}

الكاريكاتير العربي بين الصوت وكاتم الصوت

دارين حوماني دارين حوماني 27 سبتمبر 2020
هنا/الآن الكاريكاتير العربي بين الصوت وكاتم الصوت
لبنان: دعاء العدل(مصر)، رشيد الرحموني(تونس)، عماد حجاج(الأردن)، ناجي العلي(فلسطين)
يحضر اسم ناجي العلي كلما هززنا الرسوم الكاريكاتيرية العربية، ستقع خلفيّات رسوماته بين أيدينا وسيسقط حنظلة على الأرض في عالم عربي ينبّه مبدعيه دومًا من مغبّة الكلام بصوت عال، لم يعد ثمة قماشة صالحة للرسم ولا جريدة ورقية تشجّع على فعل النقد السياسي، فرسّام الكاريكاتير متهمّ حتى إثبات العكس، مهدّد حتى نَفَسه الفني الأخير، تقتفي السلطات ما يتساقط من أصابعه، وهو يبتعد، في منأى عن الريح، وكلما ابتعد لا تعود الرسومات نفسها فهي تغرّد بلا صوت وتقول الأشياء بدون نبض.

خلال شهر آب/ أغسطس الفائت تم توقيف رسام الكاريكاتير الأردني عماد حجّاج لأيام أمام "محكمة أمن الدولة" في عمّان بتهمة "تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة" إثر رسم كاريكاتيري نشره على مواقع التواصل الاجتماعي عقب توقيع الإمارات العربية إتفاق التطبيع مع إسرائيل، سخر فيه من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد بعد طلب تل أبيب من الولايات المتحدة عدم بيع أبو ظبي طائرات "إف-35" العسكرية. لكن توقيف حجاج لم يكن العمل المحزن الأول الذي يتعرّض فيه رسّامو الكاريكاتير في العالم العربي إلى الملاحقة، سبقه آخرون، ففي عام 2019 تم اعتقال عبد الحليم ياسر من قبل السلطات العراقية لرسوماته الكاريكاتيرية الساخرة، وفي عام 2016 أوقفت الشرطة المصرية إسلام جاويش بتهمة السخرية في رسوماته من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وفي عام 2012 اعتقلت السلطات السورية أكرم رسلان بسبب رسوماته الجريئة، وقد توفي في السجن في عام 2015 بعد أن تدهورت حالته الصحية، وكان علي فرزات قد تعرّض للاعتداء في عام 2011 من قبل مجهولين لرسوماته الانتقادية السياسية وكسروا أصابع يديه مردّدين: "سنكسر أصابعك التي ترسم بها"، وفي عام 2009 اعتقلت الأجهزة الأمنية العراقية سلمان عبد السعداوي بتهمة أنه تجاوز حرية التعبير في رسوماته. لن نضيف أسماءً أخرى أوقفت واعتُقلت وماتت تحت التعذيب، فالقائمة العربية تطول، إنه عالم لغته ليست عربية، حروفه مؤلّفة من عنف لاإنساني متفرّد بين الأجناس البشرية على سطح هذا الكوكب.
في مكان آخر، في فرنسا، في عام 2015 اقتحم رجلان مسلّحان مكاتب المجلة الفرنسية الساخرة "شارلي إبدو" وقتلا ثمانية صحافيين إثر نشر الصحيفة صورة كاريكاتيرية مسيئة للإسلام، وعادت هذه المجلة نفسها إلى صدارة الأحداث في الأيام القليلة الماضية على الخلفية ذاتها.
وبغضّ النظر عن الفكرة أو المادّة التي يعملون عليها فإن كل هذه الأعمال التي يواجه فيها العالم العربي نفسه تعكس ما يواجهه رسامو الكاريكاتير وأنهم معرّضون لأشكال عديدة من المخاطر منها السجن أو الاضطرار إلى الاختباء أو التهديد بملاحقات قضائية أو القتل.  



في عالم آخر غير عربي يتمّ تجريب أساليب أخرى مع رسام الكاريكاتير السياسي الساخر، ففي تموز/ يوليو 2019 طُرد رسام الكاريكاتير الكندي مايكل دي أدير من صحيفة نيو برونزويك New Brunswick التي كان يعمل فيها بعد رسمه كاريكاتيرًا للرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يلعب الغولف بالقرب من مهاجر غير شرعي وابنته قضيا غرقًا في نهر ريو غراند، وقد كُتب في الرسم على لسان ترامب: "هل تمانعان في أن ألعب بينكما؟". وفي نيسان/ أبريل من العام نفسه قدّمت نيويورك تايمز اعتذارًا عن رسم كاريكاتيري صوّر ترامب وهو يرتدي نظارّة شمسية توحي بفقدانه النظر ويمسك رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بيده وقد صُوّر نتنياهو بهيئة كلب تحيط عنقه نجمة داوود، وقالت الصحيفة في اعتذارها إنها ستوقف الرسامين اللذين نفذّا الرسم الكاريكاتيري.



وجع فن الكاريكاتير
عن نقد الكاريكاتير السياسي كان لنا هذا التحقيق مع عدد من رسّامي الكاريكاتير، يحكي كلّ منهم عن وجع فن الكاريكاتير من المكان نفسه الذي يدفن فيه رسوماته وإبداعاته لتصير غبارًا في عالم عربي يُراد له أن يكون صامتًا مفتوحًا على الموت. عماد حجّاج من الأردن، عبد الحليم حمود من لبنان، رائد خليل من سورية، سمير عبد الغني من مصر، توفيق الوطني وعبد الغني الدهدوه من المغرب، بشير بن عزّة من الجزائر، ورشيد الرحموني من تونس. تساءلنا معهم عن واقع الكاريكاتير في العالم العربي، وهل يملك الجرأة الكافية للنقد السياسي؟ بمعنى آخر ما هي العقبات التي تواجهه وتضيّق عليه مساحة الحرية؟ وهل يعمل على تجنّب الاحتكاك مع السلطة؟



ضيق مساحات النشر

من رسمات عماد حجاج  





















يخبرنا عماد حجاج عن الكاريكاتير العربي الذي يعيش ظرفًا استثنائيًا وحرجًا في هذه الأوقات، فيقول: "فن الشعب صار يعاني ضيق مساحات النشر مع أزمة الصحافة الورقية في معظم البلدان العربية ومع تكالب الخطوط الحمراء وشتّى أنواع الرقابة الرسمية والمجتمعية عليه. ويعاني أيضًا غياب الرعاية الرسمية له عكس أنواع الفنون الأخرى لأنه فن مشاكس معاكس للسلطة. هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك قمع رسامي الكاريكاتير العرب المستمرّ بشتّى أنواع البطش". ويضيف عن أهمية مواقع التواصل الاجتماعي: "رغم ذلك ما زالت عند رسامي الكاريكاتير العرب الجرأة للنقد السياسي، وما زال الكثيرون منهم وعبر منصّات التواصل الاجتماعي، باعتبارها حصن الكاريكاتير الأخير، يبدعون في نقد واقعنا السياسي السيء، طبعًا هناك قوانين الجرائم الإلكترونية وجيوش الذباب الإلكتروني التي تحاول قمع هذه الحرية التي ما زالت متاحة للرسامين، من خلال إعادتنا عقودًا الى الوراء، بحيث يحشر الكاريكاتير في زاوية النقد الاجتماعي البريء أو الكاريكاتير الرياضي والاقتصادي، وهذا ما نرفضه كرسّامي كاريكاتير، من أبسط حقوقنا الانسانية هو حقّنا في نقد واقعنا من خلال رسومنا".
يشعر عماد حجّاج بالأسف لواقع الفن الكاريكاتيري وما يلاحقه: "العقوبات كثيرة والسيوف المُصلتة على رقاب الرسّامين أيضًا كَثُرت، على غرار إغلاق أبواب الصحف أمام الرسامين، ووضع القوانين التي تشمل الكاريكاتير كفعل جرمي، والتنمّر عليهم في منصّات التواصل الاجتماعي من خلال الذباب المسيّر وغير المسيّر، وملاحقة الرسامين المعارضين أو المختلفين سياسيًا في أرزاقهم والزجّ بهم السجون، والقائمة تطول".
يقول لنا حجاج في نهاية حديثه وفي قلبه الكثير ليقوله: "الرسام الحقيقي لا يهادن ولا يتنازل عن مواقفه ومبادئ فنه، قد يحاصر ويضطّر للمناورة والانحناء للريح قليلًا لكنه في الآخر لا ينكسر". 
وجهة نظر عبد الحليم حمود لا تختلف عن وجهة نظر عماد حجاج.

رسمان كاريكاتيريان للفنان السوري رائد خليل وللفنان التونسي رشيد الرحموني


















بعد موجة الربيع العربي الذي فشل في ضخّ دماء جديدة في الحياة السياسية العربية، باستثناء تجربة يتيمة في تونس، ارتدّ الوضع
بشكل كبير في العالم العربي، واستعادت السلطوية زمام الأمور،
وتمّ الإجهاز على كل أشكال المعارضة السياسية


"أدّت وسائل التواصل الاجتماعي إلى إحداث انفجارات في آلاف المفاهيم، فنسفت بعضها، وخلخلت بعضها الآخر"، يقول عبد الحليم حمود الذي يثمّن دور هذه الوسائل في منح فنان الكاريكاتير ما كان يحتاجه في غياب الصحافة الورقية تدريجيًا، ويتابع: "لقد استفادت الحرية كمفهوم من هذا الدويّ، فتفتّحت المقالات والقصائد والروايات وباقي الفنون، وعلى رأسها فن الكاريكاتير المتصّل مباشرة بمفهوم الحرية حيث تنخفض الشروط الجمالية التقنية لصالح اتّساع مفهوم الجرأة المسنّنة. من هنا، أربط فعل التغيير في الفضاء التعبيري، بالجانب التقني المتمثّل بوجود حواسيب وهواتف في البيوت، وفتح الأثير لخلق أرضية تواصل افتراضية أعادت تشكيل الوعي والمفاهيم، وبعضها سلبي والآخر ايجابي"، لكن الكاريكاتير سيكون له ارتباطات أخرى قد لا يتمكّن من الخروج منها.
يرى عبد الحليم حمود أن "الكاريكاتير بصورته الرسمية المتصّلة بالصحيفة والمجلة والموقع الإلكتروني الرسمي لا يزال في دائرة خط الجريدة وخط الدولة وخط المحور. هنا ثمة سياق مختلف، له ارتباطات مباشرة بالمصلحة والسياسات العامة للجهات المموّلة، وهنا، وإن لمسنا الحرية بكامل فجاجتها، فهي لعبة خادعة تستبطن وجهًا من وجوه الحرية، حيث سنلحظ أنها موجّهة باتجاه فئة ثانية وليست موسّعة لنقد وتشريح كل الظواهر السلبية. وهناك خطورة في هكذا نوع من الحريات بحيث يخفي الجزء المشوّه من وجه له مآرب وأهداف، وهو ما يخدع الرأي العام المتابع".
إن رسام الكاريكاتير ليس قدّيسًا برأي عبد الحليم حمود "فهو جزء من حالة غضب ونقد وأيديولوجيا عامة، يصيب ويخطئ، لذلك تبقى حريته (إن وجدت) حرية بين مزدوجين، ولا نستطيع وصفها بالطهرانية ولا نعتها بالتوصيفات المسيئة. القانون وسّع دائرة الحريات، واستفاد الكاريكاتير من تلك المتغيّرات، لكننا في البلاد العربية، لا نزال ندور في الدوّامة الحمقاء التي تجعجع ولا تطحن. إياك والكرسي الأكبر، فهو منزّه عن النقد، مُختار من السماء. مفاهيم لا تزال سارية في القرن الواحد والعشرين، بكل ما في الأمر من سخرية سوداء جوفاء!". ويضيف حمود منهيًا حديثه لنا: "في عالم الكاريكاتير أكاد لا أقدّر سوى ناجي العلي الذي مارس حريّته النابعة من جوهر قناعته، ولم تضل بوصلته".

رسمان كاريكاتيريان للفنان المصري سمير عبد الغني  




















"جلس والخوف بعينيه"
من جهته يضع رائد خليل عنوانًا للكاريكاتير العربي "جلس والخوف بعينيه"، يقول: "المجال العربي فرضَ مناخًا خصبًا للتعبير، لكن فقط هنا، الأقلام تتصارع، نرسم الخط الأحمر ولا نحدّد تضاريس الوجود، ودرجات اللون بلا بريق في زمن الامتداد الصفراوي. أقلام وأقلام، والتسمية تختلف.. رقص على إيقاع المال والاتجاهات، وواقع لا يعرف سوى الانحناء! فقط هنا، الساحة مؤطّرة، مسيّجة، تابوهات هناك، وثالوث لا يمكن الاقتراب والتصوير منه، ومازورة تحكم على طول الشخص وعرض أفقه، ويمنح صاحبها (المختار) شهادة حسن سلوك فنّي، وإن كان راضيًا عنك، أقمتَ في ربوع أسلوبه وألوانه ونمطيته، وما زال حضور "سرير بروكست" الكاريكاتيري طاغيًا!".
ويرى خليل أن ثمة أباطرة للتحرير والمانشيت العريض، "إنّ القصة البطولية لرسام الكاريكاتير، تبدأ من المحاولات الرائعة التي ينتقد فيها أصحاب النفوذ سلاحه الصغير. فكل شخص يصبح ناقدًا عندما تمارس عليه الضغوط بالقوة لقبول أحكام السلطات، علمًا أن القبول الطوعي يستلزم اقتناع الناس، وهنا أستحضر قول نيتشه: "الآلام المديدة والطويلة تربّي الطاغية في الإنسان". تبقى علاقة رسام الكاريكاتير بالسلطات معقدة جدًا، وقد عبّر عن كرهه الشديد لحالة الاستبداد والقمع سرًا وعلانية، فحالته النقدية، حالة إنسانية تخلو من الشوائب والتعقيدات، وهو يحبّذ القتال ضد الشرّ، فلا يهاجم لمجرد الهجوم، بل على العكس هدفه أسمى وأرقى، وهو القادر على أن يفهم ويمسك بالجوهر الراسخ، غير القابل للتغيير، وبالتالي لا يكفي أن تتوفّر عناصر نجاح اللعبة، ولكن يتعيّن معرفة كيفية اللعب. ولكن لا بد من أن نشير إلى رسامين تخلّوا عن مفاهيم الفن الأخلاقية والإنسانية، وذلك بالغوص في مستنقع الإلغاء العفن، وتمييع المعتقدات بما يناسب حالة التلطّي خلف أردية الحقد والضغينة. إذًا، هو واقع يجهش بالبكاء، ويخلق حالة عدوانية (سيكوباتية) تفرض نفسها على إيقاع التلقي وحالة فصام (شيزوفرينيا) معرفية على سكةٍ قطارها فقد بصيرته. وفنان الكاريكاتير العربي لم يعزّز وجوده وسلطته، بل على العكس جرفه تيار الأنا، وفقد البارومتر الذي تقاس به درجات الظلم والاضطهاد، ومنهم من نفخ في غير ضرم! و"ديكارتيّة" الحال تقول "أنا أفكّر، إذًا، أنا موجوع!".
المشكلة برأي خليل هي في تأثير التعليب الممنهج بسبب الانحياز العاطفي والاصطفاف السياسي الذي وصل البلّ فيه إلى الذقن الثقافي، والواقع المهني، أو ممّن يعرفون حق المعرفة كيف تُعجن الأمور في مطابخ الصحافة، لن يفاجئه أيُّ قرار يصدر. ويتساءل خليل أخيرًا: "هل سيبقى الكاريكاتير العربي يتأمل الفنجان المقلوب..؟!".

 من أعمال الفنان المغربي عبد الغني الدهدوه 




















"سيموت الكاريكاتير عندما يكون هناك رأيٌ واحد"!
يرى سمير عبد الغني أننا نعيش أسوأ الفترات، "الكاريكاتير واضح كالسيف ونحن نعيش عصرًا ضبابيًا اختلط فيه الحق بالزيف، وأصبح المطبّعون أسياد الموقف واشترى الفسدة كل المواقع، فلم يعد للكاريكاتير مكان بالصحف والمجلات والمواقع، وأصبح البطل يغرّد على صفحات الفيسبوك. الحرية تعني أن هناك رأيًا وأن هناك رأيًا آخر، سيموت الكاريكاتير عندما يكون هناك رأيٌ واحد، وجهة واحدة متسلّطة تريد حوارًا من طرف واحد. نحن نعيش جميعًا كرسّامي كاريكاتير في لحظة ما قبل موت ناجي العلي، نشعر أن هناك من يتربّص بنا ويريد كتم أصواتنا، نحن فى انتظار طلقة الرحمة". ويحكي عبد الغني بحزن مرير: "الكثير من الرسامين ممنوعون من التعبير بشكل حقيقي وفاعل، والمواطن البسيط لا يجد من يدافع عن حقّه فى الحياة. كنت أقوم بعمل ورش فنية ودورات لتعليم فن الكاريكاتير، الآن أشعر بالخجل وسط الطلبة وأنا أكلّمهم عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تلك باتت كلمات جوفاء وشعارات، الحقيقة على أرض الواقع صادمة وأموال البترو دولار أصبحت تلعب من أجل مصلحتها فى البقاء، لكن كما قلت، نحن لا زلنا نغرّد على صفحاتنا ونحاول تغيير العالم".
تبدو علاقة الكاريكاتير بالسلطة في وطننا العربي محكومة بالتصادم برأي توفيق الوطني، والأمثلة على ذلك كثيرة.

رسامو الكاريكاتير في العالم العربي يتفقون حاليًا على أن عليهم
المضي بعيدًا كي يجدوا الهواء اللازم للتنفّس، فلا يمكن دائمًا 
إخفاء ما يؤلم بلادنا وما يُضحكها على أحوالها، ولا يمكن
إخفاء الضوء والظلّ في الرسم الكاريكاتيري وتحويله إلى
سطح فارغ بلا معنى لإرضاء كائنات عربية
وحشية متّفقة على العتمة.


يقول الوطني "آخرها اعتقال الفنان عماد حجاج بسبب رسم كاريكاتيري تناول تطبيع الإمارات مع إسرائيل. فالكاريكاتير فن عصيّ على الترويض، ويبقى الحلّ في نظر السلطة هو استخدام ورقة الاعتقال وربما التصفية الجسدية في وجه كل من يتجاوز الخطوط الحمراء التي لا تنتهي". ويرى الوطني أنه قبل سنوات كان رسام الكاريكاتير العربي يلجأ إلى بعض الحيل كي يتجنّب بطش السلطة، ومن هذه الحيل أن يوجّه ريشته صوب قضية فلسطين والقضايا الدولية، بعيدًا عن قضايا بلده السياسية والاجتماعية، لكن هذه النافذة أُقفلت الآن وأصبح رسام الكاريكاتير العربي محشورًا في زاوية ضيّقة لن يتحرّر منها إلا بتغير الواقع العربي سياسيًا وحقوقيًا نحو الأفضل.
ويشبّه الوطني ما يحصل في الوطن العربي بالمثل المغربي: "شكون يقدر يقول للسبع فمك خانز"، "أي: من يستطيع أن يواجه الأسد ويقول له: رائحة فمك كريهة. قدر رسام الكاريكاتير أن يقولها، وقدره أن يدفع الثمن من حريّته في مقابل قولها سواء لأسد بلده أو لأسود الجيران".

 رسمان كاريكاتيريان للفنان المغربي عبد الغني الدهدوه (يمين) وللفنان الجزائري بشير بن عزة




















يجيب عبد الغني الدهدوه على أسئلتنا بسؤال: "بدايةً يجدر بنا أن نتساءل، هل توجد حياة سياسية طبيعية في البلدان العربية اليوم يُسمح من خلالها للإعلام بالتواجد والتعبير عن نفسه، والقيام بدوره الطبيعي، ومن ثم تمنح للفن الكاريكاتيري الذي يعدّ فنًّا ناقدًا ومشاغبًا وساخرًا تلك المساحة من الحرية المطلوبة كي يمارس مهامه؟".
يعتقد الدهدوه أنه بعد موجة الربيع العربي الذي فشل في ضخّ دماء جديدة في الحياة السياسية العربية، باستثناء تجربة يتيمة في تونس، ارتدّ الوضع بشكل كبير في العالم العربي، واستعادت السلطوية زمام الأمور، وتمّ الإجهاز على كل أشكال المعارضة السياسية. ويرى الدهدوه أنه خلال الربيع العربي برزت في الساحة الإعلامية إلى جانب الكاريكاتير التقليدي المعروف، تعبيرات أخرى في السخرية السياسية ومنها برنامج "البرنامج" لباسم يوسف و"الدمى السياسية المتحركة" في تونس ولكن سرعان ما تمّ التخلّص منها لاحقًا بعد عودة السلطوية، وتضرّر جرّاء ذلك قطاع الإعلام الذي وجد نفسه وجهًا لوجه مع سلطة تريد استعادة هيمنتها المطلقة وفرض صوتها وحيدًا في الساحة، ويضيف "هنا أصبح فن الكاريكاتير منزوع الأنياب، صحيح نحن اليوم نعيش على إيقاع ثورة رقمية غيّرت الكثير من المعطيات والأوضاع على الأرض ومنحت الرسامين منفذًا لتمرير رسائلهم الساخرة، لكن ذلك يحدث أمام أنظار السلطات العربية وتحت مراقبتها".
وينتهي الدهدوه حزينًا: "على المستوى العالمي، شكّل صعود اليمين هنا وهناك دعمًا معنويًا كبيرًا للسلطوية العربية، وخفتت الأصوات المنادية بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي نتج عنه وضعنا الحالي البالغ الهشاشة. باختصار شديد، إن رسام الكاريكاتير العربي لا يرسم اليوم سوى أنصاف الحقائق".




"يريدون رسومات منمّقة تزيّن سياستهم"!
المشهد نفسه يراه رشيد الرحموني: "واقع الكاريكاتير في الوطن العربي مهم من حيث المدارس ومن حيث الانتاج والتنوّع، لدينا كاريكاتيريون من طينة رفيعة يمتلكون مهارات وريشة ناقدة لاذعة"، لكنه يضيف: "لكن من حيث التعبير والجرأة في الرسومات وخاصة السياسية منها فإنها تشكّل تهديدًا لرسام الكاريكاتير". يؤكّد الرحموني أن الحاكم العربي لا يريد أن يرى نفسه في صورة ساخرة ناقدة لأنها تعرّي حقيقته وحقيقة نظامه؛ "يريدون الرسومات المنمّقة والتي تزيّن سياستهم". ويستشهد الرحموني بما حصل مؤخّرًا مع حجاج: "أذكر ما حصل مؤخّرًا مع الرسام الأردني عماد حجاج، فقد دخل السجن بسبب رسمه لنقد السلطة، وهذا أمر محيّر، فنان يعتقل بسب رأيه لأنه عرّى الحقيقة، وهذا لا يتماشى مع من يتشدّقون بحرية التعبير في الوطن العربي. نحن في الدول العربية نتجنّب دائمًا رسم الحاكم ودائرتهم، فإن رسمنا فلنا الرقابة الذاتية، وكذلك صنصرة العرف، فلكل جريدة حكمها التحريري وتخدم أجندات معيّنة وأحزاب معيّنة وكذلك أشخاص معيّنين. أحيانًا عندما أرسم أتوقف عن متابعة الرسم أو أمزّقه، ثمة رسومات تحمل معاني متعدّدة وتختلف قراءتها من شخص لآخر ويعود ذلك لقدرة المتلّقي على فهم الرسم وفكّ رموزه، ويحمل الرسم دلالات وإشارات ربما تُفهم خطأ من قبل السلطة فتُسبّب مشكلة لصاحب الرسم".

 من أعمال الفنان التونسي رشيد الرحموني 





















بدوره يعتبر بشير بن عزّة أن فن الكاريكاتير العربي تأثّر بشكل كبير بالضفة الأخرى، أي الغرب، حث يحظى فن الكاريكاتير بنسبة حرية مطلقة يستباح فيها المحظور، أما عربيًا فإن هذا الفن يصطدم بضوابط اجتماعية مما يجعله لا يسير على خط مفهوم الكاريكاتير الذي يطرق كل الأبواب بنفس جرأة الآخر الغربي. يرى بن عزّة أن فنان الكاريكاتير العربي أصبح يتنفّس في رسمه بالنكتة في معالجة همومه اليومية مخاطبًا البسطاء قبل النخبة، ويضيف: "ولكن نظرًا لأولويات القضايا وتسارع الأحداث العالمية وجد فنان الكاريكاتير في عالمنا الافتراضي أن عليه التطرّق للقضايا المصيرية والعالقة، كقضية فلسطين، القضية الأم، والعنصرية، وزاد عنها الربيع العربي الذي تاه فيه الفنان بين مؤيّد ومعارض مغتنمًا الفضاء الأزرق لإثبات وجوده كفنان، لكن اختلاف تركيبة المجتمع العربي تجعل منه يختلف في معالجة قضاياه الداخلية باختلافها فالمجتمع أحيانًا يفرض عليك مخاطبته بما يشتهي".

*****
في مقالاته عن الفن يُحيّي بودلير رسامي الكاريكاتير، يقول إنهم أولئك الذين يسخرون برسوماتهم من الشخصيات السياسية التي تخدع الشعب المسكين وتستغلّه. ويحمّل ناجي العلي الكاريكاتير مهمة تعرية الحياة بكل معنى الكلمة: "الكاريكاتير ينشر الحياة دائمًا على الحبال وفي الهواء الطلق وفي الشوارع، إنه يقبض على الحياة أينما وجدها لينقلها إلى أسطح الدنيا حيث لا مجال لترميم فجواتها ولا مجال لتستير عوراتها"، لكن يتفق رسامو الكاريكاتير في العالم العربي حاليًا على أن عليهم المضي بعيدًا كي يجدوا الهواء اللازم للتنفّس، فلا يمكن دائمًا إخفاء ما يؤلم بلادنا وما يُضحكها على أحوالها، ولا يمكن إخفاء الضوء والظلّ في الرسم الكاريكاتيري وتحويله إلى سطح فارغ بلا معنى لإرضاء كائنات عربية وحشية متّفقة على العتمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.