}

سماح إدريس.. "إذا تخلينا عن فلسطين نتخلّى عن أنفسنا"

دارين حوماني دارين حوماني 30 نوفمبر 2021


ذات يوم لم يتوانَ الروائي والمترجم الراحل سهيل إدريس في إعلان ندمه الشديد على ترجمة كتب جان بول سارتر حين أعلن الأخير نيّته زيارة "إسرائيل"، فقد كان يعتبر أنّ الموقفَ من فلسطين هو البوصلة في كلّ ما يفعله أو يقوله أو يكتبه أو ينشره أو يترجمه.. في هذا البيت نشأ سماح إدريس (1961-2021) مع صورة وديع حداد فوق سريره، ومكتبة مؤلفة من الطرقات التي تؤدي إلى إنهاء "الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ التهجيريّ إلى الأبد".

ورث سماح إدريس عن والده دار الآداب ومجلة الآداب وحِمل فلسطين الذي لم يحمله كثيرون فأنزلوه عن أكتافهم في زمن الديمقراطيات الكولونيالية، وحتى آخر أيامه حين كان السرطان قد تمكّن من جسده كله، ومتوقعًا رحيله، كان لا يزال يتواصل مع أصدقائه لتشكيل إطار لبناني-فلسطيني مشترك ذي طابع ثقافي- سياسي يناضل من أجل إحقاق الحقوق المدنية للشعب الفلسطيني. ومنذ شهر تمامًا ألقى كلمة مؤثرة في مؤتمر "المسار الفلسطيني البديل" الذي أقيم في 30 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي يقول فيها وصيته للعالم العربي: "هذا المسار الذي نطمح إليه، ينبغي أن يعيدَ إلى الصدارة دورَ الشتات، ومخيّماتِ العودة، ويستعيد شعارات التحرير الكامل، وترابط تحرير فلسطين بالوحدة العربيّة التقدّميّة.. نحن نحضن فلسطين لأنّنا نحضن أنفسَنا، لا من باب "التضامن" معها، وإذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسِنا... هذا إذا أردنا أن نكون أحرارًا أعزّاءَ في بلادنا". ومعتبرًا أن ثمة أولويات يجب العمل عليها دائمًا منها "دعم المخيمات والتواصل مع شعبنا في فلسطين المحتلة عام 48..". ومذكّرًا باستطلاع أجراه "المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات" عام 2019 أن 88% من العرب يرفضون الاعتراف بـ"إسرائيل"، شدّد على أن الدعمَ الفعليّ ينبغي ألّا يقتصر على الرفض والتأييد، وإنّما يُفترض أن يقترن بالفعل الميداني عبر المقاطعة لكل أشكال التطبيع مع "إسرائيل"، وإدريس كان قد أسّس في لبنان عام 2002 عقب مجزرة جنين "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان" التي لعبت أدوارًا عديدة في الداخل اللبناني أو من خلال تقاطعها مع حملات المقاطعة في عدد من دول العالم، منها منع أفلام لملكة الجمال الإسرائيلية (2004) غال غادوت التي كانت جندية في الجيش الإسرائيلي بين العامين 2005 و2007 بعد مشاركتها في السينما الهوليودية، وتم الضغط لمنع أفلامها ليس في لبنان فقط بل في العالم العربي كله بقرار من جامعة الدول العربية. وتم شنّ حملة على شاكيرا (اللبنانية الأصل) في كولومبيا لمنعها من إقامة حفل لها في تل أبيب لتنسحب بعد ذلك، كما تم العمل على تدريس محور القضية الفلسطينية في كتاب التاريخ في لبنان وهو ما لم يكن سابقًا مدرجًا في المناهج التربوية اللبنانية.



عائدًا من أميركا بشهادة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط بدأ سماح إدريس، المتخصص قبل ذلك بالماجستير في الأدب العربي من الجامعة الأميركية في بيروت، بترجمة عدد من الكتب التي لا تبتعد عن قضيته النضالية الأساس فترجم في عام 2001 "صناعة الهولوكوست" لنورمان فنكلشتين و"النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة" لنعوم تشومسكي، ثم في عام 2006 "عن الإمبراطورية والمقاومة" لطارق علي وترجم في عام 2008 "إسرائيل، فلسطين، لبنان: رحلة أميركي يهودي بحثًا عن الحقيقة والعدالة" لنورمان فنكلشتين. وكان قد كتب في النقد الأدبي "رئيف خوري وتراث العرب" (1986)، و"المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية" (1992). وشارك إدريس مع والده والعلامة صبحي الصالح في تحرير "المنهل العربي الكبير" وقد وصفته الدار بأكبر وأشمل معجم عربي- عربي حديث. وكتب إدريس لأدب الناشئة، فكانت له سبعة كتب للأطفال، وأربع روايات للفتيات والفتيان منها "فلافل النازحين" و"عالم يسع الجميع"، و"الملجأ". وعن دوافع كتابته للأطفال يقول إدريس في أحد حواراته: "لم أكن أتصور أنا القومي العربي اليساري المؤمن بالعروبة والداعي لها والمبشّر بـ"الوحدة العربية" أن لا أستطيع أن أقنع ابنتيّ بمحبة اللغة العربية. معظم ما كتب في "أدب الأطفال" أدب تلقيني وأخلاقي بالمعنى السيء، أي إنّه أدب توجيهي يكرّس فكرة المستبد العادل، ويكرّس على المدى البعيد السلطة السياسية الحاكمة والأنظمة العربية الحاكمة، ربّما لهذه الأسباب أرفض الأيديولوجية الموجّهة، وأكتب بنَفَس الطفل المتمرّد. أنا لا أحث على الطاعة، بل أحثّ على التمرّد، أحثّ على تربية فكر نقدي، كتاباتي ليست تمردًا على السلطة الأبوية بقدر ما هي توجيه للطفل بأن يتخذ موقفًا نقديًا، أن يفكر تفكيرًا نقديًا، وأن يشكّك في حكم الأفراد، ما يسمح بتكوين شخصية مستقلة عاقلة مبدعة". ولم يكتفِ سماح إدريس بكتابة هذه القصص بل كان يجول على المخيمات الفلسطينية في لبنان ويشارك الأطفال فيها قراءة القصص، وخلال أزمة كورونا خصّص قناة على يوتيوب لقراءة القصص للأطفال والناشئة.

تولى سماح إدريس رئاسة تحرير مجلة الآداب في ربيع 1992 وكان والده قد أسّسها عام 1953 كمنبر للتجديد في الشعر والرواية والمسرح والفن التشكيلي والنقد فشملت أبوابها الأنشطة الثقافية في البلاد العربية وفي الغرب. تبنّت المجلة قضايا التحرر الوطني والقومي من الاستعمار والصهيونية والاستبداد والتجزئة في مشرق الوطن العربي ومغربه، ودعت إلى الالتزام في الأدب، ولم تكن مجلة لبنانية فقط، بل كانت مجلة لكل الأقطار العربية، جمعت الأدباء والمثقفين العرب ولم يمنعها التزامها القومي الواضح من فتح صفحاتها لغير القوميين من اليساريين وغير اليساريين منذ مرحلتها التأسيسية، فكتب فيها عبد الله عبد الدائم وشبلي العيسمي وقسطنطين زريق إلى جانب محمود أمين العالم وحسين مروة ورئيف خوري، وكانت المجلة منذ بدايتها مهدًا للحداثة الأدبية، فعلى صفحاتها ازدهرت حركة الشعر وقدّمت للقراء العرب شعراء هذه الحركة الذين لم يكونوا قد عرفوا على نطاق واسع ومن هؤلاء بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري (من العراق) وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وكمال نشأت (من مصر) ونزار قباني (من سورية) وخليل حاوي (من لبنان) ومحمد الفيتوري ومحيي الدين فارس (من السودان) ويوسف الخطيب وفدوى طوقان (من فلسطين) ومحمد العربي صمادح (من تونس) الذين كانوا من مؤسسي الحداثة الشعرية في بلادهم. وعلى نفس الخط القومي العروبي والفكر النقدي والانفتاح على الجميع سار سماح إدريس في استقطابه لأهم الأسماء الأدبية العربية حتى اليوم في المجلة، كما كتب فيها مئات المقالات في السياسة والأدب واللغة محاولًا نشر الفكر العلماني وتجديد الفكر القومي العربي، كما نشر على صفحاتها ترجمته لعشرات المقالات الأدبية الغربية. وبفعل التراجع الأدبي والثقافي في العالم العربي، توقفت المجلة عن الصدور ورقيًا عام 2012 إلا أن إدريس ناضل لأن يعيد إصدارها بنسخة إلكترونية عام 2015، والإنجاز الكبير كان في توثيق أرشيفها ونشر كل الأعداد الورقية السابقة للمجلة منذ العدد الأول في كانون الثاني/ يناير 1953 حتى عام 2012 في نسخ إلكترونية متاحة مجانًا للقرّاء.

سماح إدريس  يقرأ قصصًا لأطفال من المخيمات الفلسطينية في لبنان


لم يكتفِ سماح إدريس بمجلة الآداب ليقول ما يريد قوله فقد كانت صفحته الفيسبوكية بمثابة توثيق يومي لشقاء فلسطين ونصرة قضاياها، طارحًا فيها مواقفه وآراءه عن طوفان الحزن والتشتت في لبنان والعالم العربي.

وحالمًا بدولة مدنية لاطائفية شارك سماح إدريس في الثورة على الفساد عند بدء حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في لبنان، ودعا من على صفحته الفيسبوكية إلى أن يجد الحراك قيادات تمثيلية موحدة. كتب إدريس إثر انطلاق الحراك: "إن إيجاد قيادات تمثيلية قد يخفّف من مشاكل الحراك خصوصًا إذا كانت تتمتع بنظافة الكف.. العفوية عامل إيجاب في البدايات، لكنها بعدها تصبح هي نفسها سببًا للفرقة والفوضى"، وهذا ما حصل فيما بعد برأي إدريس الذي انتقد بعض المشاركين في الحراك بعد رفعهم لشعارات نزع سلاح المقاومة في الذكرى الأولى للحراك: "هل التظاهرة اليوم لـ"إحياء انتفاضة 17 تشرين"، أمْ لتكرار معارضة السلاح "غير الشرعيّ"؟ كيف يطمح البعض إلى التغيير الداخلي والمطالبة في الوقت نفسه بنزع سلاح مرصود لمقاومة إسرائيل؟ هل يمكن فصل المطلب الأول عن مطلب الاحتلال والنهب والفوقية الصهيونية وصفقة القرن". ورغم انتقاده لهذه الشعارات لم يتوقف سماح إدريس حتى آخر أيامه عن المطالبة بتوحيد صفوف الثورة المحقة على الفساد، كان مقتنعًا بالحاجة إلى التغيير لكنه ككثيرين أُصيب بالخيبة.



وعن الربيع العربي كتب سماح إدريس: "هذا "الربيع العربي" أفرز أبطالًا ومقاومين شجعانًا، ولكنه أفرز عملاء وتابعين، وأفرز بشكل خاص أناسًا ناقمين على نُظُمهم إلى درجة التصريح بالرغبة في التحالف مع الشيطان للخلاص منها. نماذج سعد حداد وسعيد عقل وانطوان لحد وكنعان مكية وأحمد الشلبي تتكاثر.. صحيحٌ أنّ "الربيع العربيّ" كَسَرَ حاجزَ الخوف من السلطات البوليسيّة، لكنّ تلك كانت البدايةَ فحسبُ في معظم الحالات؛ إذ ما لبثتْ أن حلّتْ مكانَ هذه السلطات أصوليّاتٌ مخيفةٌ، وشُرّعتِ الأبوابُ أمام الاحتلالِ الأجنبيّ وعمليّاتِ النهبِ والتقسيمِ والحروبِ الداخليّةِ المروِّعة؛ بل يمكن القولُ إنّ "الربيع" المذكور لم يتخلّصْ أحيانًا من تلك السلطات أصلًا لأنّها سرعان ما عادت تحت مسمَّياتٍ مختلفة أو ضمن تحالفاتٍ جديدة"!

من سجن "لانميزان" في فرنسا كتب الأسير اللبناني المناضل جورج عبداللـه رسالة مؤثرة إلى سماح إدريس قبل أسبوعين ختمها قائلًا: "دُم سالمًا أيها الرفيق العنيد ومنارة لمسارات تحرير فلسطين وجماهير أمّتنا العربية، دمت للنضال والثورة المستمرة"، وكان سماح إدريس يردّد دائمًا: "جورج عبداللـه مثالنا الأعلى، جورج عبداللـه أمانة في أعناقنا، حتى آخر لحظة وما بعد آخر لحظة".. قد يكون هذان الرجلان من آخر رجالات هذا العالم الذين لا يزالون يرفعون شعارات تحرير فلسطين كاملة، أولئك الذين لم يتعبوا على امتداد الرحلة الشاقة من هذا الحِمل الحزين "فلسطين" الذي جرى التنكيل به عربيًا وصهيونيًا. رحل سماح إدريس أحد أحرار هذا العالم تاركًا لنا فلسطين أمانة في أعناقنا.. حتى آخر لحظة وما بعد آخر لحظة.. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.