}

رحيل عبدالكريم الكابلي.. الموسيقى فيضٌ فكري يكسب الروح نُبلًا

أنور محمد 6 ديسمبر 2021
هنا/الآن رحيل عبدالكريم الكابلي.. الموسيقى فيضٌ فكري يكسب الروح نُبلًا
عبدالكريم الكابلي (1932 ـ 2021)
لا نغمات محرِّضة، ولا أخرى متنافرة، بل موسيقى عَمَلَ الشاعر والمُلحن والمُغني والباحث في التراث الشعبي السوداني عبد الكريم الكابلي (1932 ـ 2021)، الذي رحل منذ أيام في الولايات المتحدة، على عقلنتها، لتبقى أنغامًا قريبةً من بعضها بما ينسجم مع روح التاريخ الاجتماعي للسودان. فالموسيقار الكابلي كان يُكيِّف الأنغام لتخدم الفكرة الموسيقية، أغانيه؛ أو لنقل ألحانه، هي أفكارٌ ذات ثقل موسيقي. لنأخذ أغنية "زمان الناس"، أو "حبيبة عمري"، و"يا ضنين الوعد"، أو "أكاد لا أصدق"، أو أنشودة آسيا وأفريقيا، أو قصيدة "أراك عصي الدمع" للشاعر أبو فراس الحمداني، و"شذى الزهر" للشاعر عباس محمود العقاد، أو قصيدة "صداح يا ملك الكنار" للشاعر أحمد شوقي، أو "معزوفة لدرويش متجول" للشاعر محمد الفيتوري، فنسمعُ لحنًا رغم أنَّنا في بلاد الشام؛ تراه نابعًا من إحساسنا، وإن كان نغمة سودانية/ أفريقية، فهي نغمات لها عمق في أشكال الموسيقى العربية، لها تاريخ نشوء، وشروط تطور. عبد الكريم الكابلي قام بإجراء تآلف بين النغمات، فتأتلف ولا تنفر، كون أنَّ الموسيقار الكابلي يقيم أو يؤسِّس أو يبني موسيقاه على بنية لحنية لها أصول أدبية. إذ إنَّها تعبير عن دراما المشاعر الإنسانية بالحزن أو بالفرح، ولمَّا يغني يثير الأشجان، لأنَّ للغناء دورا اجتماعيا، فهنالك أغاني الحب والأعراس والنصر، وأغاني الرقص والحداء، والأغاني التي تثير فينا مشاعر الحماسة والفروسية.
عبد الكريم الكابلي سفير النوايا الحسنة لا اصطناع عنده؛ إن في لحنه، أو غنائه، بل براعة فنية من تشكيلات إيقاعية من العمق الموسيقي للفولكلور السوداني. ثمَّة زمن يمرُّ في ألحانه، ليحقِّق بعضًا من ديمومة موسيقية، زمن سوداني، لسودانٍ لم يصنع نهضته الموسيقية والمسرحية و(الاجتماعية) ــ هناك حرص رسمي في الانقضاض على كل مبدع في حقول الفن والأدب، حتى إنَّ كثيرًا من المبدعين هاجروا حتى لا يخرسوا وينخرسوا. الموسيقى عند عبد الكريم الكابلي، كما المسرح عند يحيى الحاج، ويوسف عيدابي، وآخرين، مُعطى إنساني ذو وظيفة أخلاقية، هو فعلٌ حيٌّ وخلاَّق وسابق على الفنّ. لذا نرى في ألحانه أنَّ ذات الفنان تمتزج بذات الإنسان، ومن يستمع إلى ألحانه فهو يشحن نغماته بشيء من رومانسية، فمثل هذه النغمات تدغدغ، ومن ثمَّ توقظ الأحاسيس، توقظ لا تُخدِّر، نغمات من آلات وترية ونفخية، وتلك الإيقاعية، نغمات تحرِّك مشاعرنا المثقلة بالآلام الفردية والجمعية التي يسببها لنا مغتصبو الحياة. الموسيقى لإنقاذنا من الفوضى والسديمية، الموسيقى هي تلك الحبَّة/ البذرة التي نطمرها تحت سطح الأرض؛ في الظلمة؛ نطمرها كما لو إنَّنا نقبرها، سرعان ما تشقُّ الأرضَ بعد ماء مطر، أو ماء نبع. الموسيقى انبعاث، وأظن أنَّ الموسيقار عبد الكريم الكابلي هكذا تعامل معها في ألحانه المغنَّاة بصوته، فالغناء فعل تحدٍّ، فلا يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام ما يُكاد له من ظلمٍ اجتماعي، ومن مصائب وكوارث كما يحدث لنا، فنعيش هذه التراجيديا التي اسمها زورًا (حياة).




فالسودان بحاجة إلى مفكِّرين موسيقيين يصنعون عالمًا لحنيًا جديدًا، لموسيقيين يكتبون ألحانهم بالحدس عن الشعور الروحي، عربيًا وليس سودانيًا، نبحث عن موسيقيين يؤسِّسون لفعل (الحوار) بين المضمون الموسيقي الذي يرقى ويسمو بالمشاعر الإنسانية، وبين الشكل الذي يثير أحاسيسنا وانفعالنا بالجمال، حوار هو جوهر الفكر الموسيقي؛ حوارٌ يولِّد موسيقى نعيش معها صيرورتها.




الفنان عبد الكريم الكابلي في موسيقاه لا يسرف، هو يلحن ويغني باحتراق، هو يهرب من الموسيقى إلى الموسيقى، فنسمع نغمات ذات نكهة ولون وطعم، فالموسيقى فيضٌ كبير، فيضٌ فكري يكسب الروح نبلًا، بل الموسيقى روحٌ، وليست كما نسمع، وكما نرى، تماثيل. المُغني الكابلي وهو يؤلِّف/ يلحِّن؛ إنَّما لنسمع موسيقى تجريبية ذات مؤثرات فكرية، وليس ميتافيزيقية، فهو في الموسيقى يمجِّد الإنسان، فتكون صوت ضميره، وإنَّه من الموسيقيين العرب الذين اشتغلوا في البحث والاستقصاء الموسيقي، هو طبعًا لم يشتغل على وضع (نظرية) للموسيقى السودانية، أو العربية، ولكنَّه كان يتقصَّى ويشتغل لإنقاذ أشكال وتونات الغناء في السودان، وينقذ ما يمكن إنقاذه، فلا يضيع، أو يندثر، مقامٌ، أو لحنٌ، أو رمزٌ من رموز الكتابة في تاريخ الموسيقى.
الملحِّن عبد الكريم الكابلي كان يبحث في منظومات الصوت/ الهارموني وجمالياتها عن أسس طبيعية، وأعتقد أنَّه كان يتساءل: لماذا تطورت الموسيقى في مصر، فكانَ: سيد درويش، زكريا أحمد، رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، كمال الطويل، بليغ حمدي. وفي لبنان كان: الأخوين رحباني، هذا على سبيل المثال، ولم تتطوَّر في السودان؟ فالموسيقى على يد مثل هؤلاء الرواد، إن في مصر، أو في بلاد الشام؛ هي موسيقى أصحاب عقل (مقامي)، إرجاع أنغام لحنٍ أيَّ لحنٍ إلى صوت أساس، فحقَّقوا انجازات موسيقية.
الموسيقى واقعةٌ وحدثٌ ثقافي من تحالف الحركة مع السكون، لأنَها تجربةٌ ذات محتوى روحي، وهذا ما حقَّقه فعلًا الموسيقار عبد الكريم الكابلي في مسيرة حياته التي امتدت تسعين عامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.