}

توم يونغ.. حارس ماضينا الجميل

دارين حوماني دارين حوماني 5 مايو 2021
هنا/الآن توم يونغ.. حارس ماضينا الجميل
توم يونغ في حمام الجديد

 

توم يونغ، هل سمعتم بهذا الاسم؟ احفظوه جيدًا.. فنان تشكيلي من أولئك الذين يحرسون الزمن؛ لا يرسم، بل يبعث الروح حيث يلقي ألوانه، في الأمكنة التي وطأتها المنافي اللامطمئنة إلى طعم الموت.. البريطاني الذي وقع في الشغف الأخير لبيروت وأخواتها؛ آخر العشاق لهذا الوطن المقطّع الأوصال حيث الحزن ينمو على طبقات وعلى دفعات. كان يونغ في زيارة قصيرة إلى بيروت خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، فأصابته هذه الحرب بندوب نفسية. أراد العودة كمن يريد أن يدفع فاتورة من فواتير حزن هذا المكان. وبثقب ذهبي موصول بين حزنه الشخصي وهذا المكان، قرّر ردم المسافة بين لندن وبيروت والإقامة حيث الضباب الجوّاني وليس الطقسي، وحيث تتكاثر الكائنات المهمّشة، وحيث قد تنتهي الحياة على عجل دون استعداد مسبق للموت.


ا
لتاريخ، الذكريات، المشاعر المتبقية بعد مرور الزمن في الأمكنة المهجورة والصور الفوتوغرافية، كيف يمكن توثيق كل ذلك؟ ينقذهم توم يونغ من الموت، يلتقطهم ويضع ظلالهم لنا، أبنية وأحجارًا مستمدّة من خلفيّته في الهندسة المعمارية، ريشته بجموحها التعبيري المستمدّة من خلفيّته في الفن التشكيلي والمتفرّدة في استنطاق الكائنات المهمّشة والهوامش وإزاحة ما يؤلم المنسيّ عنه. ثمة بوصلة صوب الرائحة الأولى للجذور، مغامرة في تخييط الإحساس الجمالي الخفيّ إلى أقصى ما يمكن حبكه. من مشروع إحياء لآخر، يواصل يونغ تجربته في استحضار الظلال الكئيبة للأمكنة المتروكة والأطفال المتروكين والوطن المتروك، يواصل استثمار ألوانه في منحهم روحه حتى آخر نفس فني، ويخيط جلودًا جديدة للأجساد المهجورة.

توم يونغ أمام عملين له عن "هوليدي إن"


انطلق مشروعه الإحيائي من أحياء بيروت القديمة حيث الماضي لا يزال يربض مكانه في المباني القديمة المعمّرة على الطراز الكولونيالي، وفي مبانٍ أخرى شُيّدت من قبل أن يقرّر الاستعماري صقل هويته في بيروت بمئات السنين؛ بدأ يونغ باختيار هذه البيوت القديمة المهجورة وبإحيائها. أحد البيوت أصبح مركزًا للإتحاد الأوروبي بعد أن قدّمه توم يونغ للعالم عبر لوحات غير منسية؛ بيت آخر حظي بفعل اهتمام يونغ وانفجار 4 آب/ أغسطس بدعم استثنائي؛ البيت الزهري؛ فندق صوفر الكبير الذي كان محطة للساسة العرب والأجانب ومشاهير الفن كأم كلثوم، أحيا يونغ قتلاه إبان الحرب الأهلية، فرسم العروس بفستان الزفاف، الطهاة، اللاعبين حول طاولة الروليت. أحضرهم يونغ من الظلمة إلى النور، وجسّدهم في أعمال قابلة للحزن والفرح في الوقت نفسه. لا ثرثرة في لوحات فندق صوفر القديم، ثمة صمت عارم مفرط بالحسيّة وبالشغف إلى الماضي الذي أغلقت الحرب أبوابه، ففتحها يونغ بإيقاعات مدرّبة على التحكّم بعواطفنا الباطنية جدًا. هناك اقتحمنا يونغ بين الضوء والظل، وبين الرمادي والزهري. ومن هناك انتقل يونغ إلى فندق "هوليدي إن" المهجور في وسط بيروت، حيث اشتعلت أقسى جولات الحرب الأهلية اللبنانية فتحوّل الفندق إلى مركز مدفعية بين البيروتيتين الشرقية والغربية. جسّد يونغ من داخله ذاكرتنا الواعية واللاوعية بارتعاشات لونية ضبابية قادمة من ماضي يونغ أيضًا، ومن وحدته ومن سيرته الذاتية حيث مفاصل الحزن العميق. رسم يونغ أيضًا بيروت الثورة وأبطالها، جغرافيا انفجار 4 آب بكامل حزنه وسخطه وهشاشته، وأخيرًا معرض "إحياء" (Revival) في "حمام الجديد" الذي انطلق في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي وتوقف عددًا من المرات بسبب جائحة كورونا والإقفال المتكرّر، ثم انطلق مؤخرًا من جديد ولا يزال مستمرًّا في قلب سوق صيدا القديم. 

توم يونغ في فندق صوفر الكبير 



حمام الجديد

حمام الجديد، يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر، في عام 1720 تحديدًا. شيّده مصطفى آغا حمود، ذو الأصول المغربية، وهو آخر حمامات صيدا القديمة، لذلك سمّي بـ "الجديد"، جامعًا في زواياه تصاميم شرقية وعثمانية. ميزته تقدّمه عما سبقه من حمامات في تقنيات منها جرّ المياه والتدليك والاسترخاء. إنه ثاني أكبر حمام أثري في لبنان، مساحته حوالي 500 متر مربع. كان مركزًا مزدهرًا للتبادل المجتمعي والتطهير للناس من جميع الديانات الإبراهيمية الثلاث. أُقفلت أبوابه في عام 1949 بسبب النكبة الفلسطينية، وبسبب وصول إمدادات المياه إلى منازل الناس فانخفض الطلب على الحمامات العامة. كان حمام الجديد يفتح أبوابه يوميًا للنساء في أوقات قبل الظهر وللرجال ما بعده. تسعيرة الدخول إليه لم تكن تتعدّى بضعة قروش، وكان يشهد نشاطات اجتماعية عديدة ومن بينها حفلات زفاف لأبناء الأثرياء. وقد تعرّض الحمام لأضرار جسيمة خلال الحرب الأهلية. 

يونغ خلال ورشة فنية للأطفال في حمام الجديد (تصوير: حسان الزين- مؤسسة الشرقي)


تعرّف سعيد باشو على المكان، ومن خلال ترؤسه لمؤسسة "شرقي للإنماء والابتكار الثقافي"، قرّر إعادته إلى الحياة بعد سبعين عامًا من الإقفال وتحويله إلى ملتقى ثقافي ومركز معارض. تم افتتاح حمام الجديد في عام 2019، وقد حافظت المؤسسة على هندسته وعراقته، بلاط الموزاييك، الأجران الكبيرة والصغيرة الموزّعة على قاعة أساسية كبيرة وقاعات صغيرة، قبب حمراء من القرميد، وجهات نوافذ من الزجاج العسلي والأخضر الملكي، وزخرفات ورسومات تغطي الجدران المبنية بالحجر الرملي والمطلية بمادة الكلس الأبيض، والتي تمثّل محطات من الحقبات التاريخية التي مرّت بها هذه الحمامات. مشاريع سعيد باشو في حمام الجديد انطلقت مع توم يونغ عبر معرضه "إحياء" ومن خلال ورش فنية للأطفال بمرافقة يونغ، ولديه مشاريع ثقافية مستقبلية لهذا المكان.

يتضمّن معرض "إحياء"سبعين لوحة زيتية رسمها البريطاني توم يونغ عن حمام الجديد وعن صيدا؛ عن أسواقها، وعن بحرها وصيادي السمك على شواطئها. ومن خلال تحليل مواد أرشيفية وإجراء مقابلات مع كبار السن من سكان صيدا الذين لا يزالون يتذكرون الحمام عندما كان لا يزال يعمل، قام يونغ بتجميع فسيفساء كاملة لما كان عليه حمام الجديد، وما كان يمثّله للمجتمع. وقد استقى يونغ مادته المكانية والزمانية والشخوص من مجموعة عائلة صاصي الصيداوية ومواد أخرى من الباحثة ريم عباني.


إيقاظ كائنات ساكنة

كائنات ساكنة أيقظها توم يونغ، أحضرها من خزائن الغبار، وحرّرها من عزلتها. أخذ على عاتقه إعادتها إلى حيث كانت تفرح وتلهو بالمياه وبالحياة بضربات جمالية توغل في الحفر فينا. وكمن يضيء المدافن بمصباح متعدّد الألوان يرسم توم مع كثير من نعومة الضوء الضبابي وقليل من الزهري والأزرق والأصفر يهدّئنا بهم على طريقته، فيرينا الماضي من خلف قماش شفاف هادئ يحثّنا على التخيّل وعلى الفرح. تعدّدت أحجام اللوحات وكذلك ثيماتها. الجرن الكبير الذي كان يجمع المختلفين دينيًا دون تفكير مسبق بالألم تجاه الآخر، هناك كان يجتمع المسلم مع المسيحي مع اليهودي في جرن واحد، وحيث ثمة وقت للمياه وآخر للموسيقى والحب. فتيات بثياب الاستحمام يتحدّثن مع الضوء الملقى عليهن من قبب الحمام في السقف، لوحات أخرى لرجال أيضًا يفعلن الشيء نفسه مع المياه والضوء والظل، وحيث تتوّرط الألوان في الزمن نفسه الذي حدثت فيه الصور الحقيقية المرفقة بالأعمال.. يد تمسك يدًا من الانزلاق.. اغتسال العروس.. البركة اليهودية.. بورتريهات لوجوه فتيات، سينتقل إليك استرخاؤهن بعد الاستحمام.. وسيرافقنا في جولتنا في المعرض شريط وثائقي ليونغ خلال تنفيذه المشروع، من الرسم إلى السير في السوق ومقابلة كبار السن، منهم ناديا الأنصاري، حفيدة زهية الظريف، التي كانت آخر معلمة في الحمام، ثبّت يونغ بورتريه لها عند مدخل الحمام، وإبراهيم الأنصاري، الذي كان صغيرًا يرتاد الحمام مع أمه، وخليل مصطفى زول، الذي سيخبر عن آثار الهزة الأرضية الكبيرة التي ضربت صيدا في عام 1956 على حمام الجديد. كما ستحضر قصائد دانية الخطيب رفقة بعض الأعمال، تقول عن النافورة "من مكان مظلم عدتُ، ساكن، ومهجور/ رجعت.. ها أنا!/ أنصتوا إليّ بشغف أعزفها/ ألحاني من جديد أغنيها/ أذكرها أيام الأفراح هنا/ كانت العرائس من اليهود/ وحفلات نقش الحنة والعود/ وأهازيج نساء الحي وأم محمود..".

عملان لتوم يونغ في حمام الجديد 


يخرج يونغ من الحمام ليقع في شغف السوق القديم. يطلّ على حمّالي البضاعة في السوق فيرسمهم واحدًا واحدًا يوم كانت البضاعة تُحمل على الكتفين وعلى الدوّاب. العابرون على الطريق والجالسون على حافته، والأطفال على أرجوحة العيد التي لا تزال مكانها إلى الآن، وإن تحدّثت بغير ذلك الماضي. أتى يونغ بالأطفال من ذلك الزمن المطليّ بالفرح وقدّمهم في لوحة يتسلّق منها الهواء والموسيقى والبهجة. عمل آخر عن صيادي السمك الذين لا يزال أحفادهم في نفس الأمكنة على الخط البحري لمدينة صيدا، يصطادون السمك ويبيعونه ببساطة بائع لا يتشاطر على عابر. المارّون على الحلم، والمتجّولون في الذاكرة يمتصون ندوبنا فيحيلون أحزاننا إلى ظلال قديمة. يقدّم لنا توم يونغ صيدا 1982 إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان بألوان دخانية اقترفت الموت مرارًا. يمرّ أيضًا على ثورة 17 تشرين في صيدا عبر لوحة معنونة "قطع الطريق البحرية"، دواليب تحترق وأفراد مستاؤون وسط تدرّجات الأسود للألم نفسه الذي يمتد على مساحة لبنان. يقدّم لنا مغيب الشمس في صيدا، وبحرها، وألوانها المائية التي تبدو كرعشات قلب مثل خطوات الطفل الأولى تخبّئ أثرها فينا إلى الأبد. ننسى مع يونغ أننا في هذا الزمن، نقتفي أثر الحب القديم بين الناس الذي فقدناه تدريجيًا بفعل الحروب المتكرّرة والطائفية واستحضار نظريات المؤامرة والألم المجتمعي الكامل.

نسأله عن حبه للبنان رغم كل ذلك، وعن معرض حمام الجديد، فيحدّثنا وكأنه يتحسّس أوجاعًا دفينة.. لقد فعل وحده بنا فرحًا كاملًا مع كثير من الحزن.

من أعمال يونغ في حمام الجديد- إغلاق الثوار لطريق صيدا البحرية



التاريخ هنا مؤثر للغاية

عن بداياته في لبنان، يقول يونغ: "في عام 2006 أتيت إلى لبنان ضمن لجنة فنية لفترة قصيرة، فوجدتُ أمامي تاريخًا رائعًا وثقافة ملهمة للغاية، والناس ودودون جدًا. التاريخ هنا مؤثر للغاية، ومن الواضح أن الصراعات المختلفة كانت محزنة، وقد مرّ الناس بالكثير من المآسي. جذبني كيف تعافى الناس بسرعة ومضوا في حياتهم وكأن شيئًا لم يكن. كان ذلك إثر الحرب الإسرائيلية في صيف 2006.  هذه الأشياء كانت مؤثرة جدًا بالنسبة لي، لأنني مررت بالعديد من المآسي في تاريخ عائلتي، لذا أعتقد أنني أتعاطف مع اللبنانيين في هذا الصراع الذي يمرّون فيه باستمرار، وشعرت بذلك منذ أول يوم أتيت فيه إلى لبنان، عندما اندلعت الحرب ذلك الصيف كنت مستاءً وغاضبًا، لذلك قررت العودة مباشرة بعد الحرب في الخريف لتنفيذ ورش فنية للأطفال. وبدأت مباشرة في الرسم أكثر فأكثر عن لبنان. لوحظت أعمالي من قبل السيدة عايدة شرفان، وهي صاحبة غاليري، وقد دعتني للحضور إلى لبنان لبضعة أشهر من أجل إقامة معرض فني، وهذا ما حصل، وانتقلت إلى لبنان في نهاية المطاف في عام 2009".

نسأله عن عائلته لأن تعاطفه مع اللبنانيين مستمدّ من مآسيه الشخصية، فيجيب: "كنت في العاشرة من عمري حين رحلت أمي عن الحياة، ولاحقًا أختي. عانت عائلتي العديد من التجارب الصعبة والموت المأساوي. كان هناك عدد من الانقسامات في عائلتي، والتي أجدها مشابهة لموقف لبنان. كما تعلمون، ما هو لبنان، هو مكان تخوض فيه دول أخرى صراعات متعدّدة، لبنان ساحة لصراعات الآخرين. هذه ليست ثقافتي، أنا من إنكلترا، ولكن هناك شيء آخر يربطني على المستوى العميق الذي أتعامل معه في أعمالي؛ آمل أن أفعل شيئًا عبر لوحاتي لأشفي نفسي من الوجع العميق في داخلي. إذا كان بإمكاني فعل شيء إيجابي لأشخاص آخرين في نفس الوقت فسيكون ذلك رائعًا. هناك الكثير من التفاصيل، لكن أقول الآن أنه لدي أب ملهم للغاية. أنا محظوظ جدًا بوجوده. هو شخص متحمّس للتاريخ وللسفر وللشرق الأوسط. روح المغامرة التي لديّ أتت بالتأكيد من والدي ومن أختي وجدتي التي كانت فنانة. إنني مزيج من كل هؤلاء. دعيني أقول إنه كان هناك الكثير من الحزن، وأنا أحاول أن أتعلم كيف نتعامل مع الماضي وكيف يمكن الخروج عنه. نحتاج إلى الاندماج فيه والتعامل معه قبل أن نتركه يرحل عنا، إنها عملية طويلة".

اغتسال النساء في حمام الجديد 


عن أعماله في لبنان، يقول: "في الواقع، المشروع الأول لي كان "فيلا باراديسو" في منطقة الجميزة في عام 2013، وكان فارغًا لفترة طويلة. بعد المعرض، تحوّل المنزل إلى مركز ثقافي، والآن أصبح أحد المقرّات الثقافية للاتحاد الأوروبي في لبنان. قبل هذا المشروع كنت بدأت بعرض أعمالي في غاليري عايدة شرفان، لكن مع هذا المعرض انطلقت بمفهوم آخر في مشاريعي الفنية. بين العامين 2014 و2015 كان مشروعي الذي يحمل الثيمة نفسها اسمه "البيت الزهري" في منطقة المنارة، كان مكانًا ساحرًا. ثم نفّذت معرضين متشابهين لمنزلين في مار مخايل. بين العامين 2016-2017 عملت مع دار الأيتام الإسلامية في منزل اسمه "الزاهر" في منطقة الظريف، وهو مقرّ عام لدار الأيتام، وكان في السابق منزلًا للسفير البريطاني في لبنان وأقام فيه الجنرال إدوارد سبيرس بين الأعوام 1941 و1944، لذا فقد لامس هذا المنزل تأسيس لبنان كدولة حديثة. عملت على ورش فنية لأطفال دار الأيتام، وأقمنا معرض "بيروت الذاكرة والحلم"، وكان ذلك رائعًا. بين العامين 2017 و2018 عملت على مشروع فني لبيت "بستاني" في منطقة مار مخايل، وقد ساهمتُ في عملية إنقاذ المبنى من الهدم، ولكن انفجار 4 آب تسبّب بدمار الطابق العلوي، وربما الآن هناك فرصة كبيرة لإنقاذ هذا المنزل، وهذه مفارقة في هذا البلد. في العامين 2017 و2018 كان مشروع "فندق صوفر الكبير"، وكان رائعًا، ثم في عام 2019 قمت بمشروع فني لمحطة القطار المهجورة في منطقة رياق البقاعية. أحببت هذا المشروع لأن القطار موضوع مهم جدًا بالنسبة للبنان، نحتاج إلى النقل العام ولكن في ظل هؤلاء السياسيين في لبنان، من الصعب أن يكون لدينا نظام نقل. على أي حال، كان هذا المشروع مهمًا جدًا للتاريخ، إنه يمثّل تاريخ لبنان وذكرياته ومستقبله، ليس مهمًا على صعيد النقل فقط، بل من أجل البيئة أيضًا، فإذا كانت هناك قطارات كهربائية ستكون أفضل من استخدام السيارات. ومع كل هذه المشاريع، أرسم في فندق هوليدي إن أعمالًا عن بيروت وتراثها وثورتها".

وعن اختياره لتنفيذ مشروع فني عن حمام الجديد ومدينة صيدا، يردّ: "في الواقع دُعيت لرؤية المكان من قبل المالك سعيد باشو، وهو من صيدا، وكان قد شاهد معرضي في فندق صوفر الكبير، وأُعجب بالفكرة، وكان قد اشترى لتوّه حمام الجديد، فدعاني إليه، وكان يأمل أنه بإمكاني أن أنفّذ مفهومًا مشابهًا لفندق صوفر عن حمام الجديد، فأعيد الحياة إليه كمكان للثقافة والفن والموسيقى وتعليم الأطفال على هذه الفنون، والذي أعتبره جزءًا كبيرًا من عملي. في الواقع كنتُ قد شاركت في فيلم مع قريب له وهو عبد الله البني، وهو منتج رئيسي في قناة الجزيرة. كنت في تلك الفترة أرسم في فندق هوليدي إن، وأخذني عبد الله البني إلى حمام الجديد لمقابلة سعيد باشو. وهكذا أتيت إلى صيدا من خلال مشروعين، من فندق صوفر ومن فندق هوليدي إن".

سوق صيدا القديم وصيادو السمك في حمام الجديد



في لبنان أجد الكثير من الإلهام

نخبره عن استغرابنا أنه في الوقت الذي يرغب معظم اللبنانيين في السفر إلى أوروبا في ظل كل المآسي والصعوبات التي يعاني منها اللبناني، نراه يقرّر الإقامة في لبنان، يقول: "أعيش في لبنان وأذهب إلى لندن ثلاث مرات في السنة لأرى عائلتي وألتقي بأصدقائي. في لندن أقمت ثلاثة معارض وعددًا من المحاضرات حول عملي في لبنان. أجد في لبنان الكثير من الإلهام لفني. بالنسبة للفنان، يجب أن يكون في المكان الأكثر إلهامًا، والمكان الأكثر إلهامًا ليس هو المكان الأكثر راحة. وقد تختلف حياة الفنان عن طرق حياة الآخرين. يجب أن يكون قلبك في المكان حيث مصدر الإلهام، وهذا ما وجدته في لبنان. إنكلترا أكثر أمانًا والحياة فيها مستقرة وآمنة، لكنها ليست ملهمة، كما أنه لديّ هنا الكثير من الفرص من أجل الفن. وبالطبع الطقس الرائع وهو يأتيك مجانًا، فأنت لست بحاجة إلى حكومة جيدة لتتمتع بطقس جيد وطعام مذهل ولذيذ، وأعتقد أن الناس يأخذون ذلك كأمر طبيعي ولا يدركون أهميته، ولا يمكنهم رؤية هذه الأشياء، لأنه بطبيعة الحال، الاقتصاد سيء للغاية والوضع السياسي سيء للغاية. إنه تحدٍ بالتأكيد. عملي كما ترون في حمام الجديد في صيدا لا يتعلّق فقط بالرسم، إنه يتعلّق بالحفاظ على العمارة التراثية المهجورة، وهناك العديد من الفرص للقيام بمشاريع مذهلة، فنادق قديمة، أسواق قديمة، وحمامات قديمة، ولا يوجد نفس الخيار في إنكلترا، فقد تم إصلاح لندن تمامًا، ولم يعد هناك المزيد من الخيارات للأفكار الفنية. لدي بعض المسؤوليات في إنكلترا، فوالدي مريض. لكني أرغب بأن استمرّ هنا بقدر ما أستطيع في محاولة للمساهمة بشيء إيجابي لهذا المكان. بيروت تمرّ بفترة صعبة للغاية، مع الاقتصاد والسياسة وصدمة الانفجار الذي دمّر منزلي والإستوديو الخاص بي. لقد تمت دعوتي لحضور اجتماع بعد ظهر ذلك اليوم (4 آب) حول حمام الجديد، وكانت فرصة رائعة للغاية لأنني دُعيت للاجتماع، لقد أنقذ مشروع حمام الجديد حياتي بالفعل، وأعتقد أني مُنحتُ حياة ثانية، وهي فرصة لي لمساعدة الطلاب اللبنانيين والأطفال، أريد المساعدة في إلهامهم. ربما في المستقبل يمكن أن يكون لدي مشروع ثقافي دائم، مركزًا للجمهور لمشاهدة محاضرات دائمة في الفن، ومكتبة كبيرة، ومدرسة للفنون. سيكون مكانًا يستطيع فيه الأطفال والكبار القدوم إليه، وسيكون التعلمّ للجميع، الكلّ مرحّب به بغضّ النظر عن الخلفية الاقتصادية أو الدينية؛ لن يكون هناك أي انقسامات".

ويختم توم يونغ: "لدي إيمان بأن الباب سيُفتح لي في مكان ما، لبنان يفعل ذلك دائمًا من أجلي، لدي أفكار كثيرة؛ وقد تكون لديّ مشاريع عن دير القمر، عن طرابلس، وربما عن بعلبك".

ينبش توم يونغ بالرفش عن أكثر الأمكنة اختفاءً في العتمة، ينقلها من صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود إلى لوحة فنية تعبيرية بألوان حميمة، يتحسّس أحاديث من مرّوا على هذه الأمكنة، يوثّق لغاتهم بصريًا، يسلّم الوجوه والأشياء روحًا وموسيقى ومعنى من أجلنا لاستعادة أجزاء من ماضينا الجميل. مع توم يونغ يستحيل الموتى أحياءً في الذاكرة الجماعية الكبيرة لهذا الوطن المجزّأ شعوريًا، الذي لا يخاف حرّاسه من اندثار تراثه بين كل مأساة وأخرى قادمة على الطريق.


توم يونغ في حمام الجديد

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.