهمّ لما آلت إليه أوضاع فلسطين عقب احتلال كامل التراب الفلسطينيّ. وكان أن أقمت معرضي الأوّل في البلاد عام 1972 في مقرّ "جمعيّة الشابّات المسيحيّة" بالقدس، وكان لهذا المعرض الأثر الكبير عليّ شخصيًّا وعلى الحركة التشكيليّة في البلاد، حيث التقيت في يوم افتتاح المعرض بعدد من الفنّانين ما مكّننا من تأسيس "رابطة التشكيليّين" عام 1975، لتصبح فرعًا من فروع الاتّحاد العامّ للفنّانين الفلسطينيّين، الذي كان مقره بيروت، وأدّت الرابطة دورًا طليعيًّا في تجميع طاقات الفنّانين وتقدّيمهم للجمهور المحليّ من خلال المعارض السنويّة الجماعيّة التي طافت مدنًا عديدة في أراضي 48 والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وكان التفاف الجمهور الفلسطينيّ حولنا مذهلًا لأنّ أعمالنا تناولت في تلك الفترة مجمل القضايا الوطنيّة والسياسيّة بعد النكسة وبدايات صعود العمل الثوريّ الفلسطينيّ، وهموم شعبنا الفلسطينيّ وضرورة مقاومته للاحتلال، وقد ساعدنا في هذه النشاطات المؤسّسات الفلسطينيّة كالبلديّات والجمعيّات والجامعات، وساعدتنا في تسهيل العروض بتقدّيمها قاعات العرض ودفع مصاريف النقل وتكاليف المطبوعات.

عام 1976 أقمنا معرضنا الأوّل في العاصمة البريطانيّة لندن، ثمّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة عام 1977، والذي طاف ثماني ولايات، وكانت الأعمال ضدّ الاحتلال ومن أجل إقامة دولة فلسطينيّة. لكنّ الاحتلال تنبه لهذه الظاهرة وباشر في محاربتنا بشتّى الطرق، منها التحقيق مع الفنّانين الفاعلين ومُنعنا من السفر للخارج، وتعرّض عدد منا للاعتقال، وتمّ إغلاق قاعات العرض بالشمع الأحمر، وصادرت سلطات الاحتلال اللوحات والمطبوعات، ومارست الضغط على المؤسّسات الوطنيّة لمنعنا من العرض في مقرّاتها، وأكثر من ذلك تمّ إتلاف أعمالنا في مدينة حيفا ضمن معرض مشترك أقمناه مع فنّانين يساريين إسرائيليّين، من قِبَل مستوطنين متطرّفين، كما تمّ حرق معرض كامل في قطاع غزّة قبل افتتاحه بيوم واحد عام 1979، إثر مظاهرة خرجت من أحد الجوامع، وتمّ حرق مقرّ الهلال الأحمر الفلسطينيّ وغيره من مقرّات تابعة لمؤسّسات وطنية بحجّة الكفر والإلحاد، وأنا أجزم أنّ عملاء إسرائيليّين هم من حرّضوا هؤلاء.
استطاعت الرابطة العمل لسنوات على بناء وجدان ووعي الجماهير الفلسطينيّة، والدعوة إلى الانفتاح بالتفكير وتشجيع العمل الجماعيّ وشحن طاقات الجمهور والالتفاف حول القضيّة الفلسطينيّة والانعتاق من الاحتلال ومقاومته للوصول إلى الحرّيّة وتقرير المصير.
في عام 1994 أي بعد اتّفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينيّة، شعرنا بنوع من الحرّيّة في الحركة، وخلق آفاق جديدة في طرق الاتّصال وعرض الأعمال وبعث المتاحف وصالات الفنّ التشكيليّ في الضفّة الغربيّة، واستطاعت حركتنا تطوير ذاتها نتيجة الشعور بالحرّيّة واختيار اللغة التشكيليّة المعاصرة والوصول إلى متاحف عربيّة وعالميّة، وتمّ اقتناء أعمال فنّانين فلسطينيّين من مختلف الأجيال محليًّا وعربيًّا وعالميًّا.
عبّرتُ في الكثير من أعمالي عن هموم الشعب الفلسطينيّ، متطرقًا إلى مواضيع تفضح همجيّة الاحتلال وسرقته لأرضنا وممتلكاتنا وحقوقنا، من ذلك السجون والشهداء وهدم البيوت والقدس وبناء الجدار العنصريّ والمستوطنات والمعابر وغير ذلك. كما رسمتُ جمال الطبيعة الفلسطينيّة في الأرياف ومساحات أشجار الزيتون الذي يكسو الجبال والوديان على مدّ النظر حتّى الأفق، وإلى جانب شجرة الزيتون كرمز اقتصاديّ وسياسيّ وجماليّ رسمتُ الكثير من اللوحات التي تمثّل رمزًا آخر هو المرأة الفلسطينيّة التي ترمز إلى الهويّة والتراث وأم الشهيد وأم الأسير.

من الأعمال الجديدة لنبيل عناني 












 


التشكيليّ بشار الحروب (رام الله):
الانتفاضة وتحوّلات الفنّ الفلسطينيّ
النكبة عام 1948 كانت نقطة مفصليّة في تاريخ الشعب الفلسطينيّ حيث أصبحت الفنون والثقافة الفلسطينيّة أداة مهمّة من أدوات المقاومة الفلسطينيّة، سواء بتصوير المخيّمات وحالات التشرد والنزوح واللجوء التي عانى منها الإنسان الفلسطينيّ في سنوات النكبة، والتي تمثّلت بشكل كبير في أعمال الفنّان إسماعيل شموط، أو تصوير حالة الفقد والحنين للوطن كما تمثّلت في أعمال الفنّان إبراهيم هزيمة والفنّان إبراهيم غنيمة على سبيل المثال، وبقي ذلك حتّى انطلاق الثورة الفلسطينيّة عام 1965 حيث أصبح الفنّ يشكّل أداة من أدوات المقاومة من خلال عمل الملصقات الثوريّة وتمجيد الشهداء والعمل الفدائيّ والدعوة إلى تحرير فلسطين فكان فنّا ذا بعد تحريضيّ تعبويّ وهذا ما اشتغل عليه معظم الفنّانين الفلسطينيّين سواء بالشتات أو في الأراضي المحتلّة واستمرّ ذلك حتّى اندلاع الانتفاضة الأولى (1987)، التي كان لها أثر كبير وأحدثت تحوّلات جديدة في الفنّ الفلسطينيّ خصوصًا في الداخل. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الفنّ يركّز على الهويّة الفلسطينيّة بشكل كبير خاصّة أنّ الاحتلال يعمل على محو هذه الهويّة، وكذلك استمر الفنّ بنفسه الثوريّ الداعي إلى التحرّر وبقي ذلك حتّى توقيع اتّفاقيات أوسلو عام 1994، والتي كانت مفصليّة في مسألة التعاطي مع موضوع فلسطين.


















من وجهة نظري انتقل الفنّ من فنّ تعبويّ إلى فنّ ناقد يشتغل على فضح الاحتلال الإسرائيليّ، وكذلك البحث عن لغة بصريّة عالميّة تشتغل على الوعي العالميّ وتفضح هذا التزوير الذي عملت عليه الحركة الصهيونيّة لأكثر من 100 عام، وذلك من خلال المفاهيم التي تطرق لها الفنّان الفلسطينيّ تجاه قضيّة الاحتلال الاستيطانيّ ووظف كل التقنيّات والوسائط الحداثيّة في أعماله.
شخصيًّا أنا واحدٌ من الفنّانين الفلسطينيّين الذين عملوا على هذا المنهج، من خلال لغة جديدة ووسائل حداثيّة، وإن كان الكثير من أعمالي غير مباشر إلّا أنّ الموضوع الفلسطينيّ دائمًا حاضر في الكثير منها، فأعمالي تعمل على فضح الإرهاب الإسرائيليّ سواء على الأرض أو ضد الإنسان، وقدّمتها بلغة تحاكي هذا العالم من أجل خلق وعي أكثر تجاه القضيّة الفلسطينيّة، والكثير من هذه الأعمال عرض ويُعرض في متاحف ومؤسّسات وبيناليّات عالميّة.
من الأمثلة على هذه الأعمال؛ عمل فيديو بعنوان "سماوات" والذي يفضح الممارسات الإسرائيليّة في مدينة الخليل، وكذلك عمل "بوابة إلى السماء" والذي يقدّم قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين في الشتات، وعمل "أرض الماس" والذي يفضح عمليّة سرقة الإسرائيليّين للأرض الفلسطينيّة.

 

النحّاتة والفنّانة البصريّة رنا البطراوي (غزّة):
تعابير فنّيّة تحاكي ما نعيشه على أرض الواقع



كثيرة هي المعوّقات التي تؤرق الفنّان الفلسطينيّ، جراء ما تعيشه المنطقة من توتر وتقلّبات ومتغيّرات سياسيّة متسارعة، ما يجعل من قطاع الفنون والثقافة هامشيًّا في أحيانٍ كثيرة.
الفنّ التشكيليّ بشكلٍ عام هو نتاج حضاريّ وتعبير ثقافيّ يقدّم صورًا من الحياة الإنسانيّة. وهو بالنسبة لي حقل أطرح فيه أفكاري ومفاهيمي التي لها علاقة بالمشاعر التي يعيشها الفلسطينيّون بمختلف أماكن تواجدهم وبأساليب حياتهم في مختلف الميادين.
استطاع الفنّ الفلسطينيّ الذي شهد تقلّبات تاريخيّة، أن يعكس الطابع والشكل العامّ للرؤية البصريّة المخزونة في ذاكرة الفنّان من الموروث ومرويّات الأجداد والآباء، وذلك من خلال اللوحة والمنحوتة.
وكان للفنّانات الفلسطينيّات دور بارز في مجال الفنون البصريّة الحديثة، ولدينا أعمال كثيرة بقيت كشواهد على ما أنجزنه من أعمال قدّمت رؤيتها وأفكارها بتعبير فنّيّ يحاكي ما نعيشه على أرض الواقع في وطن سليب.
دائمًا أتساءل: بعد ما مرّ بنا من نكبات ونكسات وصدمات هل ستكون كل هذه الأهوال سببًا لمزيد من البحث والتفكير عن آليّات جديدة لمحاكاة الواقع السياسيّ واجتراح الحلول التي نحن بأمس الحاجة لإحداث تغييرات في حاضرنا والتفكير بالمستقبل؟
من أدوار الفنّانين والمثقّفين وكل المشتغلين بحقول المعرفة والثقافة والفنّ برأيي، العمل على التغيير وإيجاد إستراتيجيّات جديدة عمادها التنمية، والعمل على تطوير المهارات التي من شأنها ابتكار أساليب تتماشى مع حركة العصر في هذه الحقول الإبداعيّة وغيرها.
كفنّانة أرى أنّه من مسؤوليتنا أن نقدّم معاناتنا كشعب يعيش تحت الاحتلال بتحقيق منجز بصريّ فنّيّ مبنيّ على البحث العميق ومشبع بالقيم الفنّيّة، وبما يربطنا بأرضنا وشجرنا ورائحة بيارات الأجداد، وجمال لون البحر الأزرق، بحرنا.

 

المصوّرة الفوتوغرافيّة حنان عواد (الولايات المتّحدة):
الصورة أداة لتوثيق الحقائق

في مواجهة المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ لدولة الاحتلال الصهيونيّة، المرتكز على روايات مستوحاة من الدين أو القوميّة العلمانيّة مستغلًا أساطير صهيونيّة تجاهلت وأهملت الحقّ والهويّة الفلسطينيّة، وتسببت في تغييب القضيّة الفلسطينيّة في جميع أنحاء العالم من أجل نزع ملكية الأرض عن الشعب الفلسطينيّ، في مواجهة كل ذلك لا بدّ من مقاومة الشعب الفلسطينيّ لهذا المشروع والتصدّي لهذه الأساطير.
تتّخذ المقاومة أشكالًا عدّة، إن كانت مقاومة مسلّحة أو مقاومة شعبيّة وسلميّة، من خلال الاعتصامات وحملات المقاطعة، وكذلك المقاومة الثقافيّة والفنّيّة عبر العديد من الأشكال والصور المختلفة بالريشة والقلم وعدسة الكاميرا والموسيقى والنحت والحفاظ على التطريز والزيّ الفلسطينيّ والأكلات الشعبيّة الفلسطينيّة.

أشكال المقاومة تلك تهدف في الأساس إلى تأكيد الحقّ الفلسطينيّ، فبالصورة والكلمة تحفظ التاريخ والموروث وحقّ الوجود والبقاء والدفاع عن الحقيقة التي تحاول الحركة الصهيونيّة طمسها.
تصوير وكتابة وتدوين ما حدث للقرى المهجرة، وما جرى خلال النكبة، يثبت وجودنا في فلسطين، لذلك فإنّ توثيق الحقيقة من خلال عدسة الكاميرا وتدوين التاريخ الشفوي أمر مهمّ جدًا. وكذلك حفظ الصور من فلسطين التي تُظهر وجودنا كشعب وحضارة ضاربة جذورها في القِدَم وما زالت حاضرة في ذاكرتنا وفوق الأرض رغم التهجير والتدمير؛ صورة لشقائق النعمان وشجرة الزيتون المعمّرة التي أصبحت رمزًا للصمود الفلسطينيّ، صورة لمعمّرة فلسطينية عمرها 108 سنة وهي تقول: "أنا فلسطينيّة"، صورة لشبابيك وأبواب بيسان التي ينطق حجرها الأسود الداكن قائلًا: "أنا هنا قبل نكبة 1948"، ومن خلال مساجد وكنائس القدس، وأشجار الصبر التي تراها في كل قرية تمّ تهجير أهلها منها، والتي تقول: "أنا هنا باقية".
أوثق تاريخ فلسطين بالصور، وأسعى لدخولها كلّ بيت محب لفلسطين، ويذهب ريع بيعها لزراعة الزيتون مجدّدًا في أرضنا الطيبة بفلسطين...إنّها مقاومة متكاملة الأركان، حفظ للتاريخ والذاكرة الجماعيّة، ومحاولة لحفظ الأرض من المصادرة الصهيونيّة.
لطالما تكلمت الصورة بلغة جديدة لتتّخذ شكلًا من أشكال المقاومة في الثقافات العربيّة والعالميّة المتنوّعة.
إنّ وراء كل صورة حكاية لفلسطين توثّق مأساة النزوح القسريّ وتخاطب وتقاوم وتواجه الأساطير الراسخة في ثقافة الغرب وتنادي بالحرّيّة.

 

التشكيليّ ماهر ناجي (غزة/ بلجيكا):
توثيق الأحداث الدراميّة في مسيرة شعبنا



إنّ الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ تحديدًا على مدار تاريخه تميّز بتوجّهه المقاوم منذ نكبة عام 1948. فمن الصعب أن تجد فنّانًا فلسطينيًّا لم يلامس بأعماله معاناة شعبه منذ النكبة إلى يومنا هذا، مرورًا بتوثيق الأحداث الدراميّة في مسيرة شعبنا.. وهذا النمط من الأعمال يُعدّ نمطًا مقاومًا من الفنّ.
إنّ المأساة الفلسطينيّة منفتحة على كلّ الاتّجاهات. من هنا كان لا بدّ من معالجة المواضيع التاريخيّة والدينيّة والأحداث اليوميّة في سياق التأكيد والدفاع عن الرواية الفلسطينيّة الحقيقيّة.
بالنسبة لي أنتجت عدّة أعمال ترتبط بالتاريخ الكنعانيّ وهي ردود من سياق التوراة ذاتها على الرواية الصهيونيّة.. وكما أنّ الغزاة الصهاينة سرقوا الأرض فهم لم يتورعوا عن سرقة تراث وتاريخ وفنون الشعب الفلسطينيّ.
من هنا كان لا بدّ من إنتاج العديد من الأعمال ذات الطابع التراثيّ لهدفين، أولًا: توثيق وتأكيد حقوقنا في تراثنا وتاريخنا. وثانيًا: تثبيت هذا الموروث بصورة بصريّة للأجيال القادمة، ومع أنّ للكلمة في هذا المضمار أهمّيّتها إلّا أنّ العنصر البصريّ يلعب دورًا هامًّا في تثبيت الصورة في وجدان الأجيال.
دون شكّ، يتراوح الفنّانون في أهمّيّتهم كما هي الحال في إنتاجهم، فهناك توجّهات مختلفة على الساحة الفلسطينيّة، منهم من يتسابق في تقليد المدارس الأوروبيّة مبتعدًا عن الغوص في الهمّ اليوميّ لشعبه، كما أن هناك فنّانين كرسوا جلّ حياتهم وأعمالهم لهدف الحفاظ على هويّة شعبهم والدفاع عنه.
بالتأكيد الفنون بأشكلها المختلفة من تصوير وسينما ومسرح وفنون تشكيليّة لعبت ولا زالت تلعب دورًا هامًّا في رصد وتوثيق معاناة الشعب الفلسطينيّ. وأعتقد أنّ المشاركات المحليّة والإقليميّة والدوليّة من خلال عرض بعض الأفلام الوثائقيّة، وكذلك المعارض الفرديّة والجماعيّة للفنّانين التشكيليّين في المحافل المختلفة، لعبت دورًا كبيرًا في تجسيد ورصد وطرح معاناة شعبنا على مدار العقود الماضية. ومع هذا لا بدّ من تكثيف الجهود وتضافر الرؤى بين المؤسّسات العامّة والخاصّة لجعل هذه المعاناة ماثلة أمام أعين العالم، على أمل تحشيد الرأي العامّ العالميّ لمساندة حقوق شعبنا المضطّهد.

 

التشكيليّ رائد القطناني (عمّان):
أشعلنا الشمعة..



برأيي أنّ جميع أشكال النضال الثقافيّ والإعلاميّ والفنّيّ لا ترقى بشكلٍ من الأشكال إلى ما يقدّمه أبناء شعبنا المقاوم والثابت على أرضه.
فلولا صمود الصامدين وثباتهم على أرضهم لما كانت هناك قضيّة فلسطينيّة أصلًا.
والمهمّة العظيمة لجميع أشكال النضال الفنّيّ والثقافيّ هي إبقاء هذه القضيّة حاضرةً في أذهان الأجيال المتعاقبة.
إنّ لقضيّتنا بعدًا زمنيًا طويلًا، وشعبنا ولّاد، ولا بدّ من إذكاء روح المقاومة وفكرة التحرير بكلّ الأشكال المتاحة للأجيال المقبلة، وبالتأكيد الشكل الفنّيّ والبصريّ عنصر مهمّ جدًا. ففي عمل بصريّ بسيط (كلوحةٍ فنّيّة) لا تتجاوز مدّة مشاهدته ثواني معدودة قد نقوم بما لا تستطيع أن تقوم به عشرات الخطابات الرنّانة.
وبالتأكيد بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ تغيّرت الأدوات عن السابق فالشكل البصريّ أصبح أقوى وأكثر فاعليّة لإيصال شتّى الرسائل، وأصبحت اللوحة تلعب دورًا عظيمًا لبث جميع الأفكار الوطنيّة وغيرها.
بالعودة إلى الوراء، لأكثر من خمس وعشرين سنة (1994 سنة تخرجي من الجامعة)، كان اختصاصي هو الاتّصالات البصريّة (الإعلان) في كلّيّة الفنون الجميلة في جامعة دمشق.
وعندما أردت أن أوثق تاريخ فلسطين بلوحات فنّيّة، وبعد جهدٍ كبير بالبحث عن المصادر التاريخيّة، وجدت أنّني أتحدّث عن تاريخ العالم وليس عن تاريخ فلسطين فحسب. ففي بلادنا أقدم حضارة بشريّة في مدينة أريحا، وقد مرّ عليها شتّى أصناف الاحتلالات وأشكال الحكم العربيّ، وهذا أمرٌ لا يمكن اختصاره بمشروع التخرّج.
أثناء عملية بحثي وجدت معلومات تتحدّث عن استخدام مضيفات الطيران لشركة "العال" الإسرائيليّة للثوب الفلسطينيّ كلباسٍ رسمي لهنّ، يومها غيّرت موضوع البحث واتّجهت صوب توثيق الرموز الكنعانيّة والتي يصل عمر بعضها لأكثر من ثمانية آلاف عام، وذلك لتأكيد الهويّة الكنعانيّة في الزيّ الشعبيّ الفلسطينيّ، ولتأكيد عروبة الأرض وفلسطينيّتها.
ورغم تعاقب السنوات على تلك الأعمال (وعددها عشرة) وعلى الرغم من تغيّر الأسلوب الفنيّ والتقنيّ فلم أتوقّف عن توثيق وتأكيد الهويّة الفلسطينيّة في أغلب أعمالي.
بالتأكيد للفنّ عمومًا دورٌ فاعلٌ في تسليط الضوء على الكثير من قضايانا الوطنيّة، بل وبكثير من الحالات كان يطرح الحلول للكثير من الأزمات.
كما ذكرت في البداية مهما صنعنا كفنّانين خصوصًا، وكمثقّفين عمومًا، لا يمكن بشكل من الأشكال أن نرقى لمستوى نضالات وعذابات شعبنا ولكن على الأقلّ أشعلنا الشمعة بدلًا من أن نكتفي بلعن الظلم والظلام.

 

رسّام الكاريكاتير محمد سباعنة (قباطية/ لندن):
صياغة مفاهيم فنّيّة جديدة..


لزمن طويل اقتصر تعريف الفنّ المقاوم على أنّه فنّ بصريّ يعرف بلغة جمعيّة تستخدم رموزًا وطنيّة للتحريض، ولتمجيد المقاومة في مواجهة الاحتلال في الحالة الفلسطينيّة. لكن مع تطور تعريف الوجود الاحتلاليّ على الأرض من احتلال إلى استعمار إحلاليّ، أعتقد أنّ تعريف الفنّ المقاوم يجب أن يتطوّر أيضًا.
الاستعمار الإحلاليّ يعمل جاهدًا على شيطنة الشعوب الأصليّة والادّعاء أنّها شعوب لا تملك حضارة، فيصبح شغله الشاغل سرقة الهويّة ونقض الرواية المقابلة لروايته. إن شيطنة الشعوب الأصليّة هو الأداة الأهمّ لوجود الاحتلال ممّا يخلق من الفنون أيًّا كانت حجّة مقابلة لدحض دعايته والبروباغاندا التي يعمل عليها.
من هنا، ورغم انتمائي للفنّ المحرّض، إلّا أنّه في سياق هذا التطوّر للمفاهيم فبالضرورة أنّه أيًّا كانت الفنون الفلسطينيّة ومواضيعها، أو لغاتها البصريّة أو السمعيّة، فهي نقض لرواية المستعمر.
أعمل اليوم على رسالة الماجستير في لندن، وفي عمليّة البحث والتحرير أفكّر بصياغة تنطلق من هذه المفاهيم، وأرى أنّ أغنية للحبيبة قد تكون أداة لمقاومة الرواية الإسرائيليّة. ولكن أيضًا علينا أن نعمل على تنويع لغتنا البصريّة مع بقاء الرموز الفلسطينيّة حاضرة تأكيدًا على الهويّة الفلسطينيّة، فالتطريز أو تحضير صحن حمص أو حتّى مفتاح العودة، هي رموز يحاول المحتلّ إمّا سرقتها أو طمسها. فالحرب الثقافيّة أصبحت متشعّبة ومركّبة ولم تعد تخاض بأدوات تقليديّة.
إنّ تسويق المنتج الثقافيّ الفلسطينيّ هو ساحة حرب أمام ماكينة الاحتلال المهيمنة عالميًّا بأدواتها المتعدّدة. ويمكنني القول إنّ فنانين مثل محمد عساف، وناي البرغوثي، وشادي زقطان، وتيريز سليمان، وغيرهم، هم مقاومون شرسون للمشروع الصهيونيّ.

 

المخرج والكاتب المسرحي سامح حجازي (القدس):
المسرح كفعلٍ في المواجهة..




أعمل في المسرح كي أتصالح مع الأشياء التي لا أملك سلطانًا عليها. أتمَسرح كي أخلق نسيجًا في عالمٍ لطالما بدا أبيض وأسود. أتمسرح كي أتصوّر الأشياء بصورة مختلفة لعلّ في ذلك ما يغيّر العالم.. كي أكرّم الجمال مقابل القبح اليوميّ للاحتلال وكفعلٍ يوميّ للارتجال، لأنّ في ذلك ما يصنع رباطة جأشي.
أتمَسرح لكي أتذكّر ما يحاولون محوه من ذاكرتي. لكي لا أنسى المفتاح الذي حمله مَنْ هم/نّ قبلي لتبقى ذاكرة العودة.
أتمسرح لكي أسكّن الألم، وأزيل الكآبة في الشتات وفي الشتاء، لأنّ ذلك يمكّنني من مواجهة ما أعرفه وما لا أعرفه.
أعمل مسرحًا كفعلٍ إيماني، كممارسة للتأني، لكي أوثّق ما أحبه في مواجهة الخسارة في نكبتنا الأولى وفي نكستنا الأولى، لأنّ ذلك يجعلني أقلّ خشية من الموت من نكباتٍ أخرى ونكساتٍ أخريات، وكنوعٍ من الفرح النقيّ.
أتمسرح من غضبي إلى شغفي، لكي أسمع داخل الصمت، لأهدئ من الأصوات الصارخة في داخلي، وفي خارجي، ومن كل مكانٍ حولي، بسبب وضعنا المثير للضحك نحن "كَ" بشر و"ك" فلسطينيّين.
أعمل في المسرح لأنّ في ذلك رقصة مع التناقض. لأنّ ذلك يمكّنني حينها أن ألعب وأرقص فوق الخشبة كما لعبَ الطفل المتروك وحيدًا على الرمل في حيفا ويافا وغزة.
أعمل مسرحًا كطقسٍ من الطقوس، ولأنّني لا أصلح لوظيفة، ومن صميم تقلّباتي، ولأنّني حينها لا أحتاج لأن أتكلّم فقط، وبألوان الذاكرة، كشاهدٍ على ما رأيت وسمعت وقرأت وشممت ولمست.  
في ذات الوقت تمكّنت العديد والكثير من الفنون بمختلف أنواعها من التقاط إرهاصات الأمل. لكنّي لا أثق بشيء، خاصّةً بنفسي، منزلقًا داخل الهاوية المعروفة، هاوية المسرح: هاوية الشكّ والامتهان، وأعرف الخطورة والمجازفة المميتة فقط لأكتشف مدى قوّتنا وضعفنا، ومدى تشبّثنا بحقّنا بالحياة وزوالنا.

 

المخرج السينمائي وسام الجعفري (بيت لحم):
الفنّ لغة عالميّة لها خصوصيّة البيئة



الفنّان هو ابن بيئته، وهو نتيجة ما يحدث معه كلّ يوم، وهو خلاصة مجتمع ووطن أيًّا كان. ومقاومة الشيء تعني مواجهته بما يلزم من أدوات سواء كان قلمًا أو ريشة أو كاميرا.
قبل أيّام، كانت ذكرى استشهاد الأديب غسّان كنفاني، الذي عمل من خلال أعماله القصصيّة والروائيّة والمسرحيّة على توثيق الرواية الفلسطينيّة، والذي كانت نهايته على يد جهاز الموساد الإسرائيليّ. فغسّان بفكّره والموجود في الشتات كان يشكّل خطرًا كبيرًا على الاحتلال.
الفنّان يحوّل الفنّ ذاته إلى حالة من حالات المقاومة، فهو لا يريد تصوير المقاومة في فنّه وإنّما يريد أن يجعل الفنّ سلاحًا يقاوم به الموضوع المرفوض بالنسبة له. هذا الموضوع قد يكون احتلالًا وعدوانًا حوله قيد فنّه أو شغفه.
الفنّانون الفلسطينيّون يحاولون بكلّ الطرق والأساليب عرض الواقع الفلسطينيّ سواء في الداخل المحتلّ أو الشتات ونقله للأجيال القادمة وللعالم أجمع بلغة مفهومة.
يعتبر المخيّم مصدرًا معرفيًّا هامًا لتاريخ القضيّة الفلسطينيّة، خاصّة بعد وصول الجيل الثالث للنكبة وتناقل المعرفة بين الأجيال برصد وتوثيق تفاصيل الحالة الراهنة للاجئين الفلسطينيّين من خلال تثبيت المعوّقات ومحاولات تغييب الأجيال الشابّة من خلال تحطيم طاقاتهم، وعدم وجود مساحات قادرة على التعبير، بالإضافة إلى التضييق المستمرّ من خلال المشاريع الاستعماريّة، الذي يزيد صمود الأجيال بأرضها وحلمها بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد.
توثيق تفاصيل الحياة اليوميّة للشباب يعتبر بمثابة أرشيف من أرشيفات القضيّة الفلسطينيّة، والذي يُعدّ رسالة للعالم ولكلّ الأجيال القادمة.
من خلال فيلمي القصير "امبيانس" حاولت إظهار هذا الجانب في حياة اللاجئين في المخيّم، ممّن هم من الجيل الثالث للنكبة، كما حاولت إظهار صور حنظلة التي ترسم باستمرار على جدران المخيّم، وكذلك أسماء القرى التي هُجّر منها أهلها في عام 1948 والتي ما زالت موجودة وستبقى إلى حين عودتنا. كذلك حاولت إظهار أنّه مع التراجع السياسيّ والاجتماعيّ فإنّ هنالك العديد من المحاولات التي تضيف للفنّ الفلسطينيّ، والتي تؤكّد أنّ الشباب قادرون على التغيير.
أرى أنّ الفنّ لغة عالميّة لها خصوصيّة البيئة، وأن الفنّ هو صاحب الإنتاج الأكبر في الموروث الحضاريّ الفلسطينيّ.

 

الباحث الدكتور ناجي الخطيب (فرنسا/ إيطاليا):
تحويل الفنون إلى أداة تدخل سياسيّ..




في البداية، لا بدّ من القول إنّني لستُ فنانًا بل عالم اجتماع لكن وبحكم الطابع المتعدّد والمُتداخِل لحقول علم الاجتماع والإنسانيات عمومًا، يتداخل علم الاجتماع مع القضايا الفنّيّة والأدبيّة، إذ أن الأعمال الفنّيّة والأدبيّة والتي تظهر دائمًا على أنّها من منتجات النشاط البشريّ الفرديّ هي في الواقع مشروطة ومرتبطة عضويًّا بالمجتمع الذي تنتمي إليه وبالحقبة الزمنيّة واشتراطاتها الثقافيّة والتاريخيّة والسياسيّة المُحدّدة. نشوء حقل "سوسيولوجيّا الفنّ" هو الدليل على هذا الارتباط ما بين الجماليّ والسياسيّ والاجتماعيّ، وعندما تكون مسكونًا بالهمّ الجماعيّ وبقضيّة وطن مُغتصب، تتداخل الفنون والآداب والسوسيولوجيّا في صلب القضيّة الوطنيّة لكي تتحوّل إلى أداة نضال، وهذا ما أقوم به، بتحويل العلم والثقافة والفنون عمومًا إلى أداة تدخل سياسيّ، وذلك من خلال المواقع التي أنشط بها مهنيًّا وسياسيًّا، وهذه هي حال عدد كبير من ناشطي الشتات الفلسطينيّ، وهذا هو شكل تدخّلهم في النشاط الوطنيّ وأحد التعبيرات عن مقاومة فلسطينيّة حيّة في كل مكان داخل وخارج فلسطين.
المثال الأكثر نجاحًا هو تنظيمي لنشاط فنّيّ ومعماريّ تحت عنوان "استوديو فلسطين: الحجارة الناطقة" في البينالي الدولي لفنّ العمارة في مدينة البندقية - فينيسيا في نسخته السادسة عشرة عام 2018. في هذا المعرض حاولنا أن نعيد للسرديّة الفلسطينيّة موقعها في النضال الفلسطينيّ على المستوى الدوليّ لكي نناضل ضدّ السرديّة الصهيونيّة من جهة، وضدّ السرديّة الفلسطينيّة الرسميّة لسلطتي أوسلو الضفّاويّة والغزّاويّة والتي تتناسى مُتعمدةً طبيعة المشروع الكولونياليّ الصهيونيّ كمشروع استعمار إحلاليّ مُوجه لفلسطين التاريخيّة من بحرها إلى نهرها، وذلك باختزالها لجوهر هذا الصراع إلى قضيّة احتلال من دولة إسرائيل لأراضي دولة ثانية هي فلسطين التي جرى تقزيمها الى أراضي فلسطين المحتلّة إثر حرب حزيران (يونيو) لعام 1967. لذلك، شكّلت عكا بالنسبة لمعرضنا رمز المكان الفلسطينيّ المُهدّد بالأسرلة بفعل سياسات الأبارتهايد (الفصل العنصريّ) كما هي مدينة الخليل والتي تواجه نفس السياسات ونفس المخطّطات.
المعرض الذي أقمناه في تظاهرة البينالي والذي ضم أكثر من ستين دولة وآلاف الزوار، كان أداتنا للتصدّي للرواية الصهيونيّة، وذلك للتأكيد على الحقّ الفلسطينيّ من خلال اللجوء الى أدوات غير تقليديّة للنضال بهدف تحقيق أكبر فائدة ممكنة للقضيّة الوطنيّة، وإحدى هذه الأدوات هي الانخراط في معمعان المشهد الثقافيّ والفنّيّ والفكريّ الدوليّ لكي تصبح قضيّة فلسطين جزءًا منه.
هذا الخيار هو ما قمنا به في وقت سابق عبر تنظيم معرض متجوّل ترافقه ورشات عمل حول التراث التاريخيّ لبناء "الكيان" السياسيّ الفلسطينيّ الأوّل في التاريخ وذلك تحت عنوان: "نابلس وصانور تستقبلان ظاهر العمر الزيداني". في هذا المعرض المُتنقِل قمنا بعرض صور ومقاطع فيديو وشهادات ونصوصًا تاريخيّة لمواقع هذه التجربة الرائدة التي مثلتها "الدولة" الزيدانيّة والتراث المعماريّ الزيداني في القرن الثامن عشر. وقد استطعنا من خلال هذا المعرض أن نؤكّد أمام الأجيال الشابّة الفرنسيّة والإيطاليّة والأجيال الشابّة الفلسطينيّة على جانبي الخط الأخضر (لو استطعنا نقله لفلسطين وهذا لم يحدث للأسف) أهمّيّة هذا الحدث المُهمَل في تاريخ فلسطين، وأهمّيّة إعادة كتابة الذاكرة الجماعيّة الفلسطينيّة كمكان وكزمان موحد من جبال الجليل حتّى جبال نابلس، من عرابة البطوف حتّى صانور، من عكا حتّى نابلس.
حاليًا نقوم بالإعداد للعام الجامعيّ القادم لدمج فلسطين في نشاط جامعيّ دوليّ بفضل طلبة الدكتوراه في الفلسفة السياسيّة في "جامعة باريس الثامنة" وبمشاركة "جامعة مكسيكو الوطنيّة المستقلّة"، وذلك لبناء منصّة الكترونيّة لحفظ وأرشفة ودراسة التاريخ الشفويّ لعدد من الشعوب الأصلانيّة، والتي لم تبن بعد دولها القوميّة في سياق العولمة. ومرّة جديدة نربط فلسطين بهذه التوجّهات الفكريّة الحداثيّة التي أكّدتها الدراسات النسويّة والجندريّة ودراسات "ما بعد الكولونياليّة" في استعارتها لمراجع ومنهاجيّات التاريخ الشفويّ الحيّ. إن ربط فلسطين وقضيّتها بقضايا الشعوب والأقلّيّات القوميّة والجنسيّة المُطالبة بحقوقها هو تأكيد على الحقّ الفلسطينيّ وتحويل فلسطين إلى قضيّة عدالة دوليّة لن تموت حتّى تحقيق هدفها في عودة أبناء فلسطين إلى وطنهم وفي بناء دولة فلسطين الديمقراطيّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.