}

مُفْدي زَكريّاء.. إِلياذةُ السّماءِ الصّادِحةُ بِحريّةِ الأرْض

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 12 يونيو 2021



لَم يكُن الشاعرُ الجزائريُّ مُفدي زكرياء (احترتُ مِن تخبّط المراجِعِ هلْ هُوَ مُفدي زكريّا أمْ مُفدي زكريّاء) (1908 ـ 1977)، وحدَه صاحبَ (إلْياذة الجزائِر)، بلْ كانَ معهُ آخرَون، أوْ لِلدّقةِ: آخَران: مولود قاسم نايت بُلقاسم، وعثمان الكعّاك.
كلاهُما شارَكاه في اختيارِ روحِها، كَما شارَكاه الاهتمامَ نفسَه بِقيمتِها، والمطالعةَ مِن أجلِ إنجازِها، والانتباهَ لأيّ تفصيلةٍ قدْ تُفيدُ مَرَاميها، والتقصّي حولَ سراديبِها، والسّؤالَ عن أيِّ معلومةٍ تقدّم إضافةً في سياقِها. بُلقاسم والكعّاك، شارَكاه، إلى ذلِك، في تعدّد جِهات روافدِها المكانيّة: الجزائر وتونس والمغرب، حيث كان مُفدي يعيش في المغربِ (الرّباط)، ومولودُ مقيمًا بالجزائر، وعثمانُ في تونِس.



مُعجمُ الإلْياذة..




قبلَ أنْ نخوضَ في المعجمِ الذي استلهمَ زكريّاء منهُ حروفَ إلياذتِه الألفيةِ الخالِدة، وقبلَ أنْ نعرّج على تعريفٍ ممكنٍ لمصطلحِ إلياذَة، لعلّنا نستبقُ ذلكَ بتعريفِ مفهومِ الشعرِ الملحميِّ الذي هُو، بحسبِ الباحثِ والأكاديميّ اللبنانيّ أحْمد أبو حاقّة (1929 ـ 2011): "القصصُ البطوليّة، والأعمالُ العظيمةُ الخارِقة، والسيْرُ الطويلُ المتشعِّب. إنه حكايةُ نضالٍ شعْب، وسرديةُ تطوّره، وتاريخُ أمجادِه، وسجلُّ وقائعِه الكُبرى. يُعنى بالإنسانِ كجماعةٍ لا كفرْد، ويهتمُّ بالفعلِ الكلّيّ على نقيضِ ما يفعلُ الشعرّ الغنائيّ، وهو يمجِّد الأمّة، ويمدحُ فضائلَها ويتغنّى بِما يصدرُ عنْها مِن عمَل".
أمّا الباحثةُ الجزائريّة، فتيحة شقراني، فَترى في أطروحتِها "المعجمُ الدينيُّ في إلياذةِ مُفدي زكرياء"، المقدّمة عامَ 2016، لِنيْل درجةِ الماجستير مِن قسمِ اللغةِ العربيةِ وآدابِها في جامعةِ أَبي بكِربلقايد في تلْمسان، أن الملحمةَ هيَ شعرٌ موضوعيٌّ يتّصفُ بالطولِ، ويحكي بطولةَ شعبٍ في فترةٍ ما مِن تاريخِه بكثيرٍ من التعلّق والحماسةِ، وَبالاعتمادِ على الخوارقِ والأساطير.
بالانتقالِ من الملحمةِ إلى الإلياذَة، فإن شقرانيّ ترى أن كلمةَ إلْياذة تحيلُنا، بوصفِها عتبةً، على مفهومِ الملْحمة الّتي هي بحسبِ تعريفِها "قصيدةٌ سرديةٌ بطوليةٌ خارقةٌ للمألوفِ، تعتمدُ على مخيلةٍ إغرائيةٍ يخلقُها عالمٌ أوسعُ وأكبرُ من العالمِ المعْروف".




شقرانيّ تقولُ، في سياقٍ متّصل، إن الملحمةَ هي تعريبٌ لكلمةِ épos الإغريقيّة، "وقد ظهرَ المصطلحُ بالعربيةِ لأوّل مرّة في بدايةِ القرنِ العِشرين، عنْدما بدأَت النهضةُ العربيةُ تؤْتي ثمارَها، وبدأَ النقدُ العربيُّ يفكّر في الاستفادةِ مِن تراثِ الغربِ ونقدِه".
ها نحنُ أمامَ تعريفيْن للملْحمة في أطروحةٍ أكاديميةٍ واحدةٍ، وهُما (التّعريفان)، عمومًا، يتقاربانِ إلى حدٍّ بَعيد. ولا بأسَ لو اكتفيْنا من تقليبِ وجوهِ الملْحمة، منتقلينَ إلى الإلياذةِ التي يعرّفها النّاقدُ والأكاديميُّ العراقيُّ علي جواد الطاهر (1922 ـ 1996) أنّها "قصيدةٌ تقومُ على السّردِ القصصيِّ، وتبلغُ من الطّول آلافَ الأبْيات، وتتضمّن حادثةً بطوليةً خارقةً وقعتْ فعلًا في تاريخٍ سابقٍ على النُّظم، فدخلتْ في تقاليدِ شعبٍ من الشّعوب، وفي أمجادِهِ وأناشيدِ شعرائِهِ وحكاياتِهِ وأساطيرِهِ، محلّقةً في أقْصى خيالِه، راسمةً خِلال تحْليقِها هذا حدودَ المثلِ الأعلى للشعورِ القوميّ. يتناقلُها جيلٌ عن جيلٍ لأنّها تستحيلُ رموزًا للعواطفِ الجماعيةِ الجمعيةِ الضخمةِ وطنيةً وإنسانيةً ودينيّة".
أمّا النّاقدُ اللبنانيّ ميشال عاصي (1927 ـ 1993) فيرى أنّها: "قصيدةٌ شعريةٌ طويلةٌ تدورُ أحداثُها حولَ معاركَ ضخمةٍ وبطولاتٍ خارقةٍ خاضَها شعبٌ من أجلِ قضيةٍ تتصلُ بوجودِهِ الإنسانيّ والقوميّ، ودفاعًا عن مأثوراتِهِ ومقدساتِهِ العريقَة، وهِي إذْ تصفُ المعاركَ والبطولاتِ، فإنّها، في الوقتِ نفسِه، تصوّر عصرًا بكاملِهِ من عصورِ هذا الشّعب، وما يعيشُ فيهِ من تقاليدٍ، ويسْعى إليهِ من مُثُل، ويتبنّاه من مفاهيمَ ومعتقداتٍ وأفْكار".
إنّها، على سبيلِ المِثال، إلياذةُ هوميروس اليونانيةُ حولَ حربِ طروادَة، "حدثٌ واقعيٌّ ملفوفٌ في لباسِ الأسطورةِ والخيالِ" (شقرانيّ). إنّها، أيضًا، وأيضًا، "ملحمةٌ بِدائيةٌ مِن صنيعةِ الإنسانِ القَديم" (شقرانيّ).
من هُنا، نجدُ أنّ الإلياذةَ "حملَت الخُرافة في طياتِها، ومَع ذلك لا تنْفي وجودَ الواقعيّة، وممّا لا شكّ فيهِ أنّ كلَّ أسطورةٍ ملحميةٍ تتضمّن في جذورِها بذرةً تاريخيةً دقيقةً يُطلِق عليها الشعراءُ ما يحْلو لهُم". (المعجم الأدبي، جبور عبد النور، ص 264).
تدورُ الإلياذةُ، إذًا، حولَ الخرافةِ وأبطالِ الأسطورةِ أمثالَ هوميروس، فرجيل، والشهنامة الفارسية... إلخ، على عكسِ الملحمةِ الحديثةِ التي تتناولُ بطلًا واحدًا، وهِي أقربُ إلى الواقعِ منْه إلى الخَيال. هذا ما جسّده تقريبًا مُفدي زكريّاء من خلالِ جعلِ الجزائرِ بطلًا لإلياذتِه ذاتِ الألفِ بيْت.
قدْ يسألُ سائلٌ هُنا، وما هِي "إلياذةُ الجزائر" هذه؟ إنَها بحسبِ شقرانيّ وما أجمعَ عليهِ الباحثونَ والنّقّاد الجزائريونَ وغيرُهم: "مدوّنةٌ شعريةٌ مكتوبةٌ في ألفِ بيتٍ وبيْت".
الإلياذةُ عندَ الغربِ ملحمةُ النّاسِ ومجرياتُ التّاريخ، بعدَ أنْ خالطَها ما خالَطَها من أساطيرَ وخوارِق. أمّا عندَ مُفدي زكريّاء فهِي "التّاريخُ والبطولةُ المشْدودان والفِعل الدّائم للنّاس وهم في دوريْن أساسييْن من أدوارِ حياتِهم:
الدّور الأوّل: هو مواجهة المحتلّ بالأرواحِ الزّكيّة والدّم الطّهور والشّجاعة النّادرة.
الدّور الثّاني: هو البناءُ الأزليُّ الدّائم منذُ بداياتِ العِمران الأوْلى، وحتّى يومِ النّاس الرّاهن". (شقرانيّ).
أمّا تاريخُ الإلياذةِ فهُو ثلاثيُّ الأبعادِ والدّوائر، فهو أوّلًا: تاريخُ الجزائرِ عبرَ امتداداتِه الواسِعة. وثانيًا: تاريخُ المغربِ العربيّ الحافلِ بِالمعاني. وثالثًا: التاريخُ الإسلاميُّ الرّحيبُ عبرَ انجدالٍ شعريٍّ فكريّ.




سجّلت إلياذةُ الجزائرِ الأيامَ الخوالدَ في حياةِ الشعبِ الجزائريّ انتسابًا للكتاباتِ العربيةِ القديمةِ التي سجّلت أيامَ العربِ، واقتداءً بالمدوّنات الشعريةِ الغربيةِ الّتي حفظِت تاريخَ البلدانِ وأفعالَ البشرِ العِمرانية وبطولاتِهم الأسطوريّة.
إنّ الوقوفَ على إلياذةِ الجزائرِ هوَ وقوفٌ أمامَ موهبةٍ شعريةٍ نادرةٍ في عطائِها، وجمالِها، وقدرتِها، وإحاطتِها الآسرة، كما أنّه وقوف أمام مدوّنة التاريخِ الجزائريّ، وعلاوةٌ على ذلِك، هوَ وقوفٌ أمامَ معطياتِ الحياةِ وجَوَلان النّاس وتياهةِ العقولِ والأدوارِ الاجتماعيةِ الّتي اقتضتْها معطياتُ الحَضارة.
بِناءً على مَا تقدّم، تنبضُ إلياذةُ الجزائرِ في كلِّ سطرٍ مِن سطورِها، بِألمِ الجزائريينَ الذي نزفَ طِوال قرنٍ ونصفٍ قرنٍ مِن الزّمن.
وهِي، بِهذا المعنى، ووفقَ هذهِ المُعطيات: أجملُ وأكملُ صياغةٍ لتاريخِ الجزائرِ بآمال شعبِه وآلامهِم، بانتكاساتهم وانتصاراتهم. كما هيَ وظيفةُ التّاريخ لأيةِ أمّة من الأُمم، إذْ هوَ عقلُها، كَما قالَ الفيلسوفُ الألمانيّ شوبنهاور "التاريخُ للأممِ هوَ كالعقلِ للأفْراد". إنّه مرشدُها ودليلُها وخلاصةُ تجاربِها وسجلُ مجدِها ووجودِها كأمّةٍ بينَ الأُمم بتأكيدِه عناصرَ الشخصيةِ ومكوّناتها الذّاتية والأَصالة لَديها.
وفي الإلْياذة، إضافةً لِمختلفِ ما تقدّم روحٌ مغاربيّةٌ جامِعةٌ تتوقُ إلى وحدةٍ عميقةٍ يتواشجُ حولَها أبناءُ الجزائرِ والمغربِ وتونِس. هذا ما تؤكدُه كثيرٌ من مقاطِع الإلْياذة:
"سلامٌ على المغربِ الأكبرِ/ على طبعِهِ النّاصعِ الأطهرِ
أحييّ الأُلى آزَروا حربَنا/ إلى النصرِ في ريحِها الصّرصَرِ".
أمّا عشقُ الجزائرِ حتّى الثّمالة، فهوَ عشقٌ تنبضُ فيهِ مئاتُ الأبياتِ في الإلْياذةِ التي حرّضه وشجّعه على نظمِها في العام 1971، رفيقُ دربِه مولود قاسم، وأنجزَها مُفدي في العام 1972، وألَقاها أوّلَ مرّةٍ في العامِ نفسِهِ في افتتاحِ مؤتمرِ الفكرِ الإسلاميّ الذي انعقدَ عامَ 1972، في مدينةِ تلمسانِ الجزائريّة:
"فَيا أيها النّاس هذِي بِلادي ومعبدُ حبّي وحلمُ فُؤادي
وإيمانُ قلبي وخالصُ دِيني ومبناهُ في ملّتي واعْتقادي
بلادي أحبّك فوقَ الظّنون وأشْدو بحبكِ في كلِّ نادي
عشقتُ لأجلكِ كلَّ جميلٍ وهمتُ بحبكِ في كلِّ وادي
ومن هامَ فيكِ أحبّ الجَمال وإنْ لامَه الغُشم قالَ: بِلادي!".
الروحُ القوميّة العربيّة، والتأثّرُ بالنصّ القرآنيّ، ظاهرتانِ تعجُ القصيدةُ المحلميّةُ بقرائِنِهِما:
"وفي قدسِ جنّاتنا النّاضرة وجوهُ إلى ربِّها ناظِره
تمدّ المُعزّ لدينِ الإله فيصنعُ جوهر والقاهِره!
ويستلهمُ النيلُ من أرضِنا صِفانا، وأخلاقَنا الطّاهره
ويجْري رخاءٌ على هدْينا يواكبُ أفضالَنا الزّاخره
وتُفهمُ رمسيسَ معنى انعتا قِ الشّعوب، جزائرُنا الثّائره".



قِصّةُ النّشيد..



بعدَ اندلاعِ ثورةِ تحريرِ الجزائرِ من الاستعمارِ الجزائريّ البغيضِ، أدركُ قادةُ جبهةِ التّحرير، ضرورةَ وجودِ نشيدٍ ينتصرُ للثّورة ويلتفُّ الشعبُ حولَه. من فورِها، توجّهت الأبصارُ نحوَ مُفدي، ولكنّ قادةَ الثّورة وضعوا لذلكَ النشيدِ محدّدات ومعاييرَ، على ناظمِه أن يلتزمَ بِها: المعيارُ الأولُ أن يشكّل النشيدُ المرتقتُ نداءً لِجماهيرِ الجزائرِ أن يلتحقوا بالثّورة تحتَ رايةِ جبهة التحريرِ الوطنيّة، وليسَ تحتَ لواءِ أيِّ حزبٍ، أو حركة. المعيارُ الثّاني أن يتضمّن إدانةً واضحةً وصريحةً للدّولةِ المحتلَّة (المستعمِرة) باسمها، وبإيرادِ جرائمِها. أمّا المعيارُ الثّالثُ أنْ لا يحتوي على اسمِ أيِّ قائدٍ مهما تعاظمَت إنجازاتُه من أجلِ الجزائرِ، ومن أجلِ تحريرِها، فالنشيدُ للشعبِ والبطلُ هوَ الشّعب، وعلى نشيد الثّورةِ/ نشيدِ الجزائرِ أن لا يحتوي على أيّ بطولةٍ فرديّة.
انكبّ زكريّا في دكّانِه لِبيعِ القِماش ينقشُ نشيدَ الثورةِ/ الجزائرِ نقشًا، كلمةً تلوَ الأُخرى، دماءُ الشّهداء حاضرةٌ في وجدانِه، حلمُ التّحريرِ يداعبُ مخيلتِه، وإذا بالنشيدِ يولدُ عام 1955، وفي ثناياهُ ممكناتِ الخُلود:
"قسمًا بالنّازلاتِ الماحِقات/ والدّماء الزّاكياتِ الطاهرات
والبنودِ الّلامعاتِ الخافقات/ في الجبالِ الشّامخات الشّاهقات
نحن ثُرْنا فحياةٍ أو مَمات/ وعقدْنا العزمِ أنْ تَحيا الجزائر
        فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...".
إلى أنْ يقولَ والفنانُ المصريُّ محمّد فوزي (1918 ـ 1966) يلحّن ويتجلّى:
"يا فَرنسا قدْ مَضى وقتُ العِتاب/ وطويناهُ كما يُطوى الكِتاب
يا فرْنسا إنَّ ذَا يومَ الحِساب/ فاسْتعدي وخُذي منّا الجَواب
إنَّ في ثورتِنا فصلَ الخِطاب/ وعقدْنا العزمَ أنْ تَحيا الجزائر
        فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا..".
ولعلّ أصدقَ تعبيرٍ عن قيمةِ هذا النّشيد، وانحفارِه عميقًا في قلوبِ الجزائريينَ وذاكراتِ وجودِهم، تلكَ الدّموع الغالِية التي ذرفَها الباحثُ والمؤرِّخُ د.محمّد الزعيديّ عندما ذهبَ الحديثُ في الفيلم الوثائقيّ الذي أنتجتْه الجزيرةُ الوثائقيةُ حولَ مُفدي زكريّا، وأخرجهُ صُهيب أبو دوْلة، باتّجاهِ النّشيدِ الوطنيّ الجزائريّ. مع انسيابِ الدّموع قال: "إذا كنّا نحنُ جيلُ الاسْتقلال، كلّما ننشِد "قسمًا" تُذرَفُ الدّموع. نحنُ الذينَ عِشْنا مرارةَ الاحْتلال، من خلالِ ما عشْناهُ من آثارِ اليُتْمِ والتّشرُّد. نعَم لا تزالُ تفعلُ فينا "قسمًا" فعلَها، وتحوّلنا إلى قنابلَ تبحثُ أينَ تنفجِر، ولذلِك صنعتْ منّا هذهِ الكلماتُ وطنيينَ من نوعٍ آخَر. قد نساومُ في كلِّ شيءٍ، إلّا أنْ نساومَ على ذرّةٍ من تًرابِ هذا الوَطن".



نبضُ البِدايات..
في بَني يزقِن جنوبَ الجزائِر. وسطَ فَصاحة الصّحراء ومساحاتِ تأمّلها، شرعَ مُفدي زكريّا بِقراءةِ القرآنِ الذي كانَ أثرُه واضحًا في ثقافتهِ وتكوينهِ التعليميّ فِي ما بَعد. أُرسل زكريّا ضِمن البعثةِ الميزابيةِ إلى تونِس، وتحصّل هناكَ على الشهادةِ الثانويةِ من "الخلْدونية"، ثمّ التحقَ بجامعةِ الزيْتونة، وفيها تخرّج. مبكرًا، منذُ أوائلِ ثلاثينياتِ القرنِ الماضي، انضمّ الشاعرُ إلى صفوفِ العملِ السياسيّ والوطنيّ، فكان مناضلًا نشيطًا في صفوفِ جمعيةِ طلبةِ شمالِ أفْريقيا المسْلمين، وحزبِ نجمةِ أفْريقيا الشّمالية، وحزبِ الشّعبِ، والانتصارِ للحرياتِ الديمقراطيّة، ثمّ حزبِ جبهةِ التّحريرِ الوطنيّ الجزائريّ مساهمًا مساهمةً فعّالة في النشاطِ الأدبيّ والسياسيّ في كاملِ المغربِ العربيّ قبلَ الثّورة التحريريّة. دخلَ السجنَ خمسَ مرّات؛ ابتداءً مِن سنةِ 1937، وانتهاءً بسنةِ 1959، حينَ فرّ مِنه ملتحقًا بصفوفِ جبهة التحريرِ الوطنيّ في الخارِج. إلى جانب هذا، كان مفدي زكرياء أمينًا عامًا لحزبِ جبهةِ الشّعب، ورئيسًا لتحريرِ صحيفةِ "الشعبِ" الداعيةِ إلى استقلالِ الجزائر في سنةِ 1937. (يُنظر عبدالعالي رزّاقي، نماذجُ من الشّعر الجزائريّ المعاصِر "شعرُ ما قبلَ الاسْتقلال" مجلةُ آمال. ع 1، ص 93).




أمّا اسمُهُ الحقيقيّ فهُوَ زكرياء بن سليمان بن يحيى بن الشّيخ الحاج صالح سليمان. ولقبهُ الشّيخ، أو آل الشّيخ. ولُقّبت العائلةُ بِآل الشّيخ لأنّ جدّه الحَاج سُليمان كانَ أحدَ شيوخِ مدينةِ بَني یزْڤن، ويترأسُ الاتحادَ الميزابيّ.
ولزكريّاء أسماءٌ وألقاب مِثل: الفَتى الوطنيّ، أبو فراس الحمدانيّ، ابن تومَرت. ولقّبه أحدُ زملاءِ البعثةِ الميزابية بِـ مُفدي، فأصبحَ يُعرف بِه.
وُلدَ يوم الجمعة 12 جمادى الأول 1326 هجرية، الموافق لِـ 12 حزيران/ يونيو (جوان بالمغربية) 1908 ميلادية، ببلديةِ بَني يزْڤن بمنطقةِ بَني ميزاب، أوْ ما يُعرف حاليًّا بولايةِ غِرداية.
تصفهُ الباحثةُ الجزائريةُ د.وهيبة وهيب في كتابِها "المعجمُ الشعريُّ عندَ شعراءِ الثّورة الجزائريّة، دراسةٌ معجميةٌ دلاليّة" (وهُو بالمناسبةِ أطروحتُها لنِيل الدّكتوراة) قائلةً: "كان مُفدي زكرياء أنيقًا جدًّا بحيثُ لا تراهُ إلاّ وهُو يرْتدي بذلةً أوروبيةً فاخِرة، بربطةِ عنقٍ وقميصٍ يتأوّجان مَعها في اللّون".
تنحدرُ أسرةُ زكريّاء مِن بني رستم، الّذين أسّسوا مدينةَ تيهرت في القرنِ الثّاني الهِجري (تيارت حاليًّا).
تعدُّ فترةُ مكوثِهِ في تونِس "مرحلةَ التّكوين الأصيلِ التي وجهتْه التوجيهَ الأدبيَّ والسياسيّ، كَما كان للبيئةِ الإسلاميةِ التي نشأَ بِها ولمصادرِ ثقافتِهِ الدينيةِ ولِما عاناهُ من استبدادِ الاستعمارِ الفرنسيّ أثرًا في تشكيلِ شخصيتِه الشعريةِ المتحديةِ التي طبعتْ إنتاجَه الأدبيّ". (شقرانيّ).
في هذا السياق، يورد الأكاديميُّ الجزائريُّ د. مصطفى حمودة، الباحثُ في سيرةِ زكريّا، مقولةً وردتْ على لسانِ مُفدي: "فُطِمَ عقْلي في تونِس".
في تونِس، لم يكُن زكريّا وحدَه، بل كانَ هُناك في عهدةِ عمّه الشّيخ صالح بن يحيى، معلّمه الأوّل، وحاقنُ دمِ الثّورةِ في شرايينِه وأوردتِه. وفي مجلسِ عمّه نمَت علاقُتُه العميقةُ مع اللغةِ العربيّة، ومع الرّوحِ العربيّة.
فإذا بِه وهُو في الرابعة عشرة من عمرِه يكتبُ قصيدةَ "تنبيه النّيام من بني الإسلام" التي وجدت بخطِّ يدِه، من بينِ الوثائقِ القليلةِ التي فلتَت من أيدِي الاستعمارِ الآثِمة التي أحرقتْ معظمَ أرشيفِه.



أنينُ الغرْبة..



في أطروحتِه لنيلِ درجةِ الماجستير من كليّةِ آدابِ ولغاتِ جامعةِ منتوري في قسنطينة، يرى الباحثُ دحماني حمَة في الأطروحة التي حملت عنوان: "ظاهرة الغربةُ في شعرِ مُفدي زكريا"، أنّ شعرَ زكريا "يُخفي داخلَ ثَنايا لهيبِه، وتحتَ ظِلال زيتونِه، ومن وحْي أطلسِه، وفي قلبِ أمجادِهِ الخالِدة، وبينَ ملحمتِه النّادرة، وكلّ ما يحْتويه من روافدَ متدفقةً بالعطاءِ الذي لا ينْضُب، يُخْفي شراراتٍ ملوّنة بِالآهات، مشكّلةً مأساةِ الرّجل الباطنيّة، وتحملُ أنينَ أعماقِه المتقطّعة الحزينَة، هذهِ الاضطراباتُ الباطنيّة، المتناثرةُ بينَ الحروفِ، تحْملها الكلماتُ مصابيحَ وإِضاءات، تفتحُ آفاقًا جديدةً رحْبة".



حمَة يؤكد أنّه وجدَ ظاهرة الغربة "تتلألأُ في نماذجَ عديدةٍ من شعرِ زكريّا، هُنا وهُناك بينَ السّطور"، وأنَها تحتاجُ فقَط إلى "تجميعٍ بِنظرةٍ ثاقِبة، ودراسةٍ نفسيةٍ وتوثيقيةٍ تاريخيةٍ، وفنيةٍ تحليليّة، تخرجُها إلى دنْيا النّاس في زيٍّ جديد، توضح بدقة صدقَ الظاهرةِ المأساويةِ التي عَانى مِنها الشّاعر، في علاقتهِ الوطيدةِ الحميميّة، وارتباطهِ الوثيقِ بالأرضِ والحَياة".
تمورُ كثيرٌ من قصائدِ زكريا بِإحساسٍ مرهفٍ بوطنِه أيّام تعرضهِ للاحتلالِ اللئيمِ والاستعمارِ الامبرياليّ. فإذا بشعرِه تياراتُ عاطفةٍ جيّاشةٍ تشاطرُ وطنَه أحزانَه وآلامَه. مشاعرُ صادقةٌ كان مستعدًّا في سبيل التعبيرِ عنْها التضحيةَ وتحمّل التبِعات، وركبَ المخاطرِ ودخولَ السّجن، أو النّفي والغربة، أو حتى الموْت. إرادةٌ ثوريّة جادّة، لم تبقِ في حياة مفدي زكريا مجالًا للعبثِ والّلهو، ولم تترُك في قلمِهِ مكانًا للغوِ الكَلام.
ربّما هذا ما يفسّر انحيازَ دفقِه الشعريّ إلى الموروث القرآنيّ، وارتدادهِ نحوَ ما يحملهُ هذا الموروثُ مِن متوافَقٍ جمعيٍّ أساسهُ نوستالجيا مشْتاقةٌ إلى زمنٍ تليدٍ ومجدٍ بَعيد.
الغربةُ التي عانَى مِنها شاعرُ الثّورةِ الجزائريّة، ليستْ برأسٍ واحدٍ، بل لعلّها متعدّدة الرؤوس. كَما أنها لم تقتصِر على مرحلةٍ من سيرتِه وحياتِه. وقد لا نبالِغُ إنْ قُلنا إنها بدأتْ وهُو في الثّامنةِ من عمرِه عندما خطفَ الموتُ أمَّه وهُو في العمرِ الذي يحتاجُ الأطفالُ أمّهاتَهم بالقدرِ نفسِه الذي يحتاجونَ فيهِ أنفاسَ حياتِهم.
وإن كانت رحلت والدتُه مغادرةً دُنيا الأَحياء، ولم يَتَجاوز الثّامنةَ من عمرِه، فإنّه، متحاشيًا التطرّق لِهذا الجرحِ العَميق، صارَ يرى في الجزائرِ كلِّها الأمَّ التي تحتاجُ حدبَه لا العكس، فالصّغير كبرَ صلبًا منذُ بداياتِه، مترفّعًا عن طلبِ حنوٍّ من أحدٍ طالَما أنّ أكثرَ من كانت ستمنحهُ الحدبَ والرعايةَ والحَنان قدْ غادرت بإذنِ التقاديرِ ونواميسِ المشيئة. وَمن يدْري فلعلّها في السّنوات القليلةِ التي عاشتْها حتى بلغَ الولدُ الثّامنة، قد منحتْه من الحنانِ ما ظلَّ في الحياةِ زادَه وزوّادَه.
غربةٌ Alienation تقودُ إلى أُخرى. لكنّ الغربةَ التي يتجرّعها السّجينُ بقسوةٍ يوميّةٍ بطيئةٍ راسخةٍ حتّى تكادُ تذوبُ خلالَها فواصلُ الأيّام، وتمّحي الجغرافياتُ الأُخرى خارجَ جغرافيا الزّنزانة، هيَ مِن أنواعِ الغُرْبَةِ المُفْزِعةِ المدلهمّة. ولوْلا رباطةُ جأشِه، وإيمانِهِ بعدالةِ قضيّته، لكانت غرْبة السجنِ من دون غيرِها قضتْ على منجمِ شِعرِهِ، ومعينِ مقاومتِه.
ولعلّ في قصيدةَ "زنزانةُ العَذاب رقم 73"، التي نَظَمها مُفدي خلالَ اعتقالِه في سجنِ برْبروس، ما يكشفُ بعضَ تقنياتِه في مواجهةِ اغترابِه السرمديّ:
"سـيـّان عـِنـدي مَفْتوحٌ ومنغلقُ/ يـا سجنَ بابُك، أم شدّت بهِ الحُلَقُ
أمْ الـسّـيـاط بـِها الجلادُ يلهبُني/ أمْ خـازنُ الـنّارِ يكْويني فأصطفِقُ
والحوضُ حوضٌ، وإنْ شتّى منابعُهُ/ أُلـْقى إلى القعرِ، أمْ أُسقى فأنْشرِقُ
أنـامُ مـلءَ عُيوني غبطةً ورضىً/ عـلـى صـياصيكَ لا همٌّ ولا قلَقُ
طـوعُ الـكَرى وأناشيدي تهدهدُني/ وظـلـمـةُ الليلِ تُغريني فأنطلِقُ
وربَّ نـجـْوى كدُنيا الحبِّ دافئةٌ/ قـدْ نـامَ عنْها رقِيبي ليسَ يسترِقُ
عادتْ بِها الرُّوح من سلْوى معطّرةً/ فـالسّجنُ مِن ذكرِ سلْوى كلّه عَبَقُ
سـلْـوى أُناديكِ سلْوى مثلهُم خطًا/ لـوْ أنّهم أنْصفوا كانَ اسمَكِ الرَّمَقُ
يـا فـتنةَ الرُّوحِ هلّا تذكرينَ فتىً/ مـا ضـرَّهُ الـسِّجنُ إلّا أنّه وَمَقُ".
أمّا قصيدةُ "الذّبيحُ الصاعدُ زبانا" ففيها يواجِه زكريّا غربةَ السّجن بِرثاءِ المجاهدِ أحمد زبانا أوّلِ شهيدِ إعدامٍ في سجونِ الاستعمارِ الفرنسيّ للجزائِر. حيثُ أعدِمَ زبانا في سجنِ برْبروس وأُجبِرَ السجناءُ، ومِن بينِهِم مُفدي، على مشاهدةِ إعدامِ رفيقِهم. كانتْ لحظاتٍ لَمْ تخرُج من ذاكرةِ الشّاعر المناضِلِ أبدًا، فكتبَ:
"قامَ يخْتالُ كالمسيحِ وئيدا/ يتهادى نشوانَ يتْلو النشيدَ
باسمَ الثّغْرِ كالملائِكِ أوْ كالطّفلِ/ يستقبلُ الصّباحَ الجديدَ
شامِخًا أنفُهُ جلالًا وتيها/ رافعًا رأسَه يُناجي الخلودَ".
كُتِبَ على الشّاعر الحُرِّ أن يختمَ سنواتِ عمرِه بغربةٍ أخيرةٍ آخِرَة، عندما لم يدُم ابتهاجُه بانتصارِ الثّورة وتحريرِ الجزائرِ إلّا أشهرًا معدودة، قبلَ أن يعاوِد الخروجَ من الوطنِ، عندما لم ترُق روحَه المتمرّدة المستقلّة لِلرفاقِ بعدَ أنْ أصبحوا ساسَةً وحكّام وطنٍ لا يختلفونَ عن كلِّ حكّامِنا الذينَ لا يفهمونَ تعددَ وجهاتِ النّظر، ولا يريدون سوى وجهة نظرٍ واحدةٍ، هيَ دائمًا، وبالمصادفةِ البحْتة، وجهةُ نظرِهم دونَ سواهُم. غادرَ مُفدي ولم يعُد بعدَها عودةً مستقرّةً إلى وطنِه، إلّا عِندما وصلَ الجزائرَ في تابوتِ الرّحلةِ الأخيرة، لِيوارى الثّرى هُناكَ في جنوبِ البِلاد، حيثُ الجنوبُ دائمًا شعلةٌ لا تنطفئ، وحيثُ الصحراءُ تعيدُ منحَهُ لحظاتِ التأمّل التي لا تنتهي، في رحلةٍ عربيةٍ لا تنتهي، بحثًا عن الحريّة، وبعد ذلك، بحثًا عن العدلِ والرّفاه وديمقراطيةٍ حقيقيّة.




واليوْم، ها هوَ بيتُه في الجزائرِ العاصِمة، يتحوّلُ إلى مكتبةٍ يؤمّها طلبةُ العلمِ من كلِّ حدبٍ وصوْب.

                       تأذن ربك ليلة قدر! مِن إلياذة شاعر الثورة التحريرية الجزائرية مفدي زكرياء


مُفدي والثّورة..
وَعى الشّاعر جيدًا، وهُو الذي تابعَ الثورةَ الجزائريةَ خطوةً بخطوةٍ، ورصدَ أطوارَها ووصفَ معاركَها، وأشادَ بأبطالِها، أنّ هذهِ الثورةَ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى من يُذكي فتيلَها ويشعلُ لهيبَها، خاصّة وأنّها في بعضِ فتراتِها كانتْ تمرُّ بمراحلَ حرجةٍ وصعبَة، فكانَ لا بدَّ مِن رفعِ معنوياتِ المجاهدينَ خوفًا علَى الثّورة العظيمةِ مِن الفَشَل.
ومع اندلاعِ الثّورة الكبرى سنة 1954، واكبَها مُفدي بشعرِه وسجّل بطولاتِها ووقائعَها، ولمْ يطُل بهِ الأمرُ حتّى ألْقي عليهِ القبضُ سنة 1956، فتنقّل بينَ سجنِ البرواقيّة، وسجنِ برْبروس.
الثّورةُ حوّلت مُفدي إلى بارودٍ من الكلماتٍ لم ينقطِع، فإذا بِه بدورِه يحيلُ الجزائرَ إلى أسطورةٍ من اللهبِ المقدّسِ في وجهِ فرنْسا. ففي مدينةِ الصمتِ، حيثُ ينفجرُ السّجى ثورةً وحروفًا، جاءَ مُفدي مشرعًا قلمَه، ملهمًا الثّوار ومسعّرًا للثّورة.
إرهاصاتُ الثّورة تفجّرت عندَ زكريّا مع إعلانِ مصالي الحاج (الملقّب بِأبي الأمّة)، عن تأسيسِ حزبِ شمال إفريقيا للمطالبةِ بالاسْتقلال. كانت المرّة الأولى التي يطالبُ فيها حزبٌ جزائريٌّ بِهذا المطلبِ العظيم: الاسْتقلال. حتى إن كلمات امصالي في الخطبة التي ألقاها في قلبِ الجزائرِ العاصِمة: "هذا الترابُ لا يمكنُ أنْ يكونَ فرنسيًّا"، ظلّت ترنُ في روحِ الفتى وقلبِه ووجدانِه، فإذا بهِ يكتبُ نشيدَ الحزبِ الذي صارَ بسرعةٍ صاعقةٍ أحدَ كوادرِه:
"فداء الجزائر روحي ومالي/ ألا في سبيلِ الحريّة/ فليحْيا جنودُ الاستقلالِ/ ونجمُ شمالِ إفريقيّا/ وليحْيا زعيمُ الشّعب امصالي/ مثالُ الفِدا والوطنيّة/ ولتحْيا الجزائرُ مثلَ الهِلالِ/ ولتحْيا فيها العربيّة".




في غياهبِ سجنهِ الأوّل عام 1937، أيقنَ زكريّا أن الحريةَ لا تُعطى على جرعاتٍ، فإمّا أنْ تكونَ حُرًّا أو لا تكون.
الشاعر محمد الأخضر: "الرصاص هو مفتاح الخلاص".
ثاني مرّة دخلَ فيها السّجن كانت بعد تأليفِه "قسمًا" نشيدِ الثّورة/ الجزائِر.
"يروي عنه أصدقاؤه في السجنيْن من أمثالِ أحمد بوعلام ومحمد زيتوني أنّه كان شديدَ الإيمانِ بانتصارِ الثّورة، غيرَ مبالٍ بحياةِ السّجن وعذابِه، فكان يركّز اهتمامَه وحديثَه على أبناءِ الشّهداء وأراملهِم، وما يجبُ على الثّورة أن تقومَ بهِ تجاهِهم عندَ الاسْتقلال". (شعر الثورة عند مفدي زكرياء، دراسة فنية تحليلة، يحيى الشيخ صالح، ص 41).
في سنة 1959، أُفرِج عنهُ، ففرّ إلى المغربِ، ومِنها إلى تونس، ليتلقّى العلاجَ اللازمَ لأنّه خرجَ من السّجن منهوكَ القُوى ضعيفَ البُنْيَة نتيجةَ ما لاقاهُ من تعذِيب. اللافتُ في هذهِ المرحلةِ من مسيرةِ زكريّاء الثّورية أنّه التقى في تونِس الطبيبَ والمفكّرَ الثوريَّ الإفريقيَّ/ الفرنسيّ فرانز فانون (1925-1961) frantz fanon. إنّه مَن عالجَه طبيًّا، ومَن زرعَ، إلى ذلِك، في وجدانِه قيمةَ الثّورةِ عندما تجدُ مؤازرينَ لَها مِمّن يحملونَ جنسيةَ المحتلِّ (القائمِ بفعلِ الاحْتلال) المستعْمِر (بالكسرةِ على الميم). كان ذلكَ قبلَ رحيلِ فانون بعاميْن فقط (رحلَ فانون في العامِ 1961، وتحقّق لقاؤه بزكريّاء في العامِ 1959)، وقبلَ عاميْنِ من نشرِ فانون رائعتَه الباقية "معذّبو الأرْض" (نشرَ فانون كتابَه الأهم في العامِ نفسِه الذي رحلَ فيه، بما يشبهُ وصيّته للحياة، وصيحَته الكبرى في وجه الظّلم والاستعمارِ، وجرائمِ الرجلِ الأبيَض).
ربّما هذه ما جعلَه يواصلُ هديرَ الثّورة، ويمجّد لحظةَ انطلاقِها في عام 1954، ناقشًا قصيدةً أخرى من قصائد اللهيب الخضيب:
"نوفمبرُ جلَّ جلالُك فينا/ ألسْتَ الذي بثَّ فِينا اليَقينا/ سبحْنا على لُجَجٍ مِن دِمانا/ وللنصرِ رُحنا نسوقُ السّفينة".
في سنة 1961، قامَ مُفدي بِرحلات مكّثفة دامتْ أربعةُ أشهرٍ ونصْف شهرٍ تنقّل خلالَها بينَ دولٍ عربيةٍ شقيقةٍ مليئةٍ بالنشاطِ الثّوري، فأصبحَ جلُّ حديثِه عن ثورةِ الجزائر، وقد نجحَ في هذهِ المَهمةِ التِّرحالية، لأنَ مختلفَ الأقطارِ العربيةِ طلبتْ منهُ إسماعَها صوتَ الجزائرِ، وصوتَ ثورتِها.
بعدَ هذا النشاطِ المكثّف، قدْ لا يكونُ غريبًا أنْ تعلّق جريدةُ "الصّباح" على ذلك بما يلي: "مُفدي زكرياء سفيرُ الجزائرِ بدونِ أوراقِ اعْتماد...".
في نهاية سنةِ 1961، والثورةُ لا تزالُ ملتهبَة، صدرَت الطبعةُ الأُولى من ديوانِ "اللهبُ المقدّس"، وبهذهِ المناسبةِ أقامَت رابطةُ القلمِ الجديدِ بتونس حفلَ تكريمٍ للشاعرِ بتاريخ 17 شباط/ فبراير (فيفري بالمغربي) 1962.




بعدَ استقلالِ الجزائرِ، عادَ مُفدي إلى أحضانِ وطنِهِ، لكنّه لم يعمّرْ هُناكَ إلّا قليلًا، ورجعَ إلى تونس من سنة 1963 إلى 1969، وفي هذه السنة غادرَ تونس متجهًا إلى المغربِ، فاستقرّ فيه، وإنْ كان ظلّ يترددُ بينَ الجزائر وتونس، فيشاركُ في جلّ ملتقياتِ الفكرِ الإسلاميّ بتدخلاتِه وقصائدِه وعلى رأسِها ملْحمته "إلياذةُ الجزائر".
في مدينة تونس بتاريخ 17 آب/ أغسطس (أوت بالمغربية) 1977 الموافق لِـ الثّالث من رمضان 1397 هجرية، رحلَ الشاعرُ مُفدي زكريّاء، ونُقل جثمانهُ إلى أرضِ الوطنِ الجزائر، وبالتحديدِ إلى مسقطِ رأسِه بميزاب يغطيهِ العلمُ الوطنيُّ الجزائريُّ الذي كتب الشاعرُ نشيدَه بدمِه، ليرقدَ آمنًا مطمئنًا في الأرضِ التي قَضى حياتَه وهو يهتفُ بِها، وُينادي بعزّتها وكرامتِها.
في مثلِ هذا اليوم من شهرِ حزيران/ يونيو من العام 1908، وُلِدَ مُفدي زكريّا، أو زكريّاء، سيّان. وفي النصفِ الثّاني من شهرِ آب/أغسطس 1977، رَحَل. وبينَ حزيرانَ وآب، يتجلّى شهرُ تمّوز كإلهِ خصبٍ يعِدُ بتجدّدِ الحَصاد، وبولادةِ مُفدينَ كثرٍ تحتاجُهم بِلادُنا المبتلاةُ، ليس فقط باستعمارٍ صهيونيٍّ قبيح، بل أيضًا بأنظمةٍ تشكّل روافعَ لِهذا الاستعمار. تحتاجكَ جزائرُكَ يا زكريّا، جزائرُكَ جزائرُنا مصنعُ المُعجزات، عاشقةُ فلسطينَ حتّى المَمات. تحتاجُكَ الأرضُ، ترْجو منكَ أنْ تهبِطَ مِن السّماء، لِتصدحَ بحريّتِها المُقدّسة.

                 مفدي زكريا ينشد نشيد حزب الشعب الجزائري                                                             

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.