}

في رحيل علي حميدة.. أول أصوات أيامنا الغنائية

هشام أصلان 13 فبراير 2021
هنا/الآن في رحيل علي حميدة.. أول أصوات أيامنا الغنائية
مع خبر رحيله، اجتاحت صوره صفحات فيسبوك

1
يكبرني خالي بخمسة عشر عامًا، أناديه باسمه دونًا عن باقي الأخوال، وأتوهم صداقة متكافئة ترضي رغبة الشعور بأنني كبرت وبت أستطيع إقامة علاقة مع فتاة، اختيار ما يلائمني من ملابس، درجة من الاستقلال، الخروج وحدي من دون الكبار، بينما سنوات قليلة تفصل بيني وبين التدخين ثم المجاهرة به.
الذهاب لبيت جدي، حيث يقيم خالي، يعني الجلوس معه في غرفته وسماع الأغاني التي يرددها زملائي في المدرسة، والناس في وسائل المواصلات، والخارجة من مكبرات الصوت عند بائع الشرائط على الناصية.
في تلك الزيارة لم أكن أكملت الحادية عشرة من العمر تقريبًا، نظرت إلى المنضدة التي عليها جهاز التسجيل، وطلبت منه تشغيل "لولاكي"، كنت متأكدًا أنه اشترى الشريط. مع مدخل الأغنية غير المصحوب بموسيقى، كتمت ضحكة الانتشاء كأن الأمر عادي، وعقدت حاجبيّ متصنعًا التركيز والاستغراق في الطرب، ولمحت أمي تنظر إليّ وتبتسم.
عندما أطلق علي حميدة شريطه الثاني، كان خالي كبر ثلاث أو أربع سنوات، وارتبط رسميًا بإحداهن، سألته:
ـ إيه رأيك في أغنية علي حميدة الجديدة؟ قال: مابسمعش الأغاني التافهه دي! وأنا، حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم أفهم أبدًا، لماذا قرر خالي اصطناع الرصانة فجأة.

2
في النصف الثاني من الثمانينيات، تحديدًا في 1988، انطلقت أغنية "لولاكي" وبيعت 40 مليون نسخة من شريط الكاسيت الذي يحتويها داخل وخارج مصر بحسب مصادر صحافية تحدثت عن المبيعات الرسمية لنُسخ الشريط الأصلية، ما يعني أن هناك مثل هذا الرقم على الأقل من النسخ المزورة المنتشرة بنصف السعر وقتها، فضلًا عن أعداد مضاعفة من المستمعين، حيث الشريط الواحد لا يسمعه فرد واحد. حجم المبيعات المهول كان داخل مصر وخارجها، ولكن من باب القياس النسبي للأمور عليك أن تعرف أن عدد سكان مصر في ذلك العام كان 53 مليون نسمة بأطفالها وعجائزها. ربما تستطيع القول بارتياح إن مستوى انتشار أغنية "لولاكي" كان غير مسبوق كما أنه لم يتكرر حتى اليوم إن وضعنا في الاعتبار تطور وسائل السمع والانتشار وفارق عدد السكان، غير أن هذا الانتشار المدوي ليس وحده ما جعل الأغنية إحدى علامات أبناء جيلنا المكونة لذكرياته، ذلك أنها في الوعي العام لنا كزلزال 92 ومشاهد غزو العراق للكويت ثم حرب عاصفة الصحراء وفوازير شريهان والبرلمان الصغير وصوت عفاف راضي في تترات برامج الأطفال. ليس حجم الانتشار وحده ما صنع منها هذه الحالة.
مع زلزال "لولاكي"، أخذ مسار الغناء في مصر منحنى كبيرًا جدًا، وانتشر بعد نجاحها مصطلح "الأغنية الشبابية"، أو بتعبير كثير من المتأففين "الأغنية الهابطة"، وحدث أن فاجأ هذا المنحنى جيلًا من المطربين كان متوقع لهم نجومية كبيرة في مرحلة كانت تنتظر أن يأخذ أحدهم مكان عبد الحليم حافظ. جاءت التسعينيات بكل ملامحها مثل طوفان وضع الجميع في ورطة، وكان على المتحكمين في سوق الكاسيت أن ينتبهوا للعالم الجديد الذي جاء مكتسحًا لكل ما هو مستقر مثل موجة عاتية أكلت كل المصدات. واستولى على الساحة عدد من المطربين سيطلق عليهم فيما بعد "نجوم التسعينيات"، الذين، برغم تفاوت حالات النجاح والنجومية والاستمرار فيما بينهم، كانوا يعبرون جميعًا عن حالة زمنية جديدة يدخل جمهورها مراهقته أو دخلها قبل سنتين أو ثلاث، بينما يواجهون عدم إعجاب من النخبة الثقافية ومن الأجيال الأكبر وواضعي قيمة الأغنية عمومًا داخل قوالب الرصانة والبُعد الطربي وما إلى ذلك.
كنا صغارًا لم تشتد أعوادنا، لا نملك أدوات الدفاع عن ملامح لحظتنا، بالأحرى لا نفهم حتى مقومات هذه الملامح. نتعلق بأي رأي يحاول أن يكون موضوعيًا، فتسمع أحدهم يقول إن علي حميدة درس في معهد الموسيقى العربية، أو أنه يحضر رسالة دكتوراه في لون موسيقي بعينه، ونسعد بأن لدى الرجل ما يدعمه أمام محبي الرتم البطيء. كبرنا وصرنا نفهم، وامتلكنا أدوات الدفاع المرتاح عن أيامنا، وبحظ حسن لم يخذلنا صانعو بهجتنا، واتضح أنه كان لديهم ما يقولون بجدية وإن كانت سريعة الرتم. سنعرف بعد سنوات أن ما قدمه علي حميدة من موسيقى ولهجة غنائية كان تعبيرًا جيدًا عن ثقافة غنائية ممتدة لدى البدو الذين يعيشون في مدينته مرسى مطروح القريبة من حدود المجتمع الليبي بثقافته، نقلها لنا وكان من الممكن أن يكمل لولا ظروف تخصه وأخرى لا تخصه، وسيصبح حميد الشاعري، موزع الأغنية، تيمة نجاح لكل هذه المرحلة بتنوع أغانيها ومطربيها وشيخ طريقة مُكرس في التاريخ الغنائي المصري، وصارت أعمارنا تدور حول الأربعين، بينما خرجت منا نخبة ثقافية جديدة في كل المجالات لا تخجل من الإشارة لمراحل التكوين والاعتزاز بها.
أصدر علي حميدة عدة شرائط كاسيت لطيفة لكنها لم تنجح كما أغنيته الأولى، وكان هذا طبيعيًا، فما وصلت إليه "لولاكي" له أسباب كثيرة أبرزها ظروف اللحظة الزمنية التي كانت كأنها تنتظر مشرطا يلمسها لتنفجر.

3
تحسنت أحوال علي حميدة، القادم من مدينة مرسى مطروح في ظروف صعبة، واستطاع امتلاك شقة على نيل القاهرة، كما اشترى شقة في الطابق الأسفل وجهزها لاستقبال المغتربين الشباب من أبناء مدينته الذين يحتاجون إلى مكان للمبيت، مجند يقضي خدمته العسكرية أو طالب جامعي، كما يحكي في لقاء إذاعي.
وحدث أن استدعته المحكمة ذات يوم، لمحاكمته بتهمة التهرب من الضرائب وكان عليه أن يدفع 13 مليون جنيه أو يُسجن، فباع الشقتين ودفع ثمنهما لمصلحة الضرائب وتسامحوا معه في باقي المبلغ. عاد بعدها إلى مرسى مطروح وقضى سنواته بين البيت والبحر وحفلة هنا أو هناك بين حين وآخر، وأكمل حياته شبه منسيّ، نراه على فترات في إعلان لشامبو شعر رخيص، أو لقاء في قناة تلفزيونية متواضعة، نتذكره ككل نوستالجيا ونتندر على حالته الاستثنائية.

4
مع خبر رحيله، اجتاحت صوره صفحات فيسبوك مصحوبة بكلمات رثاء أيام الطفولة والمراهقة، ولقاءات مصورة له في السنوات القريبة ثم على سرير المرض، ومع التقليب في مواقع الصحف، اتضحت معاناة عاشها مع الإهمال وكلام عن شكاوى من نقابة الموسيقيين وأشياء مما تصيب المنسيين.
بالأمس، رحل فنان قلب، بلا مبالغة، موازين صناعة الأغنية المصرية بين ليلة وضحاها، وغيّر خطط صُناعها، ووضع، بقصد أو بدون، بداية تاريخ جديد لذلك الفن وسوقه، بداية أشارت لقيام أيامنا كما أشار شكل رحيله لقسوة هذه الأيام.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.