}

العمل الفني إذ يكون ساخرًا من الواقع ومُحرضًّا للخيال

رشا عمران رشا عمران 30 ديسمبر 2021
هنا/الآن العمل الفني إذ يكون ساخرًا من الواقع ومُحرضًّا للخيال
ملصق فيلم "لا تنظروا إلى السماء"


في عام 1983، في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، كتب زياد رحباني مسرحيته الشهيرة "شي فاشل"، وكانت نسخة ساخرة من استكشات وأوبريتات عائلته الرحبانية، تلك الأعمال التي قدمت لبنان بوصفه بلد المحبة والجمال والتصالح والتسامح والفن. أراد زياد (ابن الحرب الأهلية) نسف هذه النظرية بالكامل، فلبنان كما عاشه هو لبنان مختلف عن ذلك الذي في أعمال عائلته، كان عليه أن يقدم رؤيته كفرد وكجيل كامل لم ير في لبنان سوى الكراهية القاتلة المتبادلة، وسوى التمترس وراء الطائفة والمذهب والحزب، أما (الدبكة) التي تجمع محمود ومعروف وإلياس وحسين فهي مجرد خاطر في خيال العائلة الفنية، بينما الواقع يقول إن هؤلاء كان كل منهم يمسك سلاحه في وجه الآخر. "شي فاشل" كانت العمل الأهم لزياد الرحباني من بين كل أعماله، ومن بين كل الأعمال الفنية الأخرى التي صدرت تلك الفترة، ذلك أن المسرحية كانت إعلان تمرد حاد لزياد على الإرث الرومانسي الفني لعائلته الرحبانية، بقدر ما كانت سخرية مريرة من الواقع الذي قدمته أعمال الرحابنة، ومن قلدوهم، بوصفه واقعًا ورديًا وجميلًا، وسخرية من (لبنانهم الأخضر) الذي لم ير فيه جيل زياد الرحباني سوى القذائف المتبادلة بين أبناء البلد الواحد، وسوى المجازر المتنقلة والدم الذي تخلفه وراءها.

ربما يمكننا وضع فيلم (Don’t  look up)- لا تنظروا إلى السماء-  للمخرج آدم مكاي (سيناريو وإخراج) وإنتاج منصة نتفليكس التي بدأت عرضه في الأيام الأخيرة، في نفس الرؤية التي دفعت زياد رحباني لكتابة عمله "شي فاشل": السخرية المريرة من الواقع، ولكن آدم مكاي يسخر من هوليوود وسردية البطولة الأميركية المنقذة للبشرية، ومثلما كان زياد قادمًا من قلب العائلة الرحبانية، كذلك فعل آدم مكاي، إذ استعان بأكثر نجوم هوليوود شهرة (ليوناردو دي كابيريو، ميريل ستريب، جنيفر لورنس، كيت بلانشيت) وهؤلاء جميعهم نالوا أوسكارات متعددة، مضافًا إليهم المغنية الشهيرة أريانا غراندي، وكريس إيفانز والمسرحي البريطاني الشهير مارك رايلانس وكيد كودي، وآخرون كثر من أكثر ممثلي الصف الثاني في هوليوود شهرة ورواجًا، حتى آدم مكاي نفسه كان قد حصل على أوسكار أفضل سيناريو عام 2015، أي أن جميع صناع الفيلم هم من مركز نفطة الضوء الهوليوودية، وهذا ما يميز الفيلم، فلو أن صناعه كانوا أقل شهرة ونجومية لما كان قد التفت إليه أحد، لكن الفيلم، ومنذ بدء عرضه، وهو يثير الجدل بين متابعي المنصة، ففي الوقت الذي اعتبره البعض فيلمًا عظيمًا وفارقًا في مسيرة نجومه، كتب آخرون عنه بوصفه فيلمًا مملًا ولا يليق بأسماء نجومه، ولا يقدم أي جديد حتى في نقده لهوليوود أو للواقع الأميركي والعالمي، كما أن المخرج لم ينجح في إدارة ممثليه الذين قدموا أداءً باهتًا في فيلم طويل نسبيًا (مدة الفيلم ساعتان).

المسرحية كانت إعلان تمرد حاد لزياد على الإرث الرومانسي الفني لعائلته الرحبانية، بقدر ما كانت سخرية مريرة من الواقع الذي قدمته أعمال الرحابنة، ومن قلدوهم، بوصفه واقعًا ورديًا وجميلًا، وسخرية من (لبنانهم الأخضر) الذي لم ير فيه جيل زياد سوى القذائف المتبادلة بين أبناء البلد الواحدّ!



والحال أن منتقدي الفيلم ليسوا مخطئين كثيرًا، فالأداء باهت فعلًا، وتقطيع المشاهد صادم أحيانًا، وربما كانوا محقين بأن ميريل ستريب، على وجه الخصوص، أدت واحدًا من أسوأ أدوارها وأكثرها افتعالًا، مثلها مثل بقية نجوم الفيلم، الذي يصيب مشاهده بالصدمة أحيانًا حيث يتوه بين الجدية والسخرية في كل أحداث الفيلم، منذ لحظة اكتشاف المذنب المدمر للكرة الأرضية وحتى مشهد النهاية، حين يخرج ابن الرئيسة الأميركية (المصاب باضطراب نفسي) من الدمار وهو يحمل حقيبتها ليبقى وحده الناجي من كل الكوكب ويوثق تلك اللحظة على سناب شات (لم يصب هاتفه الذكي بأذى)، فالتكنولوجيا، التي أراد صناع الفيلم إظهارها كمسبب للاضطرابات النفسية الحديثة في المجتمع البشري، ستبقى مع أحد ضحاياها حين يتعرض الكوكب للدمار.

الفيلم مليء بالكليشيهات، هذا أمر لا جدال فيه، ولا يقدم ما لا يعرفه الجميع عن حقيقة السياسة الأميركية، كيف تدار وكيف تعقد التحالفات، وعن الارتباط الخفي بين الجمهوريين والديموقراطيين، وبين المؤسسة السياسية الحاكمة للعالم والرأسمال العالمي الممثل في الفيلم  بشبيه (إيلون ماسك)، ولا عن الخلفية المتدينة للمجتمع الأميركي التي لا تغيب عن غالبية الأفلام الأميركية، ولا عن النظرة إلى العرب في السينما الهوليوودية، ولا عن العنصرية ضد السود والهنود والمثليين، ولا عن تمجيد البطل الأميركي الأبيض، ثمة لقطات متقطعة وحوارات قصيرة تكشف ذلك كله، وكله في إطار الكليشيهات، غير أن أهمية الفيلم في رأيي الشخصي هي هنا: في تقديم كل ما هو سيء وممل ومشوه وكليشهي، في تقديم كل ما يشبه الواقع الأسود والمريض لعالمنا الحالي، حيث الحروب والتجارب النووية والحرب الفيروسية القاتلة والتغيير المناخي وتحكم التكنولوجيا بمسار حيوات البشر، وإدمان وسائل التواصل التي زادت في عزلة البشر وتغييبهم عن الواقع، حيث المغريات التي يوفرها عالم الاستهلاك الرأسمالي قادرة على تغيير المعايير الأخلاقية والقيمية للبشر، حيث الرأسمالية العالمية تفرض شروطها وتحالفاتها ولو على حساب البشرية ودمار الكوكب الذي نعيش عليه، حيث الخراب ينتج عالمًا بلا رأفة ولا رحمة، عالما مشوها من فرط التناقضات التي يكتنفها.

أهمية الفيلم تكمن في تحطيم الصورة التي اعتادت هوليوود تقديمها عن عظمة الأميركي الأبيض الوسيم بوصفه صاحب سلطة قوة رأس المال التي لا حدود لاستفادتها من كل ما يعزز قوتها، تلك الصورة التي قدمها الفيلم بشكل مشوه سواء من حيث افتعال أداء النجوم أو المبالغة في تقطيع المشاهد، أو السذاجة في تقديم النماذج البشرية المختلفة (مؤيدة للنظام الحاكم بكل ما يقوله، وأخرى ترى الحقيقة وتقولها كما هي، وثالثة مهزوزة وتقلباتها النفسية مفاجئة وسريعة وكذلك تقلباتها الأخلاقية، والأخيرة التي لا رأي لها ومنحازة إلى رأي المنظومة الحاكمة دون مواجهة بحجة الحفاظ على التآخي والتعايش)، أليس عالمنا منقسم إلى هذه النماذج؟!

بكل حال، فإن ما سبق هو رؤية شخصية للفيلم لا علاقة لها بنقد سينمائي (لا تدعيه كاتبة هذه السطور)، وأظن أن أغلب ما كتب حتى اللحظة عن الفيلم انطلق من رؤية شخصية له، وهنا بالضبط تكمن جدية أي عمل فني: في قدرته على تحريض المخيلة واجتراح أفكار قد لا يكون العمل في وارد طرحها أساسًا.

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
3 أبريل 2024
يوميات
26 فبراير 2024
يوميات
2 فبراير 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.