}

عن مهرجان جرش ومعرض الكتاب.. جُمعة مِشمشية؟

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 2 أكتوبر 2021
هنا/الآن عن مهرجان جرش ومعرض الكتاب.. جُمعة مِشمشية؟
من حفل افتتاح مهرجان جرش 2021


على طريقة (الجُمعة المِشمشية)، تعامل منظّمو مهرجان جرش في دورته الخامسة والثلاثين، ومنظّمو المعرض الدولي للكتاب في دورته العمّانية العشرين، مع المناسبتيْن الأردنيتيْن الأكثر بلاغة وأهمية ومشاركةً عربية وأجنبية.
مِزاجٌ انسحب حتى على المشاركين المحليين والخارجيين في الفعليْن الثقافيين، الكل يريد أن يضرب ويهرب، فالجائحةُ على الأبواب، ولا أحد يعلم متى تعود بشراستها القاتلة، وموجباتها المنغلقة، وانكفاء كل شيء خلال ذرواتِها المتكررة ومواقيتها المتجهّمة.
ومع ذلك، لم يسلم الجميع من حماسة التقاط المشمش في موسمه السريع الشبيه بحلم عابر، فها هو مدير مهرجان جرش يُقال من دون أن ينتظر من أقالوه الأيام الأربعة المتبقية لإكمالهِ دورة ما بعد كورونا التي حملت اسم الشاعر الراحل بسببها (بسبب كورونا) جرْيِس سماوي (1956 ـ 2021)، مدير مهرجان جرش ما بين 2002 و2006، ووزير الثقافة من تموز/ يوليو 2011 إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2011، حيث حال موضوع حملهِ الجنسية الأميركية دون مواصلته عمله وزيرًا للثقافة وقتها.
طريقة تنحية أيمن سماوي في الأيام الأخيرة من المهرجان، شكّلت علامة استفهام كبيرة، وعبّر كثير من أبناء المشهد الثقافي والفني في الأردن عن استيائهم من هذه الطريقة "غير اللائقة"، بحسب توصيف عدد منهم، خصوصًا أن الدورة الحالية تحمل اسم قريبه الراحل من أشهر قليلة فقط.
السبب المعلن للإقالة المباغتة كان عدم الالتزام خلال فعاليات المهرجان (خصوصًا فعاليات المسرح الجنوبي) بأوامر الدفاع حول التباعد وارتداء الكمامات، وخرق البروتوكولات الصحية المتعلقة بجائحة كورونا.




أما السبب المضمر، فهو، بحسب ما يتداول بعض المعنيين، تصريحه على هواء فضائية محلية أن عدم الالتزام لا يقتصر على فعاليات مهرجان جرش، بل يشمل مباريات كرة القدم وتجمعات أخرى. وهو ما رأى فيه (أصحاب قرار) مسًّا بشخصية قيادية في الرياضة الأردنية.



دوامة الكم والنوع
مهووسين بالكم، مفتقرين لعناوين كبرى حول الثقافة العربية في الزمن الجديد الذي يمور حولنا، وفرص منحها دورًا قياديًّا وتأثيريًا في محيطها الأقرب فالأبعد، سابق منظمو المهرجان الزمن، بعد تأكدهم أنه سوف يسمح لهم إقامته هذا العام، بأقل القليل من شروط التباعد، ومن دون تكبيل المحددات لِبرامجهم فيه، وإذا بهم يريدون أن يمنحوا حقولًا كثيرة ومتشعبة فرصة المشاركة في دورة هذا العام، حتى أن عددًا من الحقول لم تكن مدرجة على دورات المهرجان السابقة جميعها (حقل القصة القصيرة على سبيل المثال، وحقل النقد والندوات الفكرية).
على هذه الشاكلة، انطلقت فعاليات الدورة، التي قيل فيها ما قيل وسيُقال فيها ما يُقال. لا عناوين واضحة لِهويات الفنانين الذين دعوا للمشاركة في حفلات المسرح الجنوبي في مدينة جرش التاريخية (الأكثر أهمية ودلالات)، ولا تنوّع بنّاء: من لبنان نجوى كرم، وماجدة الرومي، بإطلالتها الجرشية المتجددة (آخر مرّة صعدت فيها الجنوبي كانت في عام 1999)، جورج وسّوف، وحسين الديك، من سورية، وسيف نبيل، من العراق. قد يحال الأمر هُنا إلى ضيق الفترة ما بين الموافقة على إقامة المهرجان وموعد انطلاقه. يخبرني أحد أعضاء اللجنة الإعلامية، الزميل غازي بني نصر، أن المدة لم تتجاوز الأسبوعين لكل هذا التحضير وتوجيه الدعوات وتنظيم فعاليات كل منصة وموقع من منصات المهرجان ومواقعه داخل جرش وخارجها.

المهرجان يحتضن تاريخيًا فولكلور الشعوب


العنوان الأوضح الذي اعتمدته إدارة المهرجان هو الانتصار للفنان الأردني، ما أتاح مشاركة 70 فنانًا أردنيًّا، صعد بعضهم منصة الجنوبي، وبعضهم قدّم حفله في المسرح الشمالي، وآخرون في الساحة الرئيسية، وشارع الأعمدة، وآخرون في مواقع أخرى في عمّان والمحافظات. بعضهم لا يعرفهم حتى المتخصصون بالموسيقى والغناء.




ما يُقال عن مهرجان جرش يمكن نقله للحديث عن معرض عمّان الدولي للكتاب في دورته العشرين، وبما أن كليهما (المهرجان والمعرض) غابا العام الماضي، فإن العنوان الأكثر إلحاحًا الذي أراد المنظمون هُنا وهُناك أن يتحلّى به المراقب والإعلامي الاستقصائي ومختلف هويات المتلقين، هو القبول وعدم التمحيص ولا المراجعة ولا تبني أي منهجية نقدية، كما لو أنهم يقولون لنا (إحمدوا ربّكم أننا نجحنا بجعل المعرض ممكنًا، وأننا أشعلنا شعلة المهرجان).
من جهةٍ، فإنه قول لا شك فيه قدر معيّن من الوجاهة، ومن جهة ثانية، فإن الأمر لا يقتصر على المظهر، ولا بد من مراجعة الجوهر، والتدقيق في الغايات والأهداف الكبرى البعيدة: لماذا نود أن نقيم مهرجانًا للثقافة والفنون؟ لماذا نصر على أن نقيم معرضًا سنويًّا للكتاب؟ وهي، هُنا، أسئلة ليست موجّهة، فقط، للفعل الثقافي في الأردن، بل لعل كل فعل ثقافيّ عربيّ (مهرجانات قرطاج وصلالة والإسكندرية وفاس ومراكش وبيت الدين والبصرة وغيرها وغيرها). ألم يتحوّل الأمر إلى مناسبةِ تجمّعٍ سنويةٍ لعدد (متكرر في الغالب) من المبدعين والمثقفين والمكرّسين العرب، حتى ليكاد المشهد يبلغ أبواب الرتابة والنمطية المرعبة؟



إضاءات

هذا هو العرس الفولكلوري


من إضاءات مهرجان جرش في دورة (الفرح) مواصلة العناية بِالفرق الفولكلوريّة المحلية والعربية والأجنبية. في هذا السياق جاءت إطلالة الفرقة الشركسية تحليقًا حيويًا مشرقًا بِالذاكرة والمعنى. وَراوحت فرقة "الاستقلال" الفلسطينية بين الأصالة والمعاصرة مشحونة بعطر البلاد وزيتها وزيتونها. وقدمت فرق محليّة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب أمسيات بطعم السامر والعتابا والدلعونا والدحية وباقي ألوان الموسيقى الشعبية. الفرقة الأذرية، وفرق فولكلورية من دول أخرى، كانت لها لحظتها ضمن فعاليات المهرجان.




ومن إضاءات معرض الكتاب أن يحقق روائي ما عجز عن تحقيقه مئات الروائيين والشعراء والكتّاب العرب. أقصد بكلامي الظاهرة التي بدأ يشكلها الروائي والشاعر أيمن العتوم، الذي تتحوّل، من سنوات، حفلات توقيعه إلى مهرجان حاشد، أحرج هذا العام إدارة المعرض التي تظل تذكر مُرتاديه بضرورة التباعد وارتداء الكِمامات. بعضهم يُرجع شعبية العتوم إلى جهة بعينها (الأخوان المسلمون)، بعضهم يتحدث عن تسليع الإبداع، وآخرون يحيلون المسألة برمّتها إلى الانسحاب الجمعيّ عندما يشاهد أناسٌ أناسًا غيرهم يتجمّعون ويتجمْهرون في مكان ما. بعيدًا عن مختلف تأويلات فإن في نجاح الرجل ببيع كتبه وتحويلها (كما هو الأصل) إلى مدخل رزق كريم ولائق وكافٍ ووافٍ، ما يستحق الإشارة، وما يدفعنا للتمسك بِبصيص أمل، أن يصبح الفرد العربي قارئًا للكتب يومًا ما.



مراجعة جذرية

الفرقة الشركسية تحلق عاليًا


ماذا بخصوص مراجعة جذريّة لكلِّ هذا وذاك؟ هل أسهم أي فعل ثقافيّ عربيّ بزحزحةٍ ولو رمزيةٍ لاستبداد نظام شموليّ ينتشر كثير منها في كثير من بلادنا؟ هل أثمرت بإنتاج ثقافة عضوية معرفية تأسيسيّة؟ وكيف بمقدورها أن تفعل ذلك علمًا أن معظمها تنظمه الجهات الرسمية في الدول العربية؟ وهي تفعل ذلك محمّلة بأوهام أن الأموال التي ترصد لهكذا فعاليات هي أموال حكومات تلك الدول، وليست أموال دافعي الضرائب من عموم الشعب الذي يغيب معظمه عن تلك (الجُمَع المِشمشية).




هل يُترَكُ الإعلام يمارس حريّته القصوى خلال متابعته لتلك الفعاليات، فينقد هُنا، ويكشف هُناك، ويضع يده على خللٍ هنُا وهُناك؟
لو كان الأمر كذلك، لتساءل إعلاميٌّ لماذا تستضيفون مغنيًّا يحتفي بنظامٍ يقتل شعبه، كما هي الحال مع استضافة جورج وسّوف، وحسين الديك، على سبيل المثال؟
أو يتساءل آخر ألم يستدعِ ما يجري في الضفة الأخرى من نهر الأردن، التركيز على فنانين ملتزمين وفرق وطنية، وعلى تصعيدِ اللحنِ المنحازِ للأرض والإنسان والوصايةِ على المقدسات؟
ثم هل يصغي الذين ينظمون فعاليات عربية لِما يجري تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تشكّل بقوةٍ ووضوحٍ وغزارة، إعلامًا بديلًا لكلِّ غثيان الإعلام الرسميّ والإعلامٍ النعامّي (من النّعامة التي تخفي رأسها في الرِّمال)؟



منهجية التذويب
بعيدًا عن الإعلام، ألا يتحمّل المثقفون العرب، في معظمهم، أنفسهم قدرًا كبيرًا من المسؤولية؟
ألم يقبلوا بمنهجية التذويب الممتدّة التي جعلت مسعاهم الأوّل لقمة العيش في بلاد أسهل من قد يفقَّر فيها هم كتّابها ومبدعوها وحملة شعلة (التنوير) فيها؟
تذويبٌ نوّع طرائقه بين الترغيب والترهيب، ومع تواصل زمن الجورِ وغياب العدالة وتكرّس الأنظمة الأبعد بمعظمها عن الديمقراطية، مع تمثّل بعضها ديمقراطية شكلية، أصبح الترهيب هو الأسهل والأقل كلفة، فإذا بالمثقف نفسه هو الذي يطرق أبواب السلاطين، يطلب (البُقجة) التي ظلّت تصغر وتضمر مع الأعوام والأيام إلى أن أصبحت بحجم (باكيت سجائر) وقنينة سهر، وأحيانًا بحجم علبة حليب أطفال، أو أجرة مسكن، أو فاتورة إقامة في المدن الطاردة لكل إبداع حقيقي ومعرفة موثّقة ومُزدانة بالعلم والحقائق.



جزرٌ معْزولة
بما يشبه الجزر المعزولة يقف شباب وشابات وأصحاب دور نشرٍ مُشاركةٍ في معرض عمّان الدولي للكتاب، كل أمام جناحه، يُدارون واقع الحال بالمؤمّل من مشاركة، على كل جناح صغير (وحدة عرض مفردة) أن يدفع لإدارة المعرض مقابلها مبلغًا يزيد قليلًا على ألف دولار أميركيّ. وبما يشبه الأمر نفسه يجرّ الشعراء والروائيونَ والأدباء والنقاد أنفسهم نحو ركن التَواقيع في مكان قصيّ داخل مساحة المعرض، يوقّعون للراغبين شراء إصداراتهم، فَدور النشر تعتمد هذه الطريقة متوقّعة أن تبيع أكثر في حال وجود الكاتب نفسه ورغبة بعضهم أو بعضهن الحصول على توقيع صاحب الإصدار.



جزر معزولة في حالة الأجنحة، وجزر معزولة في حالة التواقيع التي تتواصل على امتداد أيام المعرض، وجزرٌ معزولة بالنسبة للأنشطة الثقافية والأدبية و(الفكرية) المقامة على هامش المعرض. في خيمة وُضِع داخِلها زهاء 40 إلى 50 مقعدًا، لا تكاد تلمح سبعة منها ربما أكثر وقد يصل الأمر في أمسيات بعينها لزهاء 15 مقعدًا منها يجلس عليها متابعون لهذا النشاط أو ذاك. الأمر نفسه ينطبق على أمسيات رابطة الكتاب الأردنيين، التي لم يصل جمهور بعضها إلى عدد الشعراء على المنصّة!
التخبّط زاد من ضعف الإقبال وبؤسه، فَالفعاليات تقام في أوقات واحدة وأماكن متباعدة؛ فقد يكون هناك توقيع في المعرض في الوقت نفسه الذي تقام فيه أمسية في الرابطة، وأخرى في المركز الثقافي الملكي، ورابعة في واحدة من المحافظات، ويترافق كل ذلك بعرض مسرحي في الوقت نفسه، من دون أن نذكر نشاطات المركز الرئيسي لمهرجان جرش (المدينة التاريخية بِمواقعها: المدرج الجنوبي، الشمالي، أرتيمس، الصوت والضوء، السّاحة الرئيسية وشارع الأعمدة). تخبّط أحيانًا، وأهداف انتخابية أحيانًا أخرى، جعلت أمسيات الشعر والقصة تحمل صفة (سمك.. لبن.. تمر هندي).



على عجلٍ

من معرض الكتاب


على عجلٍ نفّذ المنظّمون رغبة أصحاب القرار، فإذا بمهرجان بحجم جرش، ومعرض يفتح أفقًا، أساسًا، للكِتاب العربي مع قليل من الكتب الأجنبية، يبصران النور بعد الإعتام الوبائيّ، من دون حتى أن يفتحا مساحةَ تأمّل نقديةٍ معرفية، يناقش المثقفون العرب خلالها كيفية تعامل دولهم مع الوباء الذي اجتاح العالم، وسبل إنقاذ الشرائح المجتمعية الأكثر تضررًا، ففي عامٍ واحدٍ فقط، تفاقم فقر الفقراء، وتضاعف عشرات المرّات، وبما ينذر بالأسوأ والأوْجع والأعظم فداحة. قد يسأل سائل: وهل هذه من مهام المثقفين؟ وأجيب دون أن أعد للعشرة، على طريقة قذف السؤال بسؤال يقابله ويُناطحه ويستقرّ مكانه: إن لم تكن هذه المهمة الإنسانية المجتمعية الوجدانية، في رأس الصفحة الأولى من صفحات كتابتهم وإِنْشادهم وتنظيرهم، فما هو يا ترى الذي يستحق أن يكون؟
في أولى أمسيات الشعر في (جرش)، صدح الشاعر زهير أبو شايب قائلًا:
"خرجنا كالفراش من الطفولة
واحترقنا حول نار المرأة الأولى
وأشْقانا بحكمته الرماد
كنّا على عجل
فلمْ نرْضع حليب الأمّهات
ولم نشمّ روائح الآباء بعد
ولم تكلّمنا السماء
كما أرادوا...".

يبدو أنهم جميعهم، يا صديقي، كانوا على عجل، على أنّ عجلةَ الهاربين من الموت إلى المنفى مفهومة، ولكن عجلةَ القائمين على أكثر شؤوننا مفصلية: الشأن الثقافيّ فهي غير مفهومة، ولن تكون، بالنسبة لي على الأقل، في يومٍ من الأيام، مفهومة.
الشاعرة مها العتوم، في الأمسية ذاتها، تبوح بالـ"شغف":
"ليست حياتي حقيقية
لأدير مخاوفي
مثل مقود سيارتي
منذ عشر حوادث أنجو
لأكثر من سبب
ليس من بينها حكمتي
لن أموت من الحب
ما دمت طرتُ بسيارتي
فوق جسر المُشاه
وعشت أحدّق كالجسر مزهوة
في عيون غيابي".

أقبل أن يكون هلاكنا بشغفنا، على أن لا يكون سبب عدم نجاتنا هو عدم إيماننا بجدوى الثقافة وقيمة المعرفة لإحداث التغيير المنشود في بلادٍ بات عدم التغيير فيها نذيرًا واضحًا عند أبواب اضمحلالها وفنائها.
نحتاج جسرًا يا مها، ليس للمشاة فقط، ولكن، أيضًا، للزاحفين على الرماد.. الراكضين نحو حواف النهر.. المحاولين ما اسْتطاعوا إلى ذلك سبيلًا، إزالة شرنقة الغياب، من حول معنى وجودهم وموجبات حياتهم الدنيا، مجسّرين المسافة بينها وبين الحياة الأخرى المُشتهاة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.