}

عن الصورة العمياء في الدراما السورية

أنور محمد 28 أبريل 2021
هنا/الآن عن الصورة العمياء في الدراما السورية
أيمن زيدان

فجاجةٌ وملل، توابلٌ ومُغريات واستثارة للغرائز الحسيَّة؛ تُسفِّه العقل الإنساني وتُهينه- كل ذلك في العديد من الأعمال الدرامية السورية لموسم شهر رمضان 2021 التي تبثُّها الفضائيات الناطقة باللغة العربية. شرٌّ إلى درجة إشعال الحرائق والقتل والنصب والاحتيال والترويج للعنف والجريمة والأوبئة والأذى، وخيرٌ شحيحٌ شحيح، وذليلٌ ذليل، ودون مبرِّراتٍ فنية وفكرية، فتبدو هذه المسلسلات أسماك قرش تريد أن تُجهز على ما بقي في عروقنا من دماء.
قد أكون مستعجلًا في إطلاق أحكام القيمة؛ ولكنَّه الكمُّ الكبير من العصي الغليظة والسميكة والصلبة لدراما تُشرِّخُ وعينا بالحريَّة، وحقَّنا في أن نُشاهدَ صورةً نزيهة غير مُحايدة، صورة غير محقونة بالسُمِّيات التي تشكل ضررًا وتهديدًا لكرامتنا الإنسانية. صورة لا تتوارى ولا تستتر خلفها كل هذه القباحات في ألوانٍ وأصواتٍ تأخذُ أوضاعًا وهيئات تتحرَّك فيها أجساد الممثلين، فنرى صورة عمياء فيما نحن مُفتِّحون/ مُبصرون.





"الكندوش"

ما هذا "الكندوش" العنبر أو الصندوق الخشبي أو "الفريزا" الذي تُخزَّن فيه الحبوب، من تأليف حسام تحسين بك، إخراج سمير حسين، وتمثيل: أيمن زيدان، أيمن رضا، سامية الجزائري، حسام تحسين بك، زهير عبد الكريم، سلاف فواخرجي، عبد الفتاح المزين وغيرهم، والذي استهلك اثنتي عشرة حلقة حتى الآن حول حرامي لصٌّ يثير الذعر والخوف والقلق ولا أحد يكمشه؛ يقبض عليه وتخلص الرواية؟ ما هذه الشخصيات البلهاء، ما هذه البيئة الشامية التي لا تجف مياهها الآسنة وكأنَّها منجم ذهب؟ ما هذه الكتل التعبيرية الكامدة اللون، كبيرة الحجم، وكيف تتحرَّك صورًا/ مشهدًا بلا انفعالات وأفعال. سمير حسين، وهو المخرجُ المثقَّفُ سينمائيًا، يضعنا من حيث الصورة في مجموع منغلق، لصورٍ لا اشتقاقات لها. فالفعل يتكرَّر، يتجزَّأ، يتفتَّت ولا يلتمُّ معه أو إنَّه يمطُّه. أين ديمومة الزمن وتنامي الأحداث نحو انفجارات، ذروات درامية، كما في مسلسلات: وراء الشمس، قاع المدينة، فوضى، بانتظار الياسمين؟ أين تلك الصورة العضوية، الصورة العقلانية التي عرفناها وتميَّز بها؟ أين الأسود الذي ينسلُّ منه الأبيض؟




"على صفيحٍ ساخن"

يُذكِّرُنا عنوان المسلسل بمسرحية الكاتب الأميركي تنيسي ويليامز "قطَّة على سطح من صفيحٍ ساخن"، يذكِّرنا بمأساةٍ إنَّما يتكفَّلُ بحلِّها الأمل. هذا في صفيح ويليامز، أما في "صفيح" سيف الدين سبيعي فنحن مع مآسٍ تصل إلى درجة الجريمة الجنائية؛ التفريط، وإهانة الأطفال، ومحو آدميتهم، واغتيال مستقبلهم. مع ذلك؛ فإنَّ ما كتبه علي وجيه ويامن الحجلي، وما قام بإخراجه سيف الدين سبيعي، ليس مصيدة مأساوية، ولكنَّه الحماس للبحث في عالم الأحياء الموتى، في استغلال الأطفال وتشغيلهم في مهنٍ لا تليق بإنسانيتهم، عند فئةٍ تُسمى (النبَّاشون) أو مُتعهدي تكرير الزبالة، إذ يقوم الأطفال في النبش في حاويات القمامة ومزابل المدينة لجمع النفايات من البلاستيك والمعادن والكرتون وغيرها، في مكانٍ يخصُّ المُعلِّم النباش الذي يشتغل الأولاد عنده كأنَّهم عبيد لا يخالفون أوامره، ومن ثمَّ يقومون بفرزها لبيعها باعتبارها مواد أولية لأصحاب المصانع ليعيدوا تكريرها للاستعمال ثانية. يضعنا الكاتبان والمُخرج في "على صفيحٍ ساخن" أمام مسؤولية حماية الطفولة، ليس من إهمال الدولة، بل ومن جشع "الطاعون"- أدَّى دوره الممثِّل سلوم حدَّاد، و"الآغا"- أدَّى دوره الممثِّل عبد الفتَّاح مزيِّن؛ كونهما يتنافسان، ومن ثمَّ سيتنازعان، على كنز الأموال، من وراء استغلال الأطفال للقيام بأعمال جمع هذه النفايات.

وكأنَّنا كمشاهدين مع قطيع حيوانات، ولسنا مع بشر، مع أطفال؛ ما يكشف عن عالمٍ مليء بالمآسي، يشبه ولا يتقاطع، مع تلك الجرائم التي ينفذها تجَّار حبوب المخدرات والأعضاء البشرية، كخطٍّ موازٍ للنباشين، فنبقى مع نص روائي أدبي، إنَّما صُمِّمَ لحياةٍ تكون في صورة. ما يعني أنَّ المسلسل في جزءٍ كبيرٍ منه هو ضربة مؤلِّف، وليس ضربة مُخرج. فالكاتبان علي وجيه ويامن الحجلي يعرفان كيف يسردان؛ كيف ينسجان ثوب القص، ثوب السيناريو، والأُسُس التي تجعل منه صورة بصرية، من أحداثٍ وشخصيات، وفي زمنٍ وأمكنةٍ محدَّدة. أي أنَّهما كَتَبَا عملهما بوعيٍ، ومن منطلقٍ فكريٍ يتلاحمُ مع البناء السردي؛ بدون تمطيط المَشاهِد إنْ بالصور أو بالحوار. هذا التمطيط، أو الحشو الذي أخذ زمنًا طويلًا من أغلب أعمال هذا الموسم الرمضاني، حيث كُنَّا مع ثرثرات كلمية وبصرية، مع صورة مُفكَّكة، مُفتَّتة، مُفتعلة، وليس مع مَشاهِدَ تتابعُ فيها الصور وتتفاعل، بأداءٍ تمثيلي لممثلين عرفوا كيف يصرفون ويوظفون حركة الجسد أجزاءً وأطرافًا- أو في الوجه؛ فنقرأ تلك التعابير الشخصية- الأحاسيس والمشاعر والانفعالات ودلالاتها/ إشاراتها؛ إِنْ في شخصية الطاعون سلوم حداد، أو الآغا عبد الفتاح مزيِّن، أو تمارا بنت الطاعون، أو أم كرمو نظلي الرواس، أو أبو كرمو عبدالمنعم عمايري، أو في أدوار: أمل بوشوشة، باسم ياخور، سليم صبري، ميلاد يوسف، سمر سامي. أو شخصية "البريم"- أدَّى دوره الممثِّل معن عبد الحق- والذي قام أو أشرفَ على تنفيذ عقوبة فرضها الآغا بأن يتبوُل الأطفال على الخفاش- الممثِّل عبد الرحمن قويدر؛ مشهدُ قد يستاء البعض منه، ولكنّه ضرورة درامية، إذ ينمِّي ويقوِّي الانفعالات والحقد على الأغا، هذا الوحش البشري.





"قيد مجهول"

ثمَّة سببية في الانتقال من صورةٍ إلى صورة، لا طلاسم ولا ألغاز، بل دفقٌ تصاعدي للأحداث نحو صيرورة تطورية، نحو الإقامة في الوجود، فالناسُ ومصائرُهم التي ذهبوا إليها في هذه الحرب السورية وإن كانت واضحةً غير مُبهمة، إلاَّ أنَّ المسؤول عنها لم يُدن- هناك أكثر من تأويل. المُخرج السدير مسعود في "قيد مجهول"، كما المؤلِّفان لواء يازجي ومحمد أبو اللبن (من تمثيل: عبد المنعم عمايري وباسل خياط وهيا مرعشلي ونظلي الرواس وغيرهم)، يخترقون عوالم هؤلاء الناس النفسية؛ ضعفهم وقوَّتهم، فالحربُ هذه مثَّلت سقوطًا لكل قيم الجمال في وجدان الناس، والسدير مسعود يجمع في هذا المسلسل خطوطها المقطوعة والمُقطَّعة؛ ليس اكتشافًا، إنَّما كشفٌ بشيء من تحليل وتبسيط. في مسلسل "الكندوش" هناك تعقيدٌ بدون عُقَد- المُهم أن نصوِّر ونصوِّر تلك البيئة الشامية ولا تطوُّر، ولا تصاعدية. في مسلسل "حارة القبة"، إخراج رشا شربتجي، تأليف أسامة كوكش، وأداء: سلوم حداد، عباس النوري، صباح الجزائري، سلافة معمار، فادي صبيح، نجاح سفكوني، شكران مرتجى، نادين تحسين حسام بك، علي كريم، خالد القيش وغيرهم، سنقع في البيئة الشامية وفي زمن الحرب العالمية الأولى، وانعكاساتها على الحياة السورية، من اعتقال الشباب وتجنيدهم إجباريًا للدفاع عن الدولة العثمانية، ومن ثمَّ أثر هذه الحرب على الناس. رشا هنا في "حارة القبة" اشتغلت المسلسل بأحاسيس عقلية، هناك طرفٌ جاني وآخر مجني عليه- بريء، وصورتها لم تكن تنقل، كانت تحلِّل وتنتقد؛ أي كانت تحقِّق بعضًا من صورةٍ عقلية. في "الكندوش" - إِنْ اعتبرنا أنَّ ما أخرجه سمير حسين هو النص الذي كان على الورق- فنحنُ مع أحداثٍ خشبية، يتخشَّبُ الزمن فيها. مع سطحٍ، مع تسطيحٍ للوعي، قطعٍ للتفكير، استهانة بالعقل؛ كأنَّنا مع (باب الحارة) الأبُ الحرامُ لهذه السلسلة.

إنَّها مسلسلات الغزو المنشغلة بالظواهر الغليظة والفاقعة التي ترى السوريين كُتلًا لحمية بلا عقل وبلا قلب. بينما السدير مسعود في "قيد مجهول" على صغر مساحته (8 حلقات) وليس مطولات من 30 أو ستين حلقة وأكثر، فيضعنا مع فعلٍ؛ أفعال ونزاعاتٍ وصراعاتٍ إنسانية تحترم العقل. المسألة هنا مسألةُ (كيف) وليس (كَمْ). هنا كأنَّنا مع شريط سينمائي، مع (لقطات) وليس مع مَشَاهِد، مع أقطابٍ متضادة، مع دفقاتٍ بصرية؛ لونية وصوتية، ذاتُ موضوع، وفعلٍ: اجتماعي، سياسي، اقتصادي، حقوقي. مع حركةٍ تتسيَّد، لا تتسلَّط. فالفقراء يموتون جوعًا إنْ بقوا، وموتًا إنْ هاجروا، والأغنياء والتجَّارُ الجُدد يستبيحون البلاد؛ فينطُّونَ فوق القوانين، يحلِّلون الحرام ويحرِّمون الحلال من تهريب الأسلحة إلى تهريب الآثار، ولكنَّهما يتواجهان، يتبارزان- لا يتذكَّران، ولا يتذاكَران. وبايقاعٍ بصري نحو صيرورة أخلاقية، وإِنْ رأينا تلك المَشَاهِد الساخنة مثل الممثِّلة هيا مرعشلي عارية في حوض ماء الحمَّام فيما يواجهها الممثِّل باسل خياط، أو الأسخن منها؛ والمواطنُ يُصاب بنوبة صَرَعٍ أو بجلطةٍ حين تَرِنُّ في أذنيه كلمة (دولار)، أو أحدٌ ما يطلبُ منه بطاقته الشخصية؛ فلأنَّ مثلُ هذه المَشَاهِد ضرورة فنية وربَّما فكرية، وليست لإثارة وتحريض الغرائز، والتي سنألفها، وإِنْ لم نأتلف معها بسبب تكرارها كما في مسلسل "شارع شيكاغو" للمخرج محمد عبد العزيز، مع إنَّ عبد العزيز بنى صورته، وزَّعَ قواها وفاعلياتها بين حدَّين متضادين- هناك مواجهات بين لحظات التقلُّص والتوسُّع، هناك تعيينٌ وتجديد لاتجاه خطوط الفعل الإجرامي؛ غرائز، نزوات، انفعالات. فالعمياء- أدَّت دورها الممثِّلة سلاف فواخرجي وهي تُحب، وهي (ترى)، وهي تغني؛ بعد أن خرجت من قمقم الوصاية الأبوية، خرجت من المجهول إلى المعلوم، شكَّلت مشهد قوَّة.

سلاف فواخرجي  وجوان الخضر في مسلسل "شارع شيكاغو"


العمياء هنا تشقُّ ثياب الضعف، ثياب القهر الاجتماعي والسياسي. محمد عبد العزيز كان ينتقل من صورة إلى صورة، من وضعٍ إلى وضعٍ آخر، فنرى شخصياته تتفجَّر بالفعل الفيزيائي واللغوي؛ بعكس ما فعله المُخرج المثنى صبح في مسلسل "سوق الحرير 2"، كتابة حنان حسين المهرجي وسيف رضا حامد، وتمثيل: بسام كوسا، سلوم حداد، فادي صبيح، عبد الهادي الصبَّاغ ، كاريس بشار، نادين تحسين بك وغيرهم؛ الذي أعادنا إلى البيئة الشامية، وإن كان يُحسب له الغوص في مخاضات المجتمع السوري سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا في خمسينيات القرن الماضي، لكنَّها مخاضاتٌ جاءت مع صورٍ ذهنية ذاتُ وظيفة مُحدَّدة سلفًا، وكأنَّه لا يريد من المُشَاهِد أن يفكِّر. وإن فكَّر، فنخترع له حكايات مثل حكاية مسلسل "350 غرام" أي (القلب) كناية عن وزنه، كتابة ناديا الأحمر وإخراج محمد لطفي، تمثيل: عابد فهد، سلوم حداد، كارين رزق الله، خالد نجم، غريس قبيلي؛ عن محامٍ يستسهل اللعب على حبال القانون فيربح القضايا، غير أنَّه يُصاب بمرض يستبدل قلبه بقلبٍ آخر فيتحوَّل إلى النقيض؛ إلى شخصٌ طيِّبٌ بغاية الخُلق والكرم، فيصير يخسر قضايا موكليه!!. لماذا النوم- ننامُ في خدر الأفعال الرتيبة المتكرِّرة، فلا نرتقي بـ(المسلسل) وليس بالمُشاهِد إلى درجة تليق بكرامة هذا الفن الدرامي المُستحدث، والذي تحوَّل إلى ضرورة اجتماعية. ما هذا التمثيل الذي صار نمطيًا؛ حركةٌ بدون إحساس، شخصياتٌ لا تتشرَّب أوضاعها، أطعمة أغلبها يحرِّض غريزة الجوع- ما أكثر الجوعى، وتأخذ مساحات واسعة في المسلسلات بدون دوافع أو أسباب، ديكورات وملابس متشابهة خاصة في أعمال البيئة الشامية، لا أفعال كلامية، لا تقطيعات مدروسة، لا تطوير للتعارضات- التناقضات، لا اجتذابات.

المؤلِّفُ كما المُخرجُ، والممثلونَ والفنيون؛ إِنْ في الدراما المسرحية أو السينمائية والتلفزيونية، ليسوا مُحايدين. ما مِنْ فعلٍ في الدراما محايد، ما من إنسان آلي. نحنُ كجمهور/ جماهير سنتفرَّج كشركاء في صناعة الدراما؛ وليس كضحايا أو كائناتٍ لا عقلانية، فالدراما ما عادت تلك الحكايات التي تُروى في السهرات، والتي تثير مخاوفنا وقلقنا، ولا هي قارئة الكف أو الفنجان، ولا هي تلك العرّافة التي تستحضر الأرواح كأنَّها تقوم بمعالجة الموت، ذلك لأنَّ الموتى سينهضون حتى وإِنْ ماتوا.


*ناقد سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.