}

نُشفى إذ نُجرح..

وداد نبي وداد نبي 26 ديسمبر 2021
هنا/الآن نُشفى إذ نُجرح..
نافورة في وسط المدينة التاريخي في راينسبيرغ/ ألمانيا (Getty)

في حزيران/ يونيو 2020، بعقل غير هادئ وعاطفة متوترة، خطوت أولى خطواتي في مدينة راينسبيرغ رفقة صديقتي وشريكتي الكاتبة أنيت غروشنير. نزلنا من القطار وبدأنا السير مشيًا باتجاه قلب المدينة الصغيرة. كانت الوجوه الحيادية، النظرات الفضولية، تترقبني، تتسلق ظهري خلسة مع قطرات العرق في تلك الظهيرة وتبني جدرانًا عالية بيني وبينهم، أو هكذا شعرت على الأقل.
تلك كانت أولى مشاعر الغربة التي انتابتني، لذا أرهبتني فكرة الإقامة لمدة خمسة أشهر في مدينة أشعرتني أول دخولي إليها، إنها ستضعني في صندوق نمطي ومتكرّر ويصعب الخروج منه، صندوق المهاجرين واللاجئين.
حين دخلنا محل الآيس الكريم، لشراء "قبوعين" من الآيس، شعرت أنّ نظرة صاحبة المتجر المتكبّرة تجرحني، كأنها نصل سكين حاد دخل عيني، ومرّ في حلقي، واستقر في معدتي. سألت نفسي: ترى هل كانت تود في تلك اللحظة التي دخلت فيها متجرها أن تكتب لافتة وتعلّقها على الباب "يمنع مجيء الألمان مع رفاقهم الأجانب"؟. لا أعرف! لكن نظرتها جرحتني في العمق، حيث يمكن للمرء أن يُجرح بالنظرات بشكل أشدّ قسوة من سكاكين الجراحة.
كان عزائي الوحيد في تلك اللحظات أنّ ما تعلمته من تجربتي المتكرّرة في الهجرة، وتغيير الأمكنة، أنّ الانطباعات الأولية عن المدن سرعان ما تتغيّر بسرعة تقلبات الطقس في هذه البلاد، إذ طالما شعرت أنني أنتمي إلى أمكنة عديدة ومتعدّدة في هذا العالم، فكنت سورية في سورية، وبرلينية في ألمانيا، وفرنسية حين زرت باريس، وإيطالية في روما، وفكرت: ربما لن يكون صعبًا أن أكون من سكان راينسبيرغ، المدينة الصغيرة التي حصلت فيها على منحة للكتابة. تجربة الهجرة علمتني أن المرء يمكن أن ينتمي إلى أمكنة وثقافات عدة، بعيدًا عن التحيّزات المسبقة. ألا ندين اليوم بحضارتنا الإنسانية لأول بشري خطرت لذهنه فكرة الهجرة منذ مئات الآلاف من السنوات، حين قرّر أن يترك ألفة مسكنه الأول ويغامر في حياته للوصول إلى أرض جديدة؟ ومنذ ذلك الوقت والبشر يهاجرون لأسباب عديدة ومختلفة.




في الأيام الأولى في راينسبيرغ، كنا نشعر زوجي وأنا أننا غريبان، ملامحنا أيضا غريبة، لا تشبه سكان المدينة، لا نسمع فيها سوى اللغة الألمانية، لا وجود لمهاجرين حيث كنّا نقيم في شقة تابعة لقصر راينسبيرغ، كنا نزور برلين كثيرًا، لكن بعد مضي فترة، شعرنا أننا ننتمي إلى المدينة، وتعوّدت العيون على وجودنا، وحفظنا شوارع وأماكن المدينة الصغيرة عن ظهر قلب، كلّ طريق وغابة وشجرة كانت تسحرنا على الدوام، أحببنا الأشخاص الذين كنّا نلتقيهم خلال مشاويرنا اليومية، ونتبادل معهم التحية الصباحية والمسائية. وبعد مرور بضعة أشهر، أدركت أن الناس يتصرفون بحيادية، أو بعدائية، لعدم معرفتهم بالآخر، لخوفهم منه، الآخر يبقى غريبًا، طالما أننا لا نتحدث معه، لكن ما إن نكسر الجدار الوهمي بيننا وبينه حتى يتغيّر كل شيء، تتغيّر الصور النمطية وتتبدّد المخاوف تلقائيًا كما حدث معنا.

مسلة راينسبيرغ التي تخلد ذكرى التضحيات البروسية في حرب السنوات السبع (28/ 2/ 2018/ Getty)


في الطرقات الترابية الضيقة التي كنّا نمشي فيها يوميًا، كنا نلتقي بأشخاص من سكان المدينة، يتنزهون رفقة أحبتهم، أو كلابهم الأليفة. كنّا نلقي التحية مبتسمين لفكرة كيف لأشخاص من مدن مختلفة وبعيدة أن يجتمعوا في مكان في غاية الجمال، وأن يلقوا التحية بهدوء من دون عدائية، بعيدًا عن ذكرى الحروب، والصراعات، والعنصرية، التي كانت وما زالت تتصاعد في كل مكان في ألمانيا والعالم، بما فيها بلدي الذي هربت منه.




في إحدى المرات، أخذنا صديق ألماني إلى بحيرة شتيشلين. هناك أيضًا كان ذلك النوع من النظرات الحيادية تجاه الغرباء، لكن تغيّر الوضع حين اجتمعنا في الليل في كوخ والد صديقنا كريستيان حول مدفأة الحطب، مع مجموعة من الألمان. فجأة، تبدّدت كل تلك النظرات بعيدًا، ودار الحديث بألفة عن الشعر والطبيعة، البناء والطبخ، ونحن نضحك كأصدقاء قدامى. وفي النهاية، عدنا إلى راينسبيرغ ونحن سعداء، لأن القدرة على الكلام، ومد روابط الحديث، تكسر الحواجز بين البشر، وتغيّر أقدارهم ومصائرهم.
في مدينة نيوروبين الواقعة أيضًا في برانيدينبورغ، كان السحر مختلفًا، كنت مسحورة بتلك المدينة الصغيرة الأليفة، بساحاتها الممتلئة بشجر التفاح، مذهولة وأنا أتجول في شوارعها، من جمال وقدم الرصيف الحجري الذي كان يلامس قدمي، الفوانيس الجميلة المعلّقة التي كانت تزّين كل منزل وجدار قديم، الجلوس في مقهى مثل Café am See، أو Wichmann Lime، يشبه الجلوس في جنة صغيرة مؤقتًا.
هناك توقف قلبي للحظات من الألفة التي يمكن أن تمنحنا إياها مدينة غريبة. شعرت بالانتماء. ربما كان الناس هناك أكثر انفتاحًا من الناس في راينسبيرغ، لأنهم اعتادوا على مخالطة الأجانب. فلطالما كان الانسان عدو ما يجهله.
حين سألتني امرأة مسنة تحملُ سلة وتقطف الزهور البرية، بابتسامة دافئة عن نوع الزهور المفضل لدي في إحدى طرقات البرية في مدينة راينسبيرغ، ذكرتني بجدتي التي ولدت في سورية بعيدًا عن ألمانيا. لم يكن لاختلاف لون البشرة، واللغة، والجينات، أن تجعل من الصعوبة أن تصبح تلك السيدة المسنة وجدتي صديقتين تتحدثان في هذا الطريق الريفي، وتتحدثان عن فوائد الأعشاب في الطبيعة لمعالجة الاكتئاب والأرق والكسور، سواء الكسور الداخلية التي تخلفها الهجرة، أو كسور العظام بسبب الحوادث. فاكتشاف أول عظم بشري مكسور يعود لعشرات الآلاف من السنوات، جُبّرت العظام وشفي صاحبها، ولم يُترك للحيوانات المفترسة بفضل العناية، عناية بشر قدامى ببعضهم بعضًا، وذلك قبل وجود أي روابط ثقافية وحضارية ولغوية. وكذلك كانت الهجرة التي سمحت في الأوقات الجيدة للبشر الغرباء أن يعتنوا ببعضهم البعض، ويساعدوا على التئام جروح المهجرين والمنفيين والخاسرين لمدنهم وبيوتهم في حروب لم يكن لهم قدرة على إيقافها، لكن بفضل الهجرة التأمت جراحهم الداخلية، وتمكنوا من السير مجددًا بعد أن كسرتهم الحروب.
وكما يقول النقش المحفور على واجهة أحد المشافي الجراحية القديمة في مدينة غيسن: "نُشفى إذ نُجرحُ".

* كاتبة كردية سورية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.