}

أحواض الزهور في حياة متنقلة

وداد نبي وداد نبي 14 مايو 2021

 

 

"ولدتُ لأكون حوض زهور، لا يغادر مطلقًا غرفة الطعام". كتبت الرسامة المكسيكية، فريدا كاهلو، هذه الكلمات في إحدى رسائلها، غاضبة ومستاءة من عجزها بسبب الحادث الذي أقعدها في فراشها سنة كاملة.  لكنها لسنوات واظبت على إدخال النباتات الخضراء والزهور في لوحاتها، سواء كخلفية أو كزينة للشخصيات التي ترسمها، فهل كانت تحاول رسم علاقة انتماء ومد جذور لها عميقًا في الفن من خلال تلك النباتات؟ ربما.

منذ حوالي ثلاثين عامًا، حين كنتُ طفلة اضطررت للمكوث ستة شهور في بيت جدتي بقرية من قرى مدينة كوباني، ذات المناخ الصحراوي، الجاف. كنت أراقب بملل طفولي كيفية تحويل جدتي وخالتاي بقعة الصحراء تلك إلى جنة صغيرة مساحتها مئات الأمتار. كانت النباتات الخضراء والزهور في كل زاوية من زوايا البيت، أحواض بلاستيكية مزروعة في ساحة الدار، تظلّلها شجرة توت كبيرة، فينمو تحت ظلالها النعناع والريحان وإكليل الجبل، والسوسن، والزعفران، والجوري والنرجس والأقحوان... وأنواع أخرى لا أستطيع تذكّر اسمها اليوم. وكانت توكل لي مهمّة مساعدة خالتي بسقاية تلك النباتات عصر كل يوم من أيام الصيف الحارّة تلك.

لم أعرف في ذلك العمر، ما الذي تمنحه العناية بتلك النباتات لهن، كنّ يستيقظن قبل الفجر، لعجن وخبز الخبز على الصاج، تنظيف الدار وكنسها من الداخل والخارج، ترطيب أرضية الفناء الخلفي بالماء، حلب الماشية، تسخين الحليب وتحويله للبن، وخضّ اللبن وتحويله لزبدة، ومن ثم تحضير الفطور والغداء لرجال العائلة. لذا كنت أستغرب كطفلة، لماذا لا يركنّ للراحة في ذلك الوقت المتبقي القليل لهنّ من يومهن الشاق، بدل الإسراع للاعتناء بتلك النباتات وتقليب التربة وقص الأوراق المريضة، وجلب الماء من البئر لسقايتها، والاستيقاظ من منتصف قيلولة الظهيرة لتغيير مكانها لآخر ظليل حين تحمى عين الشمس.


كان الأمر على نقيض بيت جدتي في بيت عائلتي في حلب، حيث رغم كل محاولات والدتي وأخواتي البنات زراعة نباتات منزلية، كنّ يفشلن ويخسرن كل النباتات بعد زراعتها بأسبوع واحد. ربما ذلك الفشل المتكرّر بالعناية بـ"الزريعة" الخضراء هو ما دفع أمي للقول: "إن النباتات لا تحبّ منزلنا، لأنها تنمو في كل بيوت الجيران والأقارب عدا بيتنا".

كبرنا أربع نساء، وفي قلبنا حسرة تلك النباتات التي لم تنمُ إحداها لدينا، لذا حين تزوجنا وأسّسنا بيوتنا الخاصة، عدنا لمحاولاتنا القديمة بزراعة تلك النباتات المنزلية، فعملت كل واحدة منّا جاهدة لتحويل بيتها إلى مكان مناسب لنمو تلك الكائنات الصديقة. أختي الوسطى حوّلت بيتها في قريتنا شبه الصحراوية إلى حديقة من حدائق الجمال، وكذلك أختاي المقيمتان في النرويج وبرلين. بدوري حين انتقلت إلى برلين وأسّست مع زوجي بيتنا، كان أول ما فعلته هو ملء كل زاوية ممكنة فيه بالنباتات المنزلية والعناية بها، كأنني كنت أستعيد طقسًا قديمًا تعلّمته من بيت جدتي، فالإحساس الذي تمدّه تلك الأرواح الصديقة للمنازل لا يمكن شرحه، وبعد ثلاثين عامًا فهمتُ لماذا كانت خالتاي تضحّيان بوقت راحتهما للاعتناء بتلك النباتات.

مؤخرًا بعد وصولي لألمانيا، بدأت ألاحظ أن عددًا لا بأس به من الأصدقاء والصديقات ملأوا بيوتهم بالنباتات المنزلية، إلى درجة أن صورها ملأت صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع صور كتبهم، الأمر الذي دفعنا لاستطلاع آرائهم في هذه المادة.

عن تجربتها في الاعتناء بالنباتات المنزلية ومتى بدأ لديها هذا الاهتمام، ردّت الشاعرة السورية، رشا عمران، المقيمة في مصر والتي ترجمت نصوصها إلى لغات عدّة: "أنا ابنة قرية خضراء، بيت أهلي في قريتنا مبني وسط غابة من أشجار السنديان المعمرة، خمس شجرات عمر الواحدة منهن يتجاوز المائة سنة على الأقل، عدا أشجار السرو والصنوبر التي تحيط بسور البيت، وأشجار الزيتون والخرنوب والرمان، أنا ابنة قرية جبلية في الساحل السوري، حيث الأحراش الخضراء تغطي الجبال طيلة أيام السنة. عيني تعوّدت على اللون الأخضر، كأنه أصبح جزءًا من تكوينها، رغم أنني كنت أعيش في دمشق، إلا أن صيفي كان في الملاجة (قريتي)، لهذا لم أشعر يومًا أنني أحتجت إلى ملء بيتي بزرع أخضر في دمشق، أو كما نقول في الدارجة (عيني شبعانة من الخضار). حين انتقلت للعيش في القاهرة، المدينة الصحراوية ذات المساحة الهائلة، التي تنمو أشجارها على أطراف النيل فقط، أو حيث مشى النيل يومًا ما وترك طميه نادر الخصوبة، بدأت أكتشف ماذا يعني العيش في مدينة صحراوية، لا تمطر السماء فيها أكثر من مرتين شحيحتين في السنة، ورياحها رمال تدخل حتى في الجلد. قضيتُ سنوات عدّة قبل أن يخطر لي أن أشتري أحواض زرع لبيتي. لم يخطر لي يومًا أنني قادرة على التعامل مع التراب؛ سيحتاج الزرع إلى العناية المستمرة إلى الإهتمام، وإلى ( الطبطبة والحنية)، كأي كائن حي، كالقطة البيضاء التي أربّيها وترافق وحدتي. ثمة في الزرع ما يوحي بالاستقرار".

رشا عمران 


أما الكاتبة والفنانة التشكيلية كفاح علي ديب صاحبة "نزهة السلحفاة والمقيمة في برلين" فتقول: "أنا أزرع الورد، لأنه بمكان ما داخلي، أنا فلاحة، وأحترم كثيرًا عمل الفلاحة والزراعة. أحب فكرة العناية بالكائنات الحية الأخرى التي لا تنتمي لجنسنا البشري. لذا فكرة العودة للطبيعة ورؤيتها بعين الرعاية حتى ترانا هي أيضًا بعين الرعاية هي شيء مهم جدًا"، في حين يقول الشاعر السوري، حسين الضاهر، المقيم في تركيا: "أستطيع القول إن النباتات المنزلية هي من تعتني بي وليس العكس. دوري في هذه العلاقة يقتصر على كوني مصدرًا للغذاء فقط. أما هي، نافذتي المطلة على الذكريات والأرواح المتنقلة التي ترافقني أينما حللت، كما أنها تطل أحيانًا كأيقونة في نصوصي، فهي تُخلق، تُزهر، تشيخ، وتموت/ مثلنا وبرفقتنا. أطلق عليها أسماء بشرية، وتطلق عبيرها في رئة حضوري".

ويتابع قائلًا: "ولدت وترعرعت في بيئة ريفية، وهناك شكّلت الأحواض التي تزرعها وتعتني بها أمي، جانبًا أخضر من روحي، إلى أن غادرت تلك الجنة مجبرًا، وحبست في كتل إسمنتية خانقة. ومنذ مدة قصيرة عملت على ترميم جزء من الفراغ الذي خلّفه فراق الريف، فبدأت باقتناء بعض النباتات التي أعرفها وربما تعرفني". 

كفاح علي ديب 



العلاقة بالجذور والأرض والثبات

عن سؤالنا عمّا إذا كان الاعتناء بالنباتات المنزلية يمنح جذورًا في المكان الجديد الذي نحاول تأسيس حياتنا الجديدة فيه، ردّت رشا عمران صاحبة "التي سكنت البيت قبلي" قائلة: "حين تزرعين نبتة خضراء في بيتك، فأنت تؤسّسين لعلاقة طويلة مع التراب؛ التراب بوصفه الثبات، بوصفه الأرض. لم يعد اللون الأخضر بجماله أو ألوان الورود هو المقصد فقط، بل التراب، أن تقلبي التربة كل مدة بيديك الاثنتين، أن تعلقي التربة تحت أظافرك، وتبقى رائحتها طويلًا على جلدك، هذا تأسيس لعلاقة مختلفة مع المكان الذي تعيشين فيه. ظهر لديّ هذا الميل أكثر في عزلة الكورونا. أنا أعيش في وسط القاهرة، في أكثر الأماكن ازدحامًا وضجيجًا، حين بدأ الفايروس وفُرض حظر التجول، شعرت بالخوف، خوف من الصمت المفاجئ حولي وخوف، طبعًا، من الإصابة والمرض والموت. كانت شرفتي الصغيرة، التي نادرًا ما جلست فيها، ملجأ لي، كانت الشرفات حولي، التي أيضًا نادرًا ما يجلس فيها أحد، ملجأ للجميع. لأول مرة أنتبه إلى جيراني. كنّا جميعًا نحتاج إلى رؤية الآخرين، خصوصًا أن غالبية سكان منطقتي هم وحيدون، مثلي، لا عائلات كبيرة. ملأتُ الشرفة بالنباتات الخضراء والورد، أتفقّدها صباحًا قبل أن أتناول أدويتي، وأتفقّدها مساءً قبل أن أذهب إلى النوم. مات بعضها طبعًا، وجفّ عود بعضها الآخر، حزنت وفرحت حين دبّت الحياة لاحقًا في العود الجاف، وظلّت عادتي في تقليب التربة على أرض الشرفة كل مدّة وتسميدها وإعادة زراعتها مستمرة كلما شعرت بالخوف أو بالغضب أو بالحنين".

فيما كان لكفاح علي ديب، الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربي (أدب الطفل)، رأي آخر، حيث قالت: "ولا مرة كان موضوع العناية بالنباتات، له علاقة بموضوع الهجرة بالنسبة لي، لأنه متأصل بتفكيري، قديم جدًا، منذ كنت صغيرة جدًا، لأنني ابنة بيئة ريفية وبنت مزارعين. فكرة ارتباطي مع الخضرة والزراعة أمر قديم، ليس له علاقة بموضوع الهجرة والمكان، يمكن أن يكون الجانب الوحيد الذي له علاقة بموضوع الهجرة، كوننا اليوم لسنا ثابتين، ويمكن أن نغيّر بيوتنا بنفس المدينة مرّات عدة، كما سوف أغيّر بيتي قريبًا، فيصبح الأمر كيف تفكّرين بالزراعة، وماذا تزرعين والكمية المرتبطة بهذا الموضوع، يصبح الموضوع تقنيًا بحتًا. لدي دومًا خوف من أن أزرع شتلة أو نبتة أو شجرة في مكان ولا يكون بمقدوري الوصول إليها والاهتمام بها ورعايتها، لأنني أشعر بتأنيب ضمير هائل، إذا تركت خلفي شتلة ولا أعرف إن كان هناك من يسقيها، أو إذا كان الشخص الذي يسقيها يتعامل معها كما أحب أن أتعامل معها، أخاف من هذه الفكرة، لذا أكون حريصة حين زراعة النباتات أن أكون قادرة على نقلها معي بسهولة، أو أكون ضامنة أنّ هناك أحدًا ما سوف يهتم بها حين مغادرتي".

حسين الضاهر 


وعن هذه الفكرة يقول حسين الضاهر، صاحب "مياه صالحة للقتل": "ما زلت لاجئًا أحمل الخيمة تحت إبطي وأتنقل. لم تمنحني التربة الجديدة سوى ورقة "حماية مؤقتة"، كما لم تمنحني حيزًا أمدّ فيه جذوري. وربما نباتاتي هي أيضًا تأقلمت مع حالة التنقل الدائم، فلم تعد تضرب جذورها أبعد من حدود أصصها. أن أحيا مثل نبتة تضربُ جذورها حتى نخاع الأرض.. نعم، هكذا أفكر على الأغلب، إنما للأسف، فخاخ الاغتراب دائمًا تصطادني، وأخشى ألا أقعَ وحدي؛ قلبي تشرّد من الهزائم، ولا أريد أن أرى نبتةً تنزفُ أمامي، لذا.. أكتفي ببعضها، ثلاث، أو أربع، من النباتات المفضّلة لديّ، لئلا أكون حاضرًا في نهاية المطاف على مجزرةً بشكل غابة، حتى إن كانت في مخيالي. أخيرًا، أنا أحاول أن أنسفَ المسافات اللغوية بيني وبين النبات؛ كل يوم في ذهابي ومجيئي أمامها، أهمسُ لها، أو أشاركها حديثًا ما، وبدون جنون مثل الضجيج الذي يعصفُ في حياتي، أقول إنها تجاوبني لربما بلغتها التي تتمثّل بلونها، ونضارتها، وعطرها".

 

 

*كاتبة وشاعرة كردية سورية.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.