}

عبد الحميد بن هدوقة يَخرُج من رماده في الدوحة

بوعلام رمضاني 19 أكتوبر 2021

لم يحصل لي شرف محاورته بعد التحدث معه هاتفيًا قبل وفاته بقليلٍ يومَ كان ضيفَ المركزِ الثقافي الجزائريِ في باريس في شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 1996. وإذا كانَ مرضَ السرطان الذي عجَّلَ بِرحيلِهِ، قد انتصرَ علينَا يَومَهَا رغمَ الوَعْدِ الذِّي أعطانِي إيَّاه بِنبرةٍ صوتيَّةٍ تَعْكِسُ ضُعفًا شديدًا، فإنَّ الرِّوائي الكبيرِ الرَّاحِلِ عبد الحميد بن هدوقة قد وَفى بِوعْدِه في قَبْرِه على طَريقَتِه الخاصَّة التِّي فَرضَتْ تَكْرِيمًا يَستحقُّهُ أكثرَ مِنْ أيِّ وقتٍ مضى برغمَ تأخره.

الدوحةُ التِّي احتفت بهِ من الثالث عشر إلى السادس عشر من الشهر الجاري بمناسبة احتضانِهَا الدورةَ السابعةَ لجائِزة كَتارا للرواية العربية، فَتَحَتْ صَدرِها الواسعَ لتَحْتَضِنَهُ بقوَّةٍ مُعيدَةً إلى الأذهانِ ذِكْرَى مُبدِعٍ لم يَنَلْ حقَّهُ من الاهتمامِ والدِّراسةِ ليسَ باعتبارِهِ روائيًّا كلاسيكيًّا مُتميِّزَا فحسب، بل كمُتَرْجِمٍ وباحثٍ وكاتبٍ مسرحيٍّ تَركَ رصيدًا فنيًّا مُعتَبَرًا، وكمُثَقَّفٍ لمْ يَكُنْ مُحايِدًا وَسِلبيًّا حَيال المرَاحلِ السِّياسيَّةِ المُختلِفة التِّي عرفتها الجزائر.

"ضفة ثالثة" التي تتابع كلَّ جديدٍ وكلَّ مَنتوجٍ أصيلٍ وكلَّ تظاهُرَةٍ هامَّةٍ، ضَربَتْ موعِدًا في الجزائر مع كتَّابٍ ونُقّادٍ، وسألتهُم عن مَغزى تكريمه وعن خصوصيته الإبداعية، فكان هذا التحقيق.

تُحفَةُ "ريح الجنوب" كمرجعيَّةٍ أُولى

يُدرِك الدارسُ المُتمعنُ لردودَ كلّ منْ قبِل دعوةَ "ضفة ثالثة"، بِسهولةٍ مُتناهية، حقيقةً أُولى تؤكِّد رسوخَ اسمِ الراحِلِ عبدَ الحميد بن هدوقة (1925-1996) في الذاكرةِ الأدبيَّةِ والفِكريَّةِ والسِّياسيَّةِ الفردية والجمعية، رغم عدمَ نيلِه الاهتمام الكافي بمنجزه الإبداعي. إنَّه الرُّسوخ العام الذي جعلَ من اختيار المشرفين على جائزة كتارا اختيارًا واعيًّا ومُوفّقًا من شأنه أنْ يفتحَ صفحةً جديدَةً في التَّعامُلِ معَ مُبدِعينَ من طرازِ الراحل.


الروائي والقاص أحمد منُّور 


القاص والناقدُ والروائيُّ أحمد منُّور كانَ من أوائلِ الكُتّاب الجزائريين الذين رحَّبوا بسُؤالنا مُنوِّهًا بِمُبادرَةِ المشرفين على الجائزة النوعية التي تحتضنها الدوحة والتِّي تَعاظَم دَورُها في البلاد العربية على كافة الأصعدة على حد تعبيره. اختيار الراحلِ بن هدوقة شخصيَّةَ السَّنَةِ لمْ يأتِ بمحضِ الصُّدْفة، وجاءَ ينِمُّ عن تَقديرٍ صائبٍ لمكانةِ كاتبٍ لعِبَ دورًا رائدًا في الجناحِ الغربِّي من الوطن العربي، وساهمَ في التأسيسِ لثقافةٍ جزائريةِ حديثةٍ، عربيَّةِ اللِّسان والانتماءِ، ومُتفتِّحَةً على العصرِ وعلى العالَمِ.

ويُصادِفُ اختيارَ بن هدوقة شخصية السنة - أضاف الأستاذ منور - "مرورَ رُبعِ قرْنٍ على رحيلِه الأَمرُ الذِّي يُؤكِّدُ دلالَةً ذاتَ مغْزى عميقٍ. رواياتُه ما زالَتْ إلى يَوْمِنا هذا تُسجِّلُ حُضُورًا بقوَّةٍ في مجالِ المقروئية، وفي سوقِ الكُتُبِ وفيِ الدِّراساتِ الجامِعيَّةِ وفي الكتابات النقدية. إنَّها الرِّوايات التي ما زالَتْ تُلهِم الروائيِّين الشُّبان في انتهاجِ منهجِه في الكتابة، والتَّعمُّقِ في فهمِ الواقع، والالتزام بقضايا الوطنِ، والإخلاصِ في التّعبِيرِ عنْ المُشكلاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى بصدقٍ وصراحَةٍ، وبرغبَةٍ أكيدةٍ في تغييرِ الواقعِ إلى الأفضلِ والأفيدِ والأجملِ". روايته الأولى "ريح الجنوب" تُعدُّ في تقديرِ الأستاذ منّور الروايةُ التي طبقت شُهرتها الآفاق، وطُبِعت عشراتِ المرَّاتِ، وحازتْ على مقروئية واسعة. في "رواية الجازية والدراويش" المُكملة جزئيًا لرواية "ريح الجنوب"، رصدَ الراحلُ التَّحوُّلاتِ العميقةِ التي عرفها الريف وَتأثُّرِهِ بالأفكارِ القادمةِ إليه من المدينة. هذه الرواية - استطرد الأستاذ منور - "كتبها بأسلوبٍ مُكثَّفٍ مٌزاوِجًا بين الواقعِ والأسطورةِ مُقتربًا بذلكَ من أجواءِ روايةِ (نجمة) لكاتب ياسين، وقد كتبتُ عنها دراسة بعنوان "التداخل النصي بين (جازية) بن  هدوقة و(نجمة) ياسين" نَشَرَتْها مجلة اللغة العربية والأدب العربي في كلية الآداب بجامعة الجزائر".

الشاعرة والروائية حياة قاصدي 


الشَّاعِرةُ والروائية حياة قاصدي، المقيمة بمدينة مرسيليا الفرنسية وصاحبةُ دار الأمير للنشر، أكَّدت بِدورِها أنَّ رواية "ريحِ الجنوب" هيَ المرجعيَّة الأولى عند التَّحدثِ عن الراحل بن هدوقة. حقَّقَ الراحلُ الرائدُ في تقديرِهَا نَقلَةً أدبيَّةً نوعية في مَسيرةِ الأدبِ الجزائري بعدَ كُتَّابِ الرِّوايَةِ باللُّغَةِ الفرنسية من أمثالِ محمد ديب ومولود فرعون، واستطاع أنْ يمنحَ جوازَ مُرورِهَا نحو اللغة الأم مُعيدًا بِذلكَ الأدبَ الجزائري إلى العالم العربي بعدَ أنْ كان مُنعَزلاً عنهُ. بن هدوقة الذّي نجحَ في التَّطرُّقِ إلى الحياةِ الاجتماعية المشحونةِ بالذِّهنيَّات الجامدَةِ الرَّافِضة للتَّغييرِ، أضحَى مَرجعيَّةً في مسيرةِ الأدبِ الجزائري من خلال "ريح الجنوب" (1970)، الرواية الأولى التي كُتِبت باللغة العربية، والتي اعتبرت من أفضلِ مائة روايةٍ عربيةٍ صادرةٍ عن اتحاد الكتاب العرب.

بن هدوقة - استطردت قاصدي- "هو صاحب الخطاب المُتشبِّع بالمعطياتِ السوسيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية والفلسفية والتراثية، وروايته "الجازية والدراويش" مثالٌ على توظيفِهِ الصِّراعَ بين القيم الثورية المعاصرة والعقلية التقليدية، وفيها أَبرزَ دورَ المرأةِ في حَلبَةِ الصِّراعِ الاجتماعي". باختصار، أنهت الأديبة ردّها مؤكدة "بن هدوقة كان ابنَ بيئتِه بامتيازٍ، ومُعبِّرًا حقيقيًا عن جزائر ما بعد الاستقلال، وتركَ بأعماله الأدبية بصمة إبداعية خالدة".

الكاتب العربي رمضاني 



إعادةَ اعتبار لمبدعٍ ظُلم حيًّا وميّتًا

الكاتب العربي رمضاني أكَّدَ ما قالَه الأستاذ منُّور والكاتبة قاصدي، باعتباره روايةَ "ريح الجنوب" العنوانَ الأوَّلَ والأخير الذي ارتبطَ باسم الراحل بن هدوقة برغم أهمية الروايات الأخرى. ويَعتقِدُ العربي الذي قرأ رائعة "ريج الجنوب" الفريدة للمرة الثانية تزامُنًا مع إعلانِ المشرِفينَ على جائزة كتارا اختيارَ بن هدوقة شخصيةَ الدورةِ الجديدة، أنَّ نشرَ دار الأوطانِ الكتابَ الجماعي "بن هدوقة رائدَ الرواية الجزائرية" تحتَ إشرافِ الكتاب عبد العزيز بوباكير والسعيد بوطاجين وجيلالي خلاص، مبادرةً حميدةً استبقت التظاهرة القطرية تجسيدًا لمسؤولية تاريخية وأخلاقية لا يمكنُ التَّنصل منها في كلِّ الأحوالِ.

رمضاني أضاف يقول: "نصوص بن هدوقة تعكِسُ الجزائرَ بزخَمِها الإنساني وتقلباتها التاريخية، ورغم ذلك لم يحظَ بالعنايَةِ الكافية سواء بترجمةِ أعمالهِ الهامَّةِ أو الترويجِ لها بالقدَرِ الكافي، والتهميش الذي تعرَّضَ له بن هدوقة طال آخرين يُعدُّونَ رُموزًا في الأدب والفكر". أخيرًا، نوَّهَ العربي بمبادرة المشرفين على جائزة كتارا قائلًا "اعتباره شخصية السَّنة هو أبسطُ ما يمكن أنْ يُقدَّمَ لهذَا الإنسان الاستثنائي والكاتب الفذ، وقد يُساهِمُ هذا التكريم في صحوة مشاعر المسؤولية لدى المُهتمين بقطاع الثقافة في الجزائر".

الروائي كمال قرور 


الروائي كمال قرور، صاحب دار الأوطان، أيَّد رمضاني بصفةٍ مُطلقةٍ، بقوله "إنَّ اختيار بن هدوقة في الدوحة يُعدُّ تكريمًا حقيقيًّا لشخصيَّةٍ أدبيَّةٍ كبيرَةٍ لم نُعطِها حقَّها، علمًا أنَّها أخذت حقَّها من النقد الجامعي". رغم ذلك، يعتقِدُ قرور أن الراحل بن هدوقة راح ضحيّةَ ظلمٍ حيًّا وميِّتًا "لأنَّ ما تركه من روايات وكتابات متنوعة أخرى أكبرَ بكثيرٍ ممَّا قُدِّمَ عنه، وتركَ أدبًا لا يموتُ، الأمرُ الذِّي يتجاوزُ كلَّ تكريمٍ عابرٍ يَستحِقُّهُ عن جدارةِ".

بن هدوقة رجلُ الظِّلِّ وسيِّدِ الصَّمتِ، لمْ يَكُنْ يظهَرُ في الإعلامِ وهو ابن الإعلام، أنهى قرور شهادته قائلًا "تكريمَهُ في الدوحة ضمنَ فعالياتِ جائزةٍ عربيةٍ مُحترمةٍ يُعيدُ كَاتِبَنا إلى الواجهةِ الثقافية والأدبية لتَعرِفَ الأجيالُ العربية الجديدة صاحبَ الأعمالِ الخالدةِ (ريح الجنوب)، (الجازية والدراويش)، (بان الصبح)، (غدا يوم جديد)، و(أمثال جزائرية). ورواية (ريح الجنوب) رواية عظيمةٌ في الأدبِ الجزائري والعربي والإنساني، وهيَ من بواكيرِ الروايةِ المكتوبة باللغة العربيةِ. لقدْ حُوِّلَتْ إلى فيلمٍ سينمائي شهير، وتجاوزت الخطاب الأيديولوجي المُهمينِ لتُعانِقَ الواقعية النقدية".

الشاعرة حبيبة محمدي 



تكريم للأدب الجزائري

الشاعرة والأستاذة حبيبة محمدي ختمت جولتنا عبر روح بن هدوقة الإبداعية، مُتباهية ومُفتخرة بتكريمٍ يُعدُّ تكريمًا للأدبِ الجزائري كله، على حد قولها. محمدي التي استقت بروحها الشاعرية كلمةَ ريحٍ من روحِ الراحل كلاعبة ماهرة بحرف الحاء، كتبت تقول ردًا على سؤال "ضفة ثالثة": "ريحُ التكريم العطرة نسائم من الأدب الجزائري على روح بن هدوقة. ما أجملَه من خَبر، اختيار بن هدوقة شخصيَّة السنة لجائزة كتارا الأدبية هو احتفاءٌ بالأدب الجزائري واعترافٌ برسوخِ الأبجدية العربية في الجزائر وتألُّقِها عكسَ ما كان يُروَّجُ له من أن الكتابة باللغة الفرنسية هي السائدة في الجزائر ولا غيرها، وبذلكَ يكونُ قد ساهم في ترسيخ الهوية العربية، وتكريم بن هدوقة بعدَ نجيب محفوظ يُعمِّقُ التقليد الهام الذي أصبحَ يُميّزُ تظاهرة جائزة كتارا الهامة جدا". كما كان منتظرًا، وقفت محمدي وقفة خاصة عند رواية "ريح الجنوب" التي أضحَتْ شجرةً غطَّت على غابة الراحل الإبداعية، مُقرِنَةً وقفتها بحقيقَةِ ارتباط هذه الرواية بتاريخ أوَّل روايةٍ كُتبت باللغة العربية، ما فتح لأجيال مُتعاقبة يُمثِّلُها كتَّابٌ روائيُّون راسخونَ من بن عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار مرورًا بواسيني الأعرج وصولًا إلى عيساوي الحائز على البوكر، مثلما هناك شُعراء فَرضوا أنفُسهم داخل وخارج الجزائر ويَكتُبُون بأبجديةٍ عربية لافتة.

أخيرًا جدَّدت الشاعرة محمدي تنويهَهَا بمسؤولي جائزة كتارا التي تُعَدُّ تظاهرةً مُتميزة في العالم العربي منذ تأسيسِها عام 2014، وعبَّرتْ عن سعادتها بتكريم روائي كبير رفع اسم الجزائر عاليا في الوطن العربي وفي العالم على حد تعبيرها.

يجدر التذكير، واحترامًا للقراء، أننا اتصلنا بروائيين خرجوا من معطف الراحل بن هدوقة، وكمَا جرت العادة، يتحَجَّجون في كل مرة بمبرر كتاباتهم في منابر صحافية عن قضايا أدبية وفكرية. نحاول في كل مرة تنويع الضيوف بإعطاء الكلمة للمعروفين وغير المعروفين خدمة للمصلحة العامة وتجسيدًا لمهنية لا يجامل صاحبها هذا أو ذاك، ولا يُعتِّم عن الذي يختلف معه فكريًا أو شخصيًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.