}

الكتابة تحت سماء الحرب الليبيّة.. البحث عن حياة جديدة

أوس يعقوب 2 أغسطس 2020
هنا/الآن الكتابة تحت سماء الحرب الليبيّة.. البحث عن حياة جديدة
كيف يكون الأدب شهادة حيّة عن اللحظة الراهنة-لحظة الدم؟
ما الذي يمكن أن يسطّره الكتّاب والكاتبات، ممّن بقوا تحت سماء الحرب في ليبيا التي نالت من البشر والشجر والحجر، عن أمكنة وآلام وأوجاع الناس وهم يعيشون بينهم؟ وماذا يمكن لمن وهب حياته للنضال بالكلمة الحرّة قوله في زمن الحرائق المشتعلة والدمار الذي حلّ بالمدن وواقع الحياة فيها.. زمن القتل والتشريد والتهجير القسريّ؟ ومن ثمّ هل يمكن للكتابة أن تنقذ من هذه الفوضى وهذا الخراب العميم؟ وأخيرًا كيف يرى من حاورناهم الأدب كشهادة حيّة عن اللحظة الراهنة- لحظة الدم؟ وإلى أيّ مدى تستطيع الكتابة الإبداعيّة خلق أصوات مناهضة للظلم والعنف والحرب؟



الكلمات تاريخ بديل عن الحرب
البداية كانت مع صاحب «إنسان»، القاصّ والروائيّ محمد النعاس، الذي أجاب عن سؤالنا: كيف تكتب عن الأمكنة وآلام وأوجاع الناس، وأنت تعيش بينهم تحت سماء الحرب؟ بالقول: ببساطة، لأنّني عندما أكتب عن كلّ ذلك، أكتب عن الأماكن التي عشتُ فيها وعاشت فيّ، وعن الآلام والأوجاع التي أمرُّ بها، وحتّى لا أنزاح إلى الجنون عليّ أن ألكم شيئًا ما لأفرغ ما لدي من خوف، غضب، وجع، ترقب، حب، أمل، إحباط أو أيّ من المشاعر، وشاءت الصدف أن تكون اللكمات التي أوجهها في وجه الحرب والحياة التي أعيشها هي قصص عايشتُ شخصياتها وهي تحاول الهروب منها.
وعمّا يمكن أن يقوله الكاتب في زمن الحرائق المشتعلة والدمار الذي حلّ بالمدن وواقع الحياة فيها؟ أفادنا صاحب «دم أزرق»، أنّ كلّ ما يمكن أن يقوله هو أن يخلق تاريخًا آخر، لا تتحدّث عنه وسائل الإعلام ولا تكترث له ماكينة الحرب، أن يسجّل كلّ هذه المعاناة في قصص (خياليّة كانت أم حقيقيّة، فانتازيّة أم واقعيّة) وأن يفرغ روحه في الكلمات حتّى إذا وضعت الحرب أوزارها (أو لم تشأ ذلك)، يكون للناس تاريخ بديل يمكنهم أن يعودوا إليه، دوره أن يكون ذاكرة الشعب تسجل آماله ومعاناته حتّى لا ينسى الشعب ما مرَّ به يومًا.
وبسؤاله: هل يمكن للكتابة أن تنقذنا من هذه الفوضى وهذا الخراب العميم؟ أجاب: لا يمكنني أن أتحدّث عن غيري، لكنّني وجدت في الكتابة خلاصي من التوهان في دوامة الفوضى، هذا ليس كلامًا رومانتيكيًّا أو عاطفيًّا أسجّله، هي عقار أتداوى به للبقاءِ على قيدِ الاتزان النفسيّ والعقليّ، وهي طوق نجاة وجدته في لحظات عديدة في السنوات العشر الماضية ينتشلني من الجنون، السعار أو التخلّص من إنسانيّتي.



وعن رؤيته للأدب كشهادة حيّة عن اللحظة الراهنة، لحظة الدم، التي تغرق فيها بلاده اليوم؟ قال صاحب «برج الحمل»، إنّ الأدب كأيّ فنٍّ آخر هو تسجيل للملهاة الإنسانيّة بكافّة تجاذباتها، مشاعرها وقصصها، لهذا من الطبيعيّ أن يكون شاهدًا على اللحظة الراهنة، ومؤرخًا لها، لكنني لا أحبذ أن يتمّ اختصاره في تسجيل اللحظة الراهنة، هو تسجيل لما يمكن أن يكون، ملء للفضاءات التاريخيّة التي تتركها لحظات الدم وهي تخط تاريخ المنتصرين والمنهزمين.
وانطلاقًا من تجربته، يرى النعاس أنّ الكتابة الإبداعيّة تستطيع - نظريًّا حسب تعبيره- خلق أصوات مناهضة للظلم والعنف والحرب، مبيّنًا أنّ ذلك ثبت في أحداث كتاب «شمس على نوافذ مغلقة»، حيث تدافع الحقوقيون والنشطاء للدفاع عن حرّيّة الإبداع. كما أنّه خلال مسيرتي الأدبيّة المتواضعة واجهتُ مواقف عدّة لشباب يقرأون لأوّل مرّة، وكان أوّل ما وقعوا عليه هو قصصي عن آثار العيش في بلد تنوء بالحرب، تغيّرت حسبما قالوا لي نظرتهم للحياة بعدها. على كلّ حال، أنا أحد الأصوات المناهضة التي استطاعت الكتابة الإبداعيّة خلقها. عمليًّا، يُعدُّ الأمر أصعب مما هو عليه، حيث أنّ هذه الأصوات تبدو أضعف من أن تناهض النزعة للعنف في عصر باتت فيه الرقابة الجمعيّة أكثر كثافة مع انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ. لكن لنسأل هذا السؤال: هل تتمكّن هذه الأصوات من التغلب على صوت المدافع؟ لأكون واقعيًّا - ومتشائمًا عند البعض- بالطبع لا.

 

الأمكنة المنكوبة موضوعًا لكتاباتنا



 صاحبة «عايدون»، الروائيّة كوثر الجهمي، ترى أنّ لخطاب الكراهية جاذبيّة خاصّة وصخبًا يصمّ الآذان؛ لهذا أشكّ إن كان بإمكان الكتابة وحدها خلق صوت عالٍ في المجتمع، وفي هذا ربّما يقع على الكتّاب (المناهضين للعنف والظلم والحرب) همّ التواصل مع العالم الخارجيّ والخروج من القوقعة التي تميّز أكثرهم، يلزمهم التحالف مع المنظّمات المناهضة للعنف والحرب شرط أن تكون صادقة في توجّهها وغير تابعة لأيديولوجيا صادف أنّ الحرب خلال فترة ما لا تقع في مصلحتها! وهذا -لعمري- أمرٌ صعب؛ ولكنّه غير مستحيل.
وعن تجربتها وهي تكتب عن الأمكنة وآلام وأوجاع الناس وهي تعيش بينهم تحت سماء الحرب الليبيّة، تقول: كيف يمكنني ألّا أكتب عن كلّ هذا وأنا أعيش في قلبه؟! كيف يمكنني التظاهر بتمييز روائح الزهور والأعشاب البرّيّة وسط روائح البارود وحرائق مكبّات القمامة التي باتت سمة من سمات بلاد لا تُصرف ميزانيّاتها إلا على شراء الأسلحة؟! كيف يمكنني تمييز أصوات الطيور وسط أصوات المدافع والصواريخ؟ في الحقيقة باتت حواسُّنا تعمل في غير ما خُلِقتْ له، فنحن مثلًا لا نميّز رائحة اللحم المحترق عن حريق الإطارات في الشوارع، وبتنا نمتاز بالرؤية الليليّة التي تتمتع بها القطط مع اعتيادنا انقطاع الكهرباء، حتّى أطفالنا تميّز آذانهم بالصوت إن كان صاروخ ما منطلقًا من جوارنا أو نازلًا على رؤوسنا.
الأمكنة المنكوبة، أوجاعنا وآلامنا، هي كلّ ما يمكننا الكتابة عنه حاليًّا، ريثما تُشفى الجراح، ونتعلم كيف نحيا ونستخدم حواسنا مجدّدًا كما يفعل بقيّة البشر في سائر العالم، أولئك الذين يخرجون في تظاهرات مطالبة بحقوق الحيوان.
الروائية الليبيّة الشابّة الفائزة بجائزة "مي غصوب للرواية الأولى" عن روايتها «عايدون»، أكّدت أنّ على الكاتب في زمن الحرب، وقبل النطق بأيّ حرف، أن يتحوّل إلى "دكتاتور صغير شريف"، ليسارع إلى تكميم أفواه كُتّاب السلاطين ومؤرّخيهم، عليه أن يسرق محابر خبراء التاريخ والمتحدّثين باسمه، ويجلس بعدها يستنطق الورق، يُسجّل كلّ ما أثار دهشته، حيرته، وغضبه.. عليه ألّا يرحم أحدًا، عليه باختصار أن يكتب للتاريخ، فالفنّ هو الذاكرة الحقيقيّة للشعوب، الفنّ هو التاريخ الذي لا يكتبه لا المنتصر ولا المهزوم، الفنّ هو التاريخ الذي يكتبه الموجوعون والمحرومون فقط تحت أقدام المتصارعين، أيًّا كان المعسكر الذي ينتمون إليه، فالحرب لا بطولة فيها إلّا للمجرمين.
ولكن هل تنقذنا الكتابة من هذه الفوضى والخراب العميم؟ تجيب الجهمي: لن تنقذنا من المساءلة على الأرجح، لن تنقذنا من التهديد بالإقصاء والتكميم، لن تنقذنا من الاتّهام بالخيانة العظمى، بل على العكس، ولكنّها على الأقلّ ستنقذ أرواحنا من مستنقع النفاق، وستنقذنا من الوقوع في فخّ الانضمام إلى جوقة الكراهية الغبية، التي ننسى فيها السجّان ونتبادل فيها نحن -الأسرى- السباب والقذف. وربّما ستنقذنا من فقدان عقولنا.. ما أرجوه وأتأمله، أن تكون كتاباتنا اليوم سببًا في إنقاذ الأجيال القادمة، إن صدقتْ أقلامنا... فحبل الصدق طويل، حبل الصدق سرمديّ.
وعن رؤيتها للأدب كشهادة حيّة عن اللحظة الراهنة، أفادت أنّ الكاتب السارد أو الشاعر هو قلم اللحظة الراهنة، مبالغاته حقيقة، وبلاغته ضرورة، نحن لا نكتب فقط لنتخلّص من عذاب اللحظة الراهنة كحمل تنوء به ظهورنا، نحن نكتب أيضًا للتحذير، نرى الدم قبل أن يراه غيرنا، ونطلق صفارات الإنذار.

 

سردٌ من عمق المآسي



بدوره قال الروائيّ إبراهيم عثمونة إنّ بعض الكُتّاب لا يبدعون إلّا وهم في حالة استرخاء، أولئك هم المحظوظون وأنا لستُ منهم، كُتب علينا الشقاء أيها الأعزاء حين تعتمل الآلام والأوجاع في صدورنا وتُشكّل بيئتنا الخصبة للكتابة، وبقدر عمق المآسي يأتي السرد سهلًا دون عناء، حتّى ليخال لي أحيانًا أنّ ثمّة حركة وزيادة عكسية في سهولة الكتابة كلّما تأزمت قضيتنا. مثلًا، لا أجد اليوم متعة في الكتابة عن علبة الشوكولاتة مهما كانت لذيذة أو عن فريق برشلونة، تلك أشياء مؤجّلة وقد أكتب عنها بوقت لاحق، فالكتابة التي تنقدنا من الفوضى والخراب ليست تلك التي تهرب صوب موضوعات كهذه، لا، والحبر الذي لا يجلد ويعنف أو يؤنب من الداخل هو حبر لا يروق لي.

 

تأريخ الوجع بالقصيدة



رأى الناشر والشاعر محمد المزوغي أنّ الحرب تضع المرء في تجربة مغايرة مع الكتابة، تجربة تتمرّد على الطقوس المعهودة؛ لا يعود للشرفة ولفنجان القهوة معنى. وأردف: في الحرب تكتب نصًّا مغايرًا تمامًا؛ يعبّر عنك، ويعبّر عن الذين يرزحون تحت نيران القصف معك. النصُّ الإبداعيّ الذي يكتب تحت وقع الرصاص نصٌّ إنسانيٌّ بامتياز، كبيرٌ وناضج ومسؤولٌ وقادرٌ على إحداث تغيير. هو نصٌّ حقيقيٌّ؛ لأنّه نتاج شعورٍ حقيقيٍّ، وصادقٍ، لا يرتدي عباءة الآخرين، ولا استعاراتهم، ولا مجازاتهم. هو نصٌّ يقول نفسَه حيث نفسه هنا ذاتٌ جمعيّةٌ تضمُّ المبدعَ ومن حوله ومن يخاطبهم، نصٌّ يملك مهارة أن يتحوّل إلى لسان حالٍ ينأى عن (الأنا) ليكون في خدمة (النحن). من هنا يمكن لهذا الأدب (هذا الأدب فقط) أن يكون شهادة حيّة عن اللحظة الراهنة ومؤرخًا حقيقيًّا للوجع.
يُسجّل صاحب «لا وقت للكره» في شهادته، أنّ الحرب بكلّ تداعياتها الموجعة كنت تتابعها على شاشات التلفاز بعيدًا عنك، فجأة تنتبه لترى أرضك مساحة لأحداثها، وبيتَك هدفًا لقذائفها، وترى نفسك أبًا خُطف ولده، أو قُتل، وتراك تحمل صُرّة فوق كتفك، وتسير ضمنَ رتل من أرتال النازحين، وقد خسرت بيتك ومكتبتك وكلّ ما تملك. هذه الأحداث وأنت تعيشها لا بدّ أن تُحدث في ذاتك الإبداعيّة تغييرًا، وتترك أثرًا بالغًا أقلّه صبغة الصدق التي لا بدّ أن تغتسل بها معانيك قبل أن ترتدي ثيابها اللفظيّة.
المزوغي يروي لنا ما مرَّ به في سنوات الحرب التي عاشها تحت سماء وطنه النازف، قائلًا: سبع سنوات كاملة ونحن نعيش واقع الاغتيالات والخطف والهدم والحرق والصراعات المستمرّة. بالنسبة لي بالرغم من كلّ ما ألحقته الحرب بي من خسائر وفجائع ومواجع كموت أخي بعيدًا عني دون أن أتمكّن من تشييعه إلى مثواه الأخير، ومن قبل موت أمي، وخطف طفلي ذي السنوات الست، وهدم بيتي، وحرق مطبعتي، وأرشيف صحيفتي؛ صحيفة "الكلمة"، ونزوحي في وطني خمس مرّات متتاليّات، بالرغم من كلّ هذا الوجع الذي ألحقته بي الحرب إلّا أنّها منحت لنصوصي قدرًا أكبر من الحياة، ومنحتني مساحة أقرب إلى الإنسان، ولم أتوقّف عن الكتابة مؤمنًا أنّ الكلمة لا تكون إلّا محبّة وأنّ الحبّ هو الأداة الأقوى للتغيير ولمناهضة الظلم والعنف والحرب.

 

الكتابة هي الملاذ



أكّدت الكاتبة والشاعرة خلود الفلاح أنّ قصيدتها لا تملك إلّا التمني وتسعى لعقد مصالحة مع قسوة ممتدّة على مدى عشر سنوات. وتابعت: في مدينتي بنغازي، كتبت ديواني الأخير «نساء» حيث الحرب على أشدّها. كانت الكتابة هي الملاذ. الكتاب كان عبارة عن قصائد مكثفة التفاصيل، عن حالات إنسانيّة لنساء يتحدّثن بحميميّة عن الملل والتقدّم في العمر وعن الخيبات المتواصلة، هنّ لسنّ نساء مهزومات ولكن قويّات ومتفوقات. لم أستطع الخروج من دائرة الخراب، فبيتي لا يبعد كثيرًا عن محاور القتال، صحيح صوت الرصاص توقّف لكنّ آثاره باقية وشعرت بغصّة عندما تجوّلت في تلك الرقعة، ربّما شاهدت تلاشي ذكرياتي إلى رماد. كتبت قصائد بعد ديوان «نساء» وكانت تحمل نفس ثيمة اليأس والخوف من وصولنا لمرحلة التساوي بين الموت والحياة، كلاهما أصدقاء لنا. تعرفت على الحرب من شاشة التلفزيون فقط، ككلّ البشر يؤلمني مشهد الدماء والأصوات المنهكة من الألم، وهنا أذكر ما كتبه إشمائيل بيه في كتابه «الطريق الطويل: يوميّات صبي مجنّد»، حيث قال: "كان الناس الذين يأتون إلى قريتنا هربًا من وحشيّة المتمردين يروون ما يحدث من مشاهد دامية، لم أكن أصدقهم وأحيانًا أقول إنّهم يبالغون ولكن عندما دخل المتمردون قريتي وشاهدت رؤوس البشر في أيديهم والدماء تتساقط منها أدركت بشاعة ما يحدث وحدث"، هنا أتشابه معه في حكاية أن تصلك القذائف العشوائيّة وأنت نائم في سريرك من الأمور العادية، وأن تعيش تجربة أربعة أيّام متواصلة بدون كهرباء حدث عادي جدًا، أن تطبخ النساء الطعام في القرن الواحد والعشرين على الفحم والحطب في ظلّ نقص كبير في أنابيب الغاز فهذا يدخل في إطار المألوف في زمن الحرب التي لا تفرق بين أحد، أن تقع قذيفة بالقرب من بيتك وتخرج للشارع وتشاهد الناس تجري في كلّ اتّجاه فتقول بينك وبين نفسك هذه الحرب اللعينة، وتتعرف على تفاصيل أكثر دقة من أخبار شاشات التليفزيون.
صاحبة «طاولة عند النافذة» تتساءل: "هل سلبتنا الحرب إنسانيتنا؟". وتجيب: قد يأتي يوم أمتنُّ فيه لهذه الحرب لأنّها جعلتني أعيش وسط خرابها المستمرّ أفكر بموضوعي الجديد للجريدة، وأقرأ الكتب، وأكتب القصائد، وأتابع نشرات الأخبار، وأشاهد المسلسلات، وأستمع للأغاني، وأشترى الملابس، وأذهب للكافيه، وأكتشف أنّ هناك دائمًا حياة موازية لكلّ شيء، ولا أدري هل هناك رغبة كبيرة في دواخلنا للحياة رغم كلّ ما يحدث.
وتتساءل الفلاح ثانية: "هل الشعر مُلزم بأن يحقّق الجدوى من كتابته؟". لتجيب: لا، الشعر هو منجزي الخاصّ، الذي سيظلّ يمنحني لحظات سعيدة. وهو وثيقة لمرحلة معينة، نحن مراسلي حرب، ننقل بأعمالنا شواهد الحرب اللعينة التي طالت بيوتنا وأرواح أحبابنا.

 

الأديب هو موثّق المعاناة الإنسانيّة



الشاعر عمر عبد الدائم يرى ردًا عن سؤالنا عن الكتابة حول الأمكنة وآلام وأوجاع الناس، وهو يعيش بينهم تحت سماء الحرب: إذا انطلقنا من فرضيّة أنّ الكاتب أيّا كان إبداعه إنّما يكتب لخلق عالم أجمل على أنقاض عالمه المعاش سواء بالتعبير الكوميديّ أو التراجيديّ، فإنّنا بذلك نقرّ بشكل أو بآخر أنّ للعمل الإبداعيّ علاقة حتميّة بواقع المبدع.
ويؤكّد صاحب «قبضة من حلم»، أنّه لا يمكن أن يكتب المبدع (سواء كان شاعرًا أو قاصًّا أو روائيًّا) بعبثيّة في اللازمان واللامكان حتّى وإن لم يذكر الزمان والمكان في النصّ. وبناء على ذلك تكون الكتابة من داخل واقع المعاناة أكثر صدقًا لأنّ الكاتب حينها يقف على تفاصيل التفاصيل، وبالتالي يمكنه التقاط لحظة دهشة معينة قد تكون البذرة لعمله الأدبيّ، قصيدة، رواية، قصّة، مقالة، أو غيرها.. في رأيي يستطيع المبدع الذي يعيش زمن ومكان الحرب أن يصوّر بدقة الانفعالات والتجاذبات النفسيّة للإنسان في حالات عدّة، سواء كان معتديًّا أم معتَدى عليه، جلادًا أم ضحية، منتصرًا أم مهزومًا.. كما يستطيع الوصول بسهولة لما يترتب على الحرب من آلام جسديّة ونفسيّة، وما يتضرر منها من الطبيعة والبُنى ... إلخ. وبالتالي فقد تكون الحروب التي يعيشها المبدع - بشكل أو بآخر- معينًا لا ينضب ورافدًا مهمًّا لمشروعه الأدبيّ.
عبد الدائم يلامس الوجع الإنسانيّ لذاته وللآخرين عندما يرى أنّ المبدع يجب أن ينحاز لقيم جماليّة، قيم إنسانيّة عليا؛ الحب، السلام، الحرية، العدالة.. إلخ. ويعبّر عن هذا الانحياز لهذه القيم من خلال رؤيته الإبداعيّة الخاصّة. وبذلك فإنّ الأديب الذي "ينجرّ" نحو خطاب الكراهية بأشكاله المتعدّدة يكون أخطأ بوصلته واتّجاهه الذي كان يجب أن يسلكه.
صاحب «بذار الروح» أضاف: التعبير الأصدق يجب أن يكون عن معاناة الأبرياء الذين يكتوون بنيران الحروب، لا عن تبنّي وجهة نظر من أضرموها. بكلّ تأكيد ستتداخل هنا المصطلحات بحسب تموضع كلّ طرف، فتتغيّر المفردات إلى نقيضها أحيانًا.. فمن يكون في هذه الضفة شهيدًا ربّما يكون إرهابيًّا في الضفة الأخرى، وقس على ذلك بقية المفردات كالتحرير والاحتلال والدعم والثورة وغيرها من المفردات التي يسهل قلبها على الجهة التي تناسب المستخدم.
وحول نظرته للأدب كشهادة حيّة عن اللحظة الراهنة، قال: إذا كان الصحافيّ هو مؤرّخ اللحظة (كما ذكر ألبير كامو) فإنّ الأديب هو موثّق المعاناة الإنسانيّة في كلّ الأزمان. والكاتب (الإبداعيّ لا الصحافيّ) لا يكتب للتأثير الفوريّ كما أنّه لا يتعمّد، في معظم الأحيان، أن يكون مؤثّرًا في مجتمعه أصلًا. هو يكتب لإشباع رغبة مُلحّة بداخله وحينها تكون نفسيّته وقراءاته وموروثه الأدبيّ والفكريّ والاجتماعيّ كلّها حاضرة وقد استدعاها لا وعيُه. الفنّ رسالة، والرسالة تنقل الخبر، ولكنّها قد تمثّل طلبًا أو أمرًا بشيء ما يتطلب التغيير. بالتأكيد لن يكون التغيير (في رسالة الفنّ) فوريًّا أو حتّى على المدى القريب، ولكن ما من شكّ في أنّ الكلمات لا تذهب سدًى، ولا بدّ أن تؤتي أكلها ولو بعد حين، وقد يكون هذا الحين بعد زمن كاتبها بوقت طويل. كما أنّ من يلتقط هذه الرسالة الخفيّة للمبدع قد يكون شخصًا آخر بعيدًا جدًا مكانيًّا وزمانيًّا عن مكان وزمان كاتبها.

 

البحث عن حياة جديدة




احتدم الوضع ولم يعد ما يحدث مفهومًا، ما بدأ بمثابة شفاء للبلاد تحوّل إلى مرض مستعصٍ- هذا ما يقوله صاحب «المكتباتي» القاصّ والروائيّ شكري الميدي أجي.
ويضيف: شاهدتُ طائرات تقصف أحياء سكنيّة ثمّ تهوي، كتائب تنطلق لتهاجم مدنًا ثمّ تباد. رأيتُ مقاتلين في لثام كامل، وهم يحملون قاذفات "الهاون" ويزحفون عبر الأحياء باتّجاه معسكرات تنتظر الدك. كنتُ بدأتُ كتابة «توقّف نمو» التي تدور أحداثها في منطقة ستتحوّل خلال أشهر إلى مدينة أشباح، سيختفي جميع سكانها. وجوه حفظتُها على مدى عشر سنوات، تلاشتْ. ذبحوا بأيدي من تربوا معهم. خانوا الجار وهتكوا العرض. "من هجموا داري هم من أقاموا أفراحهم فيه".. سيدة مسنّة تبكي: "كلّ منهم أخرج عرسه من بيتي الذي أحرقوه". الحرب تُفقد المرء ذاته، تحيله إلى ذكريات بلا أمل، أسرى الخوف.
يتابع صاحب «أسلوبُ جَدّيِ» سرد بعض القصص التي عايشها تحت سماء حرب الأخوة الأعداء الذين يطحنون بعضهم بعضًا، قبل أن تتناهشهم الضباع التي باتوا يتصارعون على شرعيّة التضرع لإدخالها لغرف نومهم، فيروي لنا: عند الساعة الثانية فجرًا أبدأ الشعور بالقلق. قال شابّ يحكي لي تجربته مع الخطف، حتّى بعد تحريره يعود كلّ فجر إلى أسيره، ويبدأ المقاومة. حين سمعت تجربته، أدركتُ أنّها تجربتي الأولى مع الحرب، قبل ذلك كانتْ الحرب بمثابة قتل وتشريد. في حالات الاختطاف تأخذ الحروب وجهًا مختلفًا، فهي لا تغادر جسد الضحية، الحرب حيّة فيه. المُخْتطف شاهد على أبشع لحظاتها، ويشبه مقاتلًا يعود بعد مقتله، يحمل جراحه معه، مذهولًا من هول التجربة. وأردف: أخبرني في واحدة من تسجيلاته: "الإنسان لا قيمة له، يمكن أن يُقتل في أيّة لحظة ولن يوقف أحد هذا".
لا تنتهي قصص الليبيّين التي احتفظ بها السارد في ذاكرته ليرويها لمن سينجو من وحشيّة الحرب التي ما زالت تدور رحاها منذ نيف وعام. فيخبرنا أنّه كلّ ليلة يستمع لعشرات القصص عن تجارب أناس يعرفهم مع الحرب. كاشفًا: أنجزتُ نصًّا من 120,000 كلمة ولا زلتُ أشعر بالعجز والتيه، غير قادر على نقل بشاعة تلك التجارب الهائلة.
الميدي أجي أضاف: حادثتني سيدة، وأخبرتني أنّ قومي قتلوا عزيزًا عليها، وأنّها تريد التعرف على أحد منا وتحاوره، لتجد فيه شيئًا يمنعها عن الكراهية. إن أغرب "علاج روحي" سمعتُ عنه، إيجاد مانع للكراهية عند العدو. وتابع قائلًا: سمعتُ قصّة هندوسي طلب وسيلة لراحة ضميره المعذب بسبب قتله لطفل مسلم، فأمره غاندي "أن يربي" طفلًا مسلمًا وبالطريقة الإسلاميّة، وفي قصّة «مصير إنسان» يمنح شولوخوف بطله بداية جديدة: بعد أن شهد أهوال الحرب، عليه أن يتبنى طفلًا، ليتخلص من ويلات العنف. فهل هذا هو جوهر الكتابة عن الحرب؛ البحث عن حياة جديدة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.