}

رحيل خالد الصديق.. تاريخ العنف والرعب الصادر من البحر

أنور محمد 17 أكتوبر 2021
هنا/الآن رحيل خالد الصديق.. تاريخ العنف والرعب الصادر من البحر
المخرج الكويتي الراحل خالد الصديق (1945 ـ 2021)


في مشروعه السينمائي، يزيح المخرج الكويتي خالد الصديق (1945 ـ 2021) الظلال الفلسفية عن حياة أبناء الخليج، حين كان صيد اللؤلؤ هو المنجم الذهبي الذي يعتاشون عليه قبل ظهور النفط، وكَمْ كانت هذه الظلال تحجبُ تلك التراجيديا التي تخفي قهرًا وبؤسًا اقتصاديًا واجتماعيًا ـ حضاريًا. في فيلمه، "بس يا بحر" (1972) أو كفى يا بحر، أو ليس معقولًا يا بحر، أو حتى أنتَ يا بحر، دراما فولاذية، خلق صورة سينمائية خليجية شرَّحت المشاعر والأحاسيس الإنسانية حين تقهرها الطبيعة.
خالد الصديق قدَّم للسينما العربية عددًا من الأعمال، منها: "المطرود" (1964)، "الصقر"، "الرحلة الأخيرة"، "وجوه الليل"، "عرس الزين" عن رواية للطيب صالح (1976)، و"شاهين" (1986).
في فيلمه، "بس يا بحر"، بالأبيض والأسود، تأليف وحوار عبد الرحمن الصالح، تمثيل: محمد المنصور في دور صياد لؤلؤ (مساعد)، أمل باقر في دور محبوبة مساعد نورا، حياة الفهد في دور الأم، سعد الفرج، أحمد الصالح، علي المفيدي، حقق الصديق عددًا من الجوائز العربية والعالمية، وأصاب شهرة كواحد من مبدعي السينما، أرانا فيه (جسد) الدراما؛ الصوت والصورة، الفعل والانفعال، الصراعات النفسية والعُصابية في كفاح الإنسان من أجل حياة كريمة. فما قبل النفط، وهذا ما أراد أن يصوِّره، ليس كما بعد النفط. فالروح، روح الإنسان الخليجي في تلك المرحلة التاريخية، كانت روحًا مأساوية تُجادل عن حريَّتها؛ تجادلُ الطبيعة، تُجادلُ مَنْ لا يَعْقِلْ، تُجادلُ البحر. وفي جَدله وجِداله طول زمن الفيلم (100 دقيقة)، كان خالد الصديق يدفعُ ويدافعُ عن كرامة الإنسان حين يحصِّل لقمة عيشه بعرق جبينه. فمساعد الذي أدَّى دوره محمد المنصور، كما بقية الممثلين، لا يرمون بأجسادهم طعامًا لأسماك القرش، كأنَّهم أرواح "مازوخية" في درب الآلام، بل إمَّا الصيد ـ واللؤلؤ، وإمَّا الموت، مّنْ يقهر مّنْ؟ لأنَّ اقتصاد الأسرة في المجتمع الخليجي كان يقوم على الصيد. وهذا في رأيي ما دفع خالد الصديق لأن يجسٍّد سينمائيًا تاريخ العنف والرعب الذي يصدر عن البحر، فرأينا فعلًا تلك القوَّة التصادمية الطليعية بين الإنسان والبحر، رأينا دراما (وثائقية) شعبية فلسفية عن كفاح الإنسان الخليجي، وبكثير من القوَّة الاستعراضية لصورة سينمائية فيها تجسيد لصورة الطبيعة حين ترضى، وحين تغضب، وحين يقاومها الإنسان؛ إمَّا.. وإمَّا.




خالد الصديق في فيلمه "بس يا بحر" أقام صدامًا بين الوجود المرئي للبحر، والآخر غير المرئي، فشاهدنا مراسم وطقوسًا لأبطال من البشر، وربَّما من الجن؛ تشويقًا وحبس أنفاس، وشخوصًا في أدوارٍ تراجيدية ملحمية، وبأداء ممثلين ذوي طابع تغريبي، وإن كان شبيهًا بالواقع، أو إدهاشي، وفي لَعِبٍ على المكشوف، كاشفًا أسرار الحياة الاجتماعية وبُنيتها الأسطورية بوعي سياسي لمثقَّفٍ نخبوي.
صورٌ، وإن من كلامٍ، لَعِبَت دورًا جوهريًا في تنامي الصراع في الفيلم، لكنَّ المخرج أرانا فيه المُمثِّلَ؛ ذاك الإنسانُ الذي يستخدم جسده أجزاءً وأطرافًا، للتعبير عن حزنه وفرحه، وهو يحرِّكه فوق الماء، وتحت الماء، ليكشف عن قانون الصراع الذي يحكم الحياة، صورة عملاقة للخيالي وهو يختلط بالواقعي، وكأنَّ المُخرج يقترح أساطير، يخلق أبطالًا مغامرين يعيشون في شروط نفسية واجتماعية وجمالية مع الواقع الذي تغيَّر نهائيًا اليوم؛ يوم ما بعد النفط. الفيلم وهو ما سعى إلى تحقيقه الصديق يقيم انقلابًا جماليًا في السينما العربية، انقلابًا يتجاوز الجمالي في اتجاه الواقعي، كما في اتجاه الخيالي. فمساعد ووالده وبقية البحَّارة يتصارعون مع الطبيعة/ البحر وهم يمارسون الحرية الأنثروبولوجية وليس السياسية، فلا قانون غير قانون القوَّة، ولكن في إطار الشرط الإنساني.



طبعًا، رحلتهم التي تستغرق أربعة أشهر لصيد اللؤلؤ ليست مغامرة؛ بل هي نزاعٌ، صراعٌ بين الإنسان والطبيعة عندما ترضى وعندما تغضب. الصديق في هذا الفيلم يذكِرنا بـ"بروميثيوس"؛ كما "أنتيغونا" سوفوكليس، وبتلك الإرادة والمواجهة: مواجهة الطبيعة/ البحر، وأسماك القرش التي لا شيء يمنعها أو يحول دون أن تفترس ما فوق وما تحت سطح ماء البحر، والتي افترست ساقَ والد مساعد.




المُخرج الصديق يَنْسِلُ سكّيِنه النقدية فيرينا صفعات البحر واندفاعاته البركانية وتلاطم أمواجه، وكيف على الصيادين البحارة أن يعيشوا الموت ويعرفوه. فمُساعِد الذي سيُبحِرُ وقد ودَّع حبيبته نورا في لقطةٍ تحت شُبّاَكِها وهو في غاية الخوف والحذر مِنْ أن يراه أحدٌ وكأنَّه مجرم، سنراه وهو في عرض البحر غير آبهٍ بغضبه ولا بأسماك قرشه ولا بحيتانه، حَذَرٌ وشَجَاعة، والصديق يحيلنا إلى تلك النار المركزية التي تحت القشرة وقد ازدادت صلابتها؛ فيما تحتبسُ الضغط الذي يتضاعف فتنفجر وتحطِّم ما تُحطِّم، ثمَّ تتشابك وتتصادم؛ كانت الصداماتُ في النواة في عمق البحر أو على سطحه، إذ يؤلِّف صورة من جسدٍ صوتي ـ جسد الماء، وجسدٍ مرئي ـ جسدُ المحارب، جسد البحَّار الصياد مثيرًا الرعب. كاميرا تُصَوِّرُ في الماء؛ تصوِّرُ الأنفاس، الهمس، احتباس الكلام، الاختلاجات، الخفقان. الصديق يصوِّرُ الجسدَ وهو يُفكِّرُ، وهو يغوص في الفكر تحت الماء وفوق الماء، ومُساعِد حبيب نورا التي زَوَّجَها أبوها قسرًا من رجل قبل عودة مساعد من رحلة الصيد، وحاولت ضربه، بل ضربته ليلة دخلتها، مساعد في لقطة يصارع الموت، ويموت، ورفاقه يغسِّلونه، ويصلُّون عليه على ظهر المركب ثمَّ يلقونه في البحر، وأمُّه على الشاطئ ترمي باللؤلؤ المزيف البحر، ترمي البحر باللؤلؤ.
الصديق في فيلمه "بس يا بحر" نظر في أسىً وحرقة إلى مآسي الإنسان الخليجي الذي لم يضيِّع اللؤلؤ الذي كان يقاتل بروحه وجسده ليصيده في رحلة موت شاقَّة، فيما هو اليوم بعد النفط يُضيِّعُ ما يُضيِّعُ!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.