}

في رحيل سهير البابلي.. التمثيل كفعالية عقلية

أنور محمد 24 نوفمبر 2021



الفنَّانة سُهير البابلي (1935- 2021)، التي رحلت قبل أيام، هي ممثِّلة انفعالات الحب والشجاعة والازدراء، ومن نجوم المسرح السياسي العربي، تدفع أفكارها عبر اللغة وإِن كانت باللهجة العامية، فنصير نتذوَّق ونسمع ونشم، وَمِنْ ثمَّ نزدري المُستبِّد. سهير وهي تتكلَّم، وهي تمثِّل وتتغندر ببهاء على خشبة المسرح، إِنْ في مسرحية "الصفقة" للكاتب توفيق الحكيم وهو أوَّل دور لها تمثِّله مع سميحة أيوب وفؤاد شفيق، أو في ثاني عمل مسرحي لها "بيت من زجاج" أمام أمينة رزق وسناء جميل، أو في مسرحية "آه يا ليل يا قمر"، أو في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، أو مسرحية "على الرصيف" التي تم منع عرضها لأسباب سياسية، أو مسرحية "العالمة باشا"، و"نرجس"، ومسرحية "عطية الإرهابية"، ومسرحية "ريا وسكينة" مع الفنانة شادية، ترينا الخطَّ المرئي والملموس للفساد السياسي والاجتماعي الذي يعشِّش ويُسيِّر موظفي وعمال جناب الدولة البوليسية، ساخرةً هازئة.

سهير البابلي وهي تمثِّل تدفعنا إلى الضحك؛ الضحك حتى القهقهة من استصغار الحاكم بأمره لعقلنا، فتصير القهقهة ترياقًا ضدَّ الألم. كلماتها، كلمات دورها- كأنَّها لوحدها دون كلمات ممثلي أدوار العرض المسرحي- تراها تنزُّ ألمًا وهي تتمدَّدُ إلى المتفرِّج، وبشكلٍ جزئي متناه ومحسوس؛ كلماتٌ يضجُّ بها جسدها خاصة عضلات وجهها ويديها؛ كلماتٌ تُعبِّرُ عن الفعالية العقلية- لا أحد يتذاكى علينا، كُنَّا على الخشبة أو في الصالة. فما تسرده سهير البابلي- دورها التمثيلي- هو سردٌ يعبِّر عن المعرفة والقوَّة، لأنَّها ممثِّلة تؤدي أدوارها تأسيسًا على العقل؛ على الوعي. فالممثِّل وإِنْ جسَّد أدوار الشر، إنَّما ليُبيِّن ويؤكِّد أنَّ انتقاد مُسبِّب وفاعل الشر هو حقٌ إنساني للممثِّل، وهذا ما فعلته في معظم أدوارها المسرحية حتى إن اضطرَّها الأمر لأن تخرج عن النص عندما تشعر وهي تمثِّل مع خصمها أو عدوُّها؛ أو كان صديقها وشريكها، بأنَّ ما تقوم به وتجسِّده هو فعلٌ يكشف عن تناقض وتصادم المبادئ. نُذكِّر بمسرحية (يوليوس قيصر) لشكسبير الذي قُتِلَ لأنَّه صاحب مبادئ، بينما قَتَلَتُه، وإن قتلوه وأزاحوه غدرًا، فإنَّهم من الغوغاء الذين لا مبادئ عندهم ولو كانوا في سدَّة السلطة، وبرأيي هذا ما كانت في معظم أدوارها تمثِّله وتؤكِّده. البابلي من حَمَلَةِ المبادئ، هي ليست مثل أولئك الممثلين، أو الذين يشتغلون في الدراما يلبسون ثياب الأحرار فيما هم عبيد وإن أعطيتهم الحريَّة. البابلي في تمثيلها تنتصر للحريَّة، ولِمَنْ يحكمُ البلاد بالانتخاب لا بالقُرعة ولا بالاغتصاب. فما من إنسانٍ وُلِدَ ليشتغل مَلِكًا أو رئيسًا، وهذا ما كان يؤرِّقها فلا أحد يملك ختم السلطة الإلهية.

سهير البابلي لمَّا تقفُ على خشبة المسرح وهي تُمثِّل تعمل على إيقاظ الحس والشعور عند المتفرِّج حتى لا يستسلم للخرافات والتخريف السياسي للسياسيين؛ مثلًا في مسرحيتها "على الرصيف" تخرجُ أو تُخرِّجُ دورها من الخوف ومن ختم الرقابة الأحمر، فتصير تُغرِّد وبقهر: "في سنة ثمانين قالوا لنا سنخرجُ من عنق الزجاجة، لكنَّنا لم نرض، فقلنا نقعدُ في قعر الزجاجة (صامدون) لم يصدَّقوا أنَّنا قعدنا حتى وضعوا السدادة وقفلوا علينا". هذا التهكُّم / الهزء من الذين (قالوا لنا) بدا مريرًا ومرًا وقاسيًا، حيث وضعت المتفرِّج في الجدل؛ الجدال الدال الفعَّال بين الضرورة والاحتمال، وتركت المتفرِّج يتساءل؛ يسأل، يطلب الحوار، فلا علَّةَ للذين (قالوا لنا) سنُخرِجُكُم من عُنق الزجاجة ويُدَخِّلونَنا الجنَّة، فيما هم يمارسون علينا سلوكًا لا إنسانيًا وهم في ذروة حضيض الحسيَّة الغرائزية يلتهموننا؛ بل يفترسوننا، يفترسون أحلامنا. سهير كانت تُحاوِر، هي تُحاوِر لمَّا تُمثِّل دورها، أيَّ دور، ترينا صراعها، صراعاتها، انكساراتها مع الآخر كان فردًا أو عصابة. إنها تُمثِّل لا تخطُب، لا تُلقي خطابًا عندما تُمثِّل، ولا تَعِظ، لِتُسمِعُنا نغماتٍ جمالية تنشرُ الفرحَ والبهجة والحبور، هي ليست ببَّغاءً يحفظُ كلمات دوره كما الكثيرون من الممثلين، هي تُمثِّل وأحيانًا ترتجل لتُكمِّل ما نقص الفعل كي تصل ذروةً مسرحية، فنرى انفجارات روحها فتُحقِّق تلك الدهشة، لأنَّها لمَّا تُمثِّل تمدُّ جسرًا بينها وبين المتفرِّج.

الفنَّانة سهير البابلي على خشبة المسرح- وأعتقد أنَّ هذا يتطابق مع سلوكها بصفتها صاحبة مبادئ تُؤسِّسُ للحقِّ المدني، فيستخدم الإنسان عقله كي يبقى حرًا- تراها دائمًا تُمثِّل، تُمثِّل وهي تكزُّ على أسنانها ألمًا، ولكنَّها تضحك كما يرى الشاعر الإنكليزي بايرون: إذا ضَحِكت فذلكَ لكي لا أبكي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.