}

عن "ما بعد العلمانية".. علمنة الدولة أم علمنة المجتمع؟

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 17 يونيو 2021

ابتداءً من القرن الثامن عشر، بدأت المقاربة الطبيعية للدين بعيدًا عن التفسيرات اللاهوتية التي سادت وتمحورت حول حقَّانيَّةَ الوحي المسيحي. ومع حلول القرن التاسع عشر بدأت المقاربة السوسيولوجية للدين باعتباره فعلًا يحتمل كل خصائص الظاهرة الاجتماعية.

ذهب كارل ماركس (1818-1883) إلى أن الدين، كظاهرة مكتملة، لا تجد جذورها في عجز الإنسان إزاء قوى الطبيعة، كما ذهب التنويريون الفرنسيون، وإنما في اغتراب الانسان الوجودي والاجتماعي، في ظل مجتمعات الاستغلال الطبقية، حيث يعبّر الدين عن هذا الاغتراب بوضعه مصير الإنسان خارج نطاق سيطرته، وفي يد قوة مطلقة مفارقة. وأن زوال الدين مرهون بزوال المجتمع الطبقي والدولة التي تمثل مصالح الطبقة المسيطرة. ورأى ماكس فيبر (1864-1920) في الدين نظرة سحرية إلى الواقع، تعمل الحداثة والرأسمالية على إزالتها باتجاه نظرة موضوعية للواقع، معلقًا آماله على بيروقراطية الدولة في الحد من سلطات الدين اعتمادًا على المنطق العلمي والعقلانية. وفسر سيغموند فرويد (1856-1939) طبيعة الدين بوصفه ناجمًا عن اصطدام غرائز اللاوعي مع اشتراطات المجتمعات الضاغطة على الفرد، وأنه بعد أن كان سبيلًا لتنظيم الغرائز أصبح عصابًا يشكل عبئًا على المجتمع الحديث، وعقبة في وجه التقدم.

عبّر فريدريك نيتشه (1844-1900) عن روح عصره؛ حيث حلّت قوانين الفيزياء التي تنظم الكون والمجتمع محل العناية الإلهية، وقيم التنوير الأوروبي مكان ضوابط السلوك الدينية، فأعلن "موت الإله" (Gott ist tot)، ناسبًا فعل القتل لـ"الإنسان الأعلى" المولود من طبقة السادة الممتازين الذين نبذوا الأديان التي تنفر من الحياة الأرضية، والتي ساهمت في امتصاص عناصر القوة، وأبقت البشرية في حالة ضعف ووهن. لم يمضِ قرن من الزمن، حتى ساد الارتباك مرحلة ما بعد الحداثة، حصيلةً للدمار الـذي شـهدته أغلـب مناطـق العالـم خـلال الحربيـن العالميتيـن الأولى والثانية، وبشّر ميشيل فوكو (1926-1984) بموت الإنسان، ذاك الاختراع "حديث العهد" الذي رآه "مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلًا آخرًا جديدًا". هذا الإنسان المالك لناصية أمره، والمحرك لتاريخه وماضيه وحاضره ومستقبله، إنسان الحقوق والواجبات، الذي صنعته ثقافة القرن التاسع عشر، محكوم بالزوال مع تصدع الأوّليات التي صنعته، والثقافة التي بنته، ولم يعد مصدرًا للمعرفة بل موضوعًا لها (موضوعا للعلوم الإنسانية، وللطب النفسي). اعتقد فوكو أن إعلان نيتشه عن "موت الاله" لم يكن ظهورًا للإنسان، بل كان مؤشرًا لاختفائه، وبالتالي إعلانًا عن نهاية النزعة الإنسانوية (1)، والفكر الجدلي، والتاريخ بالمعنى الكلاسيكي، بوصفه قراءة اتصالية، ومعه سقطت آمال التحرر والتغيير التي يَعِدُ بها التاريخ، الذي كفّ عن الاهتمام بالكشف عن تقدم البشر وعلومهم وعقلانيتهم.

رأى ماكس فيبر في الدين نظرة سحرية إلى الواقع، تعمل الحداثة والرأسمالية على إزالتها باتجاه نظرة موضوعية للواقع


قام الطرح العلماني على الربط بين العلمانية والتحديث، وأنه مع مضي هذه العلاقة قدمًا سيتراجع الدين ليصبح شأنًا شخصيًا دون أي تأثير في المجال العام. لكن حقيقة فرضت نفسها على الميراث العلماني الغربي، ألا وهي قدرة الدين على البقاء، واستمراره فاعلًا في جذب مزيد من الجماهير في مختلف المجتمعات البشرية، على اختلاف درجة تقدّمها، ليصحو الفكر العلماني من ركود العد التنازلي بانتظار زوال الدين. إذ انهــارت المنظومة الشيوعية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، مع تفكك الاتحاد السوفييتي، واستعاد الدين مكانته باعتبــاره ركيزة مــن ركائـز الهويـة الوطنيـة لدول في أوروبا الشرقية، واضطر الحزب الشيوعي الصيني لبذل جهود حثيثة لتقنين واحتواء الأقليات المنتشية دينيا، والمُطالِبَة بمزيد من الحريات الاجتماعية الدينية. الدين كأحد مكونات الهوية الوطنية هيمن أوروبيا حين أكدت عليه أحزاب اليمين الأوروبي، وغيرها من أحزاب تقليدية رئيسية، خصوصًا في مواجهة تدفق المهاجرين المسلمين، وتنامي العمليات الإرهابية.

بعد هزيمة عام 1967 انهار "التنوير الحكومي" الذي تبنته الأنظمة الديكتاتورية العربية، وبدأت تتصدع، تحت وقع الهزيمة، الأيديولوجيات "اليسارية"؛ القومية والاشتراكية والشيوعية. بدت المجتمعات أكثر تدينًا بحثًا عن خلاص أخروي بعد تعثّر خلاصها الدنيوي، وبدت أكثر رفضًا للحداثة بالمنظور الغربي. تقدمت أيديولوجيا الإسلام السياسي لسد الفراغ، لتصبح أكثر شراسة منذ ثمانينيات القرن الماضي، متمددة خارج الحدود الوطنية، مرورًا بأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر العام 2001، وصولًا إلى مرحلة "الربيع العربي" التي هبّت معها رياح سياسات الهوية، وتعاظمت معها الاستقطابات المذهبية، على خلفية تفكك الدولة وتمزّق النسيج الاجتماعي، وبدت غلبة الطابع الديني على الحراك السياسي أمرًا متوقعًا.

الحرية - المساواة - العلمانية - الحقوق الدينية - الحقوق المدنية


 

عودة إلى التديّن

وفق تقرير لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة (2018/2019) اتخذ الشعور بالانتماء الديني في أوروبا منحى متصاعدًا، وظهرت أغلبية تعرّف نفسها كمسيحيين، وإن كان معظمها يعترف بأنه ليس ملتزمًا دينيًا. ففي بريطانيا، يُعرِّف نحو 73% أنفسهم كمسيحيين، من بينهم 18% يعرفون أنفسهم كملتزمين، بينما ترتفع النسبة في إيطاليا إلى نحو 80%، نصفهم يُعرّفون أنفسهم كملتزمين. وفي روسيا، ارتفعت نسبة من يُعرّفون أنفسهم كمسيحيين أرثوذكس؛ من 37% سنة 1991، إلى 71% سنة 2017. وفي أوكرانيا، ارتفعت النسبة من 39% سنة 1991، إلى 78% سنة 2017. وفي بلغاريا، ارتفعت النسبة نفسها من 59% سنة 1991، إلى 75% سنة 2017.

عربيًا، ووفق المؤشر العربي (2019/2018) الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" طرأت عبر سنوات استطلاع المؤشر (ما بين: 2011-2020) لمستوى التدين، بحسب تعريف المستجيبين الذاتي لأنفسهم، تغيرات طفيفة كما يتبين من الجدول التالي:

العام

متدين جدا    

متدين الى حد ما

غير متدين

غير مؤمن

2011

19%

66%

11%

4%

2012/2013

21%

67%

8%

4%

2014

24%

64%

8%

4%

2015

24%

63%

9%

4%

2016

20%

65%

12%

3%

2017/2018

21%

65%

12%

2%

2019/2020

23%

63%

12%

2%

        

كما أظهر المؤشر انقسام الرأي العام العربي إزاء فصل الدين عن السياسة، فانحاز للفصل بينهما 49% بينما عارضه 44%.

تزايدت أعداد المستغيثين بالدين، والممارسين له بأشكال مختلفة سعيًا للعودة إلى المشهد السياسي، فهل كان ذلك، هنا وهناك، نتيجة كبوة تاريخية نتجت عن إخفاق مشاريع التنوير، سرعان ما ستخرج منها البشرية لتقف مجددًا على قدميها؟ أم أن الخطاب الديني سيبقى قادرًا على مخاطبة هواجس الإنسان المعاصر المتعلقة بالهوية والمعنى؟

اعتقد فوكو أن إعلان نيتشه عن "موت الاله" لم يكن ظهورًا للإنسان، بل كان مؤشرًا لاختفائه



ما بعد العلمانية

بينما بقيت الثقافة العربية أسيرة ثنائية الصراع بين العلمانية والدين، الذي تعمّق بفضل تطرف الفريقين؛ العلمانيين والمتدينين، فإنه في مواجهة هذا الانبعاث المفاجئ للدين ظهرت في الفكر الغربي، الذي نقلت عنه الثقافة العربية في حقبة من تاريخه ماضية تلك الثنائية، دراسات جديدة تكاثفت، وباتت تصنف تحت عنوان "ما بعد العلمانية"، عكفت على دراسة تلك الحيوية الفائقة للخطاب الديني، خلال خمسة عقود خلت، وقدرته على اجتذاب قطاعات واسعة من الجماهير. ليس من السهل تحديد النقطة الزمنية التي انطلق معها هذا المصطلح، ولكن مما هو مسلّم به تبين أنه ظهر في سياق الدراسات الفكرية التي تناولت بالنقد، النظرية والتطبيق الحديثين للعلمانية، منذ تسعينيات القرن العشرين، ويعود الفضل في الانتشار الواسع لهذا المفهوم إلى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.

قد يبدو أن مصطلح "ما بعد العلمانية" لدى البعض فرضته قوة الانبعاث الديني، الأمر الذي يعبّر عن تراجع عمليات العلمنة ومفاعيلها، ليعني في نهاية المطاف نزعًا أو إلغاء للعلمانية، بينما يعتقد بعض آخر أن "ما بعد علماني" لا يعني أن نصبح متدينين من جديد، بل يفرض ضرورة إعادة النظر في التناقض المرحلي المبسّط بين الديني والعلماني، كتناقض بين ما قبل العقلاني والعقلاني. هناك من وجد في المصطلح تناقضًا يجعله يخلو من أي فائدة، بينما يجد غيرهم في مرونته إحدى أهم نقاط قوته. يعتقد ماسيمو روساتي، عالم الاجتماع الإيطالي، أن المنظورات الدينية والعلمانية تتساوى على أرض الواقع في المجتمع ما بعد العلماني، ليحوذ كلاهما أهمية متساوية من الناحية النظرية، وأنه على المجتمعات الحديثة التي عَدَّتْ نفسها علمانيةً تمامًا، حتى وقت قريب، تغيير أنظمة قِيَمِها وفقًا لذلك؛ لتتوافق على نحو صحيح مع هذا التعايش.

ومع أن حضور الدين في المجال العام، وعلاقته بالسياسة كان دائما قضية جدلية، إلا أن تجدّد النقاش بشأنه برهن على أن التطـورات المجتمعيـة لم تحسم القضية بعد. ويتفق منظرو "ما بعد العلمانية" على ضرورة الحفاظ على المشروع العلماني الغربي بمؤسساته الديمقراطية، التي كانت ثمرة قرون طويلة من الحراك السياسي الخصب، مع وضعهم على طاولة البحث، الأسئلة المتعلقة بإمكانية فسح المجال أمام الدين ليشارك في صياغة القرارات السياسية، خارجا من عزلته طويلًا عن السياسة، نتيجة مساعي الخصخصة التي دفعت به إلى المجال الخاص.

يشرح هابرماس أنه في ظروف "الرأسمالية المعولمة" تقلّصت قدرة السياسي على الحماية من الانحلال الاجتماعي



في العودة إلى اللاهوت السياسي

يعتقد هابرماس أن محاولات عودة "اللاهوت السياسي" هي محاولات ارتدادية مرفوضة، فهذا المفهوم، المحمّل بنزعة دينية للسياسي، ينبغي أرخَنَتِه كونه يستجيب لمرحلة سابقة من مراحل تطور المجتمع البشري، كانت فيه قوة الدولة مضمونة من خلال نزعة أسطورية دينية للعالم (الحقل الرمزي الأول الذي كونت فيه الحضارات صورة لنفسها) مثّل فيها السياسي صورة للمجتمع بوصفه كليّة، وبعد أن خضع النظام السياسي لقوة التداول الميالة الى نزع التعميمية عن المجال العام، لم يعد بالإمكان فهم المجتمع بوصفه كليّة، فتمثيلاته لنفسه اليوم أصبحت تعددية وخاضعة للطعن ومثيرة للجدل. لكن ما الذي يفسر العودة المعاصرة الصاخبة للاهوت السياسي مع مفهوم للسياسي عفا عليه الزمن؟ يشرح هابرماس أنه في ظروف "الرأسمالية المعولمة" تقلّصت قدرة السياسي على الحماية من الانحلال الاجتماعي على نحو خطر، فقد انتهى العصر الذي تمكّنت فيه دولة الرفاه في ظل "الرأسمالية المطمورة" (اقتصاد السوق الموجه سياسيا)، من التأثير في الأنظمة الفرعية المتباعدة، وموازنة الميل إلى الانحلال الاجتماعي، لتصبح السياسة كوسيلة لتقرير المصير ديمقراطيًا مستحيلة، بقدر ما هي فائض عن الحاجة. وتحت ضغوط المقتضيات الاقتصادية التي تغلّبت على نحو متصاعد على المجالات الخاصة للحياة، ينسحب الأفراد، أكثر فأكثر، فزعين إلى فقاعة مصالحهم الخاصة. الرغبة في الانخراط في الفعل الجماعي، والوعي بأن المواطنين يمكنهم على الإطلاق تشكيل الظروف الاجتماعية لحياتهم على نحو تعاوني بوساطة العقل التضامني، تضمر تحت القوة المنظورة للمطالب النظامية.

وفي ظل تجربة المجتمع العالمي المعاصر الذي أصبح قوة هائلة مدفوعة بقوة اقتصادية قادرة، تبدو خارجة عن سيطرة البشر، مع فوضى تكنولوجية واقتصادية وثقافية لعالم اندمج في بنية عملاقة واحدة، فبإمكان صورة "للسياسي" تُقدّم بوصفها وعدا بإعادة زمام الأمور للفاعل البشري أن تبدو جذّابة، يوفّر معها اللاهوت السياسي المعاصر الأمل في سياسة حقيقية، تقف على النقيض من رأي مسيطر على الأذهان على نطاق واسع، يرى أن المواطنين بيادق يتحكّم بها مجتمع مجرّد من القدرة على تقرير المصير سياسيا.

يحذّر هابرماس من خطورة هذه الوعود (السلفية) التي تعود بنا إلى مرحلة سابقة على خضوع الدولة للقانون والمجال العام، لذلك يدعو الى تطوير مجتمع "ما بعد علماني" يأخذ بالحسبان الحيوية العالمية المتواصلة للدين، وترجمة الاستبصارات الأخلاقية التي أتت بها التقاليد الدينية، مع دمجها في منظور فلسفي "ما بعد ميتافيزيقي". 


ظواهر عودة الدين

يذهب هابرماس إلى أن الأطروحة العلمانية افترضت ارتباطًا وثيقًا بين تحديث المجتمع وعلمنة السكّان، وأنه مع انتشار العلم والتكنولوجيا، والقدرة على تفسير مجمل الأحداث التجريبية سببيًا، لم يعد العقل المستنير علميًا قابلا للتوافق بسهولة مع النظرة المركزية والميتافيزيقية إلى العالم. كما أن التمايز الوظيفي للأنظمة الاجتماعية الفرعية، أفقد الكنائس والهيئات الدينية الأخرى سيطرتها على القانون والسياسة والرفاهية العامة والتعليم والعلوم؛ واقتصرت وظيفتها على إدارة وسائل الخلاص (للمؤمنين به)، وجعل ممارسة الدين شأنا خاصًا، كما أن الرفاهية والضمان الاجتماعي الناجمين عن المجتمعات ما بعد الصناعية التي قللت مخاطر الحياة وعزّزت الأمن الوجودي، أدّت إلى تراجع الحاجة الشخصية للتعامل مع الحالات الطارئة، من خلال الإيمان بقوة كونية عليا. لكن وفق هابرماس، فإن التغييرات العالمية والصراعات المرئية التي تثيرها القضايا الدينية تجعلنا نشكك في تضاؤل أهمية الدين، على عكس ما ذهبت اليه الفرضية العلمانية السابقة، رغم استنادها على اعتبارات تبدو للوهلة الأولى معقولة. ويطرح ثلاث ظواهر متداخلة، تخلق انطباعًا عن "عودة الدين'' في جميع أنحاء العالم: التوسع التبشيري، والتطرف الأصولي، والاستغلال السياسي للعنف المتأصل في العديد من ديانات العالم.

التغييرات العالمية والصراعات المرئية التي تثيرها القضايا الدينية تجعلنا نشكك في تضاؤل أهمية الدين


بالنسبة للتوسع التبشيري، يرى أن الجماعات الأرثوذكسية، أو تلك التي تحوز درجة من المحافظة، داخل المنظمات الدينية الممأسسة والكنائس، تتقدم في كل مكان. ينطبق هذا على الهندوسية والبوذية تمامًا كما ينطبق على الديانات التوحيدية الثلاث. والأكثر إثارة للدهشة هو الانتشار الإقليمي لهذه الديانات الراسخة في أفريقيا وفي بلدان شرق وجنوب شرق آسيا. يبدو أن نجاحات التبشير تعتمد، من بين أمور أخرى، على مرونة التنظيم. تتكيف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية العابرة للوطنية والمتعددة الثقافات بشكل أفضل مع اتجاه العولمة من الكنائس البروتستانتية، المنظمة على المستوى الوطني والتي أصبحت الخاسر الرئيس. وأكثرها ديناميكية هي الشبكات اللامركزية للإسلام (خاصة في أفريقيا) والإنجيليين (خاصة في أميركا اللاتينية) الذين يتميزون بنشوة دينية مستوحاة من القادة الكاريزميين.

فيما يتعلق بالأصولية، يمكن وصف الحركات الدينية الأسرع نموًا، مثل الخمسينيين (Pentecostals) (2) والمسلمين الراديكاليين، بسهولة، بأنها "أصولية"، لكونهم إما يقاتلون العالم الحديث أو ينسحبون منه في عزلة. تجمع أشكال عبادتهم بين الروحانية والمغامرة، مع المفاهيم الأخلاقية الصارمة، والالتزام الحرفي بالكتب المقدسة. على النقيض من ذلك، فإن "حركات العصر الجديد" التي تكاثرت منذ السبعينيات تمتلك شكلًا غير مؤسسي لممارسة الشعائر الدينية. في اليابان، نشأ ما يقرب من 400 طائفة من هذا القبيل، تجمع بين عناصر البوذية والديانات الشعبية مع المذاهب العلمية الزائفة والباطنية. أما في الصين، فسلّط القمع السياسي لطائفة الفالون غونغ (3) الضوء على العدد الكبير من "الديانات الجديدة".

وأخيرًا، يرى هابرماس في نظام الملالي في إيران، و"الإرهاب الإسلامي"، مثالين سياسيين أكثر بلاغة في التعبير عن العنف المتأصل في الدين، وأنه غالبًا ما يتم إشعال الصراعات بمجرد ترميزها بمصطلحات دينية. تلك كانت الحال ولا تزال مع صراعات منطقة الشرق الأوسط، وسياسات القومية الهندوسية، والصراع المستمر بين الهند وباكستان، وتعبئة اليمين الديني في الولايات المتحدة قبل وأثناء غزو العراق.


إحالات عربية:

- المؤشر العربي (2019/2020) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على الرابط: https://bit.ly/3cIcwQR

- ميشيل فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ت. أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، ط2 (دار توبقال للنشر، 2008)

- هل مات الإنسان؟ حوار للمفكر الفرنسي ميشيل فوكو، ترجمة: محمد قرافلي، 06 شباط/ فبراير 2015، موقع أنفاس: https://bit.ly/3pSrN6Z

- يورغن هابرماس وآخرون، قوة الدين في المجال العام، ت. فلاح رحيم، ط1 (بغداد: دار التنوير للطباعة والنشر، 2013)

- رسلان عامر، ما بعد العلمانية وعودة التدين في الغرب، مجلة الفيصل، 1 مايو 2021: https://bit.ly/3pS9ZZG

- مصطفى ربيع، خريطة الأديان: اتجاهات الشعوب نحو الدين في العالم، اتجاهات الأحداث، العدد 29، العام 2019: https://bit.ly/3gtagiZ

- هالة الحفناوي، عودة الدين إلى نقاشات المجال العام على الساحة الدولية، اتجاهات الأحداث، العدد 29، العام 2019: https://bit.ly/3wpoBSQ 

إحالات أجنبية:

- Jürgen Habermas, ’’A “post-secular” society – what does that mean‘‘?, Reset Dialogues, 16 September 2008: https://bit.ly/3wpq4Zm

- From the Secular to the Habermasian Post-Secular and the Forgotten Dimension of Time in Rethinking Religion and Politics, 3 Dec. 2016, Scielo Brazil: https://bit.ly/35mYUqg

هوامش:

(1)          في موسوعته الفلسفية، يعرّف لالاند النزعة الإنسانية بأنها مركزية إنسانية موضوعها تقويم الإنسان واستبعاد كل ما من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لقوى خارقة للطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالا دونيا دون الطبيعة البشرية، وتعترف بأن الإنسان مصدر المعرفة، وأن خلاصه يكون بالقوى البشرية وحدها، على عكس اعتقاد الأديان بأن خلاصه يعتمد على الله والإيمان.

(2)          الخمسينية هي حركة دينية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتتميز هذه الحركة بالإيمان بأن جميع المسيحيين بحاجة لأن يعيشوا اختبارا فريدا لكي يكونوا مسيحيين فعلا، ويسمى هذا الاختبار بمعمودية الروح القدس، الذي يطابق ما عاشه رسل المسيح الاثنا عشر عندما حلّ عليهم الروح القدس في اليوم الخمسين لصعود المسيح للسماء (يوم العنصرة). وكان حلول الروح عليهم جليًا من خلال عدة علامات، أبرزها: التكلم بألسنة مختلفة، التنبؤ، وشفاء المرضى. تعتبر من أسرع الحركات المسيحية انتشارًا ونموًا في العالم؛ فقد ازداد عدد معتنقيها من 72 مليون عام 1960 إلى 525 مليون عام 2000.

(3)          Falun Gong أو فالون دافا Falun Dafa، تعني حرفيًا "ممارسة عجلة دارما" أو "قانون ممارسة العجلة"، وهي عبارة عن  شعائر روحانية تؤكد على الأخلاق ورعاية الفضيلة من خلال مبادئها المركزية؛ الفضيلة، الشفقة، والتسامح واستمدت الكثير من تعاليمها من التقاليد الطاوية. من خلال الاستقامة الأخلاقية وممارسة التأمل، يطمح أتباعها للحصول على صحة أفضل تمهيدا للتنوير الروحي. لقيت بداية تعاطفا واسعا، ووصل عدد أتباعها وفق بعض التقديرات إلى حوالي 10 ملايين شخص في عام 1999، وانتشرت في حوالي 70 بلدا حول العالم، مما جعل الحزب الشيوعي والأجهزة الأمنية الصينية تشعر بالقلق حيالها، وفي 20 تموز/ يوليو 1999، بعد ثلاث سنوات من التوترات بين الجماعة والحكومة، شنت الأخيرة حملة متعددة الأوجه بهدف القضاء على تلك الممارسة. وأعلنت في تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه الجماعة بوصفها "تنظيم هرطقة" وحظرت موقعها الإلكتروني، ومنذ ذلك الحين تشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن أتباع الجماعة يتعرضون لانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ويعتقلون خارج نطاق القضاء.

[يتبع- جزء ثان وأخير]

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.