}

العبوديةُ في وجهِها المُعاصِر.. أنينُ الحياةِ على عِتْقِها

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 19 يونيو 2021
هنا/الآن العبوديةُ في وجهِها المُعاصِر.. أنينُ الحياةِ على عِتْقِها
العبودية وصمة عار على الإنسانية
في الثّاني من كانونِ الأوّل/ ديسمبر من العامِ 1949، اعْتَمَدَت الجمعيّةُ العامّةُ للأُمَمِ المتّحدّة قرارَها رَقم 317(IV) الخاصّ بِقمعِ الاتّجارِ بالأشخاصِ، ومنعِ استغلالِ بغاءِ الغَيْر.
وَفي 19 حزيْران/ يونيو من العامِ 1862، قرّرَ الكونغرس الأميركيّ منعَ الرقِّ في جميعِ أنحاءِ الولاياتِ المتحدةِ الأميركيّة.
حتّى أنّه كانَ اليومَ نفسَه الذي قرّرت فيه فرنسا بتاريخ 19 حزيْران/ يونيو من العامِ 1885، إهداءَ أميركا تمثالَ الحريّة. ربّما ليأتي إهداءُ التمْثالِ متّسقًا مع توجهاتِ العالَمِ الجَديد، بِمحاربةِ العبوديّة، والانتصارِ لمعشوقةِ الحَياة: الحريّة.
السؤالُ التأسيسيُّ بعدَ كلِّ هذا وَذاك، هُوَ: هلْ تحرّر العالَمُ فِعلًا؟ وهل أُغْلِقَ بابُ العبوديّة إلى غيرِ رَجْعة؟


عبوديّةٌ مُعاصِرة..

هل انتهت العبودية؟


وفقًا لِمنظمة العملِ الدوليّة، فإنّ أكثرَ مِن 40 مليونَ شخصٍ في جميعِ أنحاءِ العالَمِ هُم ضَحايا للرقِّ الحديث. صحيحٌ أنّ الرق الحديث غيرُ مُعَرَّفٍ في القانونِ الدوليّ، إلّا أنّ المصطلحَ يُستخدمُ على نطاقٍ واسِع، وبِما يشملُ ممارساتٍ مِن قبيلِ العملِ الجبريّ، واستعبادِ المَدين، والزواجِ القسريّ، والاتجارِ بِالبشر، وعمومِ حالاتِ الاستغلالِ، التي لا يمكنُ للشّخصِ أنْ يرفضَها، أو يغادرَها، بسببِ التهديداتِ والعنفِ والإكراهِ والخِداعِ وَ/ أوْ إساءةِ استعمالِ السُّلْطة.
الأرقامُ في هذا السّياقِ مرْعبةٌ، فبحسبِ إحصائياتٍ دوَليّةٍ، يتعرّضُ أكثرُ مِن 150 مليونَ طفلٍ لعملِ الأطْفال، أيْ أنّ هُنالك طفلًا من بينِ كلِّ عشرةِ أطفالٍ (على مسْتوى العالَم) يغرقُ في نيرِ هذهِ العَمالةِ اللاإنسانيّةِ القاسِيَة.
أرقامٌ دفعتْ منظمةَ العملِ الدوليةِ إلى تبنّي بروتوكولٍ جديدٍ ملزمٍ يهدفُ إلى تعزيزِ الجهودِ العالميةِ للقضاءِ على العملِ الجبريّ. وهُوَ البروتوكولُ الذي دخلَ حيّزَ النّفاذِ في تشرين الثّاني/ نوفمبر 2016.




واقعُ الحالِ يُخبرنا أنّ الحلولَ المأمولةَ لِلقضاءِ النهائيّ على مختلفِ تمثّلات العبوديةِ المُعاصِرةِ لا يمكنُها أنْ تعتمدَ، فقَط، على قراراتٍ دوليةٍ وتشريعاتٍ أمميّة.
فطالَما أنَ الاستعمارَ القبيحَ القديمَ المتجدّدَ لا يزالُ ينبثقُ هُنا، ويُلقي بِظلالِه هُناك، فإنّ الأمرَ لنْ تحسمَهُ مواثيقٌ تقبلُ بِها أقوامٌ، وتديرُ الظّهرَ لَها أُخرى.
وطالَما أنّ التباينَ في مستوياتِ المعيشةِ بين جنوبِ الأرضِ وبينَ شمالِها، بينَ شرقِها وبين غربِها، بين قاراتِها، وحضاراتِها، وألوانِ بشرِتها، وحتّى أعراقِها، يتجلّى في المتعيّن من زمانِ الكوكبِ بكلِّ هذهِ الفداحةِ والفضيحةِ والاخْتلال، فإنّ أمامَ أحرارِ العالَمِ ومثقّفيه ورسلِ خلاصِه من سوئِه وبشاعتِه ولا معقوليتِه، مشوارٌ طويلٌ مِن مدِّ السِراجِ بالزّيت. مِن المقاومةِ والمواجهةِ والمكاشفةِ والمُحاجَجَة.
صراعٌ لا بدّ مِنه، ولا مندوحةَ عنْه. فالحرّ لا يمكنهُ أنْ ينامَ ولا يهدأَ لهُ بَال، في حالِ بقيَ العالَم يتمدّدُ بكلِّ ثقلهِ فوقَ صدورِ البشرِ، وإراداتِ العِباد. فإنْ كان الناسُ قد قبِلوا أن يكونوا عِبادًا لله، فإنّهم، في المقابِل، لن يقْبلوا، مهْما كانت المسوّغات، أن يكونوا عبيدًا لأحدٍ غيرِه. وإنّ عدمَ تصريحِ واحدٍ من النّاس بهذهِ الحقيقةِ لا يعْني بأيّ معنى مِن المَعاني أنّه قابِل باستعبادِه، لكنّها أسبابٌ لا حصرَ لَها تُخرِسُ لسانَه، وتكبّل قدرته على تحطيمِ قيودَه، وتخنقُ صرخَته التي لوْ أتيحَ لَها الهَدير، فسوفَ تزلزلُ الدّنيا، وتهزّ أركانَ الوُجود.
الفقرُ، العَوَز، الجهلُ، التشرّدُ، القمعُ، الخوفُ، الضياعُ، اليأسُ، افْتقادُ الأمْن، اليُتمُ، غيابُ الوعيِ، الرّضوخُ، المرضُ، بعضُ أسبابِ وجودِ أشكالٍ مختلفةٍ مِن العبوديةِ رُغمَ دخولِنا، مِن عقديْنِ، أبوابَ الألفيةِ الثّالثة، وانطلاقِنا نحوَ عقدِها الثّالث، قاطعينَ، من دون هوادَةٍ، أكثرَ مِن خُمسِ القرنِ الواحدِ والعشْرين.
وليسَ مبالغةٌ بأيِّ شكلٍ ومعْنى النّظرُ إلى جِدارِ الفصلِ العنصريِّ في فِلسطين، بوصفِه وجهًا من وجوهِ استعبادِ أصحابِ الأرضِ والحقِّ، وقهرهِم والتضييقِ عليهِم في عينِ أمكنتهِم، وفوقَ ثرى بِلادِهم. حصارُ غزّة شكلٌ من أشكالِ العبوديةِ المعاصِرة. قطعُ شجرِ الذّاكرة. وضعُ اليدِ على جدرانِ الأمان. القتلُ بسوءِ الظنّ وتعكّر صفوِ القاتلِ وتشتُّتِ ذهنِ القنّاص. جميعُها، وغيرُها منحدراتٌ وَعِرَةٌ في تضاريسِ العبوديّة، وجغرافيا الظّلم الذي تدّعي مئاتُ الهيئاتِ الحقوقيّة والمنظّمات الإنسانيةِ أنّها تعملُ على أنْ لا يَبقى مِنه باقيَة، ولا يعودُ لهُ وُجود.



عبوديةٌ ذاتيّة..

وصمةُ عارِ على الإنسانيّة


لمْ يكتفِ أهلُ هَذا الزّمان بالعبوديةِ المفروضةِ قسرًا وظلمًا على ملايينِ بَني البَشر، فقرّر ملايينُ غيرُهم الذّهابَ نحوَ عبوديةٍ طَوعيةٍ ذاتيّة: عبوديةُ رجلٍ أبيضٍ لِعِرْقِه لا يريدُ أن يتحرّرَ من هذا الإحساسِ بفوقيةٍ مزعومةٍ مريضَة (أعتقدُ جازِمًا أن الشرطيّ الأميركيّ الأبيضَ الذي وضعَ ركبَتَه فوقَ عنقِ الأميركيِّ الأسوَدِ جورج فلويد هُوَ ممّن يرزحونَ تحتَ نيرِ هذا النّوعِ من العبوديّة). عبوديةُ طمّاعٍ لِلمالِ، وبأيّ طريقةٍ غيرِ مشروعةٍ، أوْ قذِرةٍ، أوْ مجرمةٍ، يمكنهُ أن يجْني مِن خِلالِها هذا المَال. عبوديةٌ مروّعةٌ للنّفسِ وغرائزِها؛ من شراهةٍ في الأكلِ، وإشباعِ بطنٍ لا يشبَع، إلى حيوانيةٍ بيولوجيةٍ في التعاملِ مع مفهومِ المرأةِ وجسدِها ومعنى وجودِها، إلى خضوعٍ لأوْهامِ (الفوبيا) إمّا من الآخَر، أو مِن السُّلطة، أوْ مِن المُطالبةِ بالحُقوق. عبوديةُ ديكتاتورٍ للكرسيّ وقَد استلّ مِنهُ هذا الكرسيُّ كلَّ كرامتِهِ وإنسانيّتِهِ وعافيتِهِ ومعنى وجودِهِ، وإضاعتِهِ الفرصةَ الوحيدةَ التي يحيا الإنسانُ فيها هذا الوجودَ الفذَّ المتفرّدَ. عبوديةُ الغيبياتِ كّما هوَ حالُنا مع اليهودِ الصهاينة الذينَ سَكنوا كهوفَ الماضي، ولا يريدونَ لابنِ حرّةٍ أنْ يتركهم يقبعونَ فيها وحدَهم. يودّون حشرَ النّاسِ والكائناتِ والدّولِ والحضاراتِ والحقائقِ والحقوقِ والأحلامِ والوقائعِ معهُم في هذا الكهفِ المُظلمِ السّحيق. ولوْلا قلّةٌ قليلةٌ مِن أصحابِ العقولِ المستنيرةِ، فإنّي أحسبُهم تمكّنوا (أوْ كَادوا) من تحقيقِ تلكَ الأمنيةِ المريضةِ الشّوهاءِ العرْجاء. العبوديةُ لِلآخرِ الغربيّ والأوروبيّ (كلُّ افرنْجي برنْجي)، وما وصفَه مالك بن نبي بِالاستتباعِ الطوعيِّ بِالفكرِ والثّقافة والاقتصادِ والاجْتماع، "بَل وَفي الملبسِ والمأكلِ، واحتقارِ لغتِنا وثقافتِنا، وتبنّي اللسانِ الأجنبيّ الأعوجِ"، وكل شيء تقريبًا بُرِّرَ تحتَ غِطاءِ العوْلمة، فهوَ ممّا يصحُّ نِسْبتُه، كَما قال بن نبيّ، لِـ"مرضِ القابليةِ الذاتيةِ في نفوسِنا للاسْتعمار La colonisabilite".




عبوديةُ المظاهرِ والأنْماطِ وعبوديّاتٌ أُخرى كثيرةٌ، لن أدّعي أنّها تستحقّ التعريفَ نفسَه الذي يتعلّق بالعبوديةِ المرتبطةِ بالرقِّ واستعبادِ بني البشرِ واستباحةِ حيواتِهم وحريّاتِهم وحقوقِهم وقتلِ خصوصياتِهم وجلدِ أيامِهم، لكنّها تستوجبُ الالتفاتَ لَها، وتأمّل مَدى إضرارِها بنوعِنا.



أصلُ الحِكاية..

تاريخ من العار


تعودُ حِكايةُ العبوديةِ إلى أزمانٍ سحيقةٍ من تاريخِ البشريّة المكتوبِ على أقلِّ تقْدير، (طالمَا أنّ غيرَ المكتوبِ يبقى في كثيرٍ من تفاصيلِه مجهولًا).
وفقًا لِما ذكرهُ أستاذُ التاريخِ الأكاديميُّ السوريّ د.عبد المجيد حمدان في كتابهِ "العبيدُ عندَ الرّومان"، فقَد "نشأتْ ظاهرةُ الرِّق (الاستعْباد) خلالَ فترةِ تحوّلِ البشرِ مِن الصّيدِ إلى الزّراعة"، وبالتّالي استقرارُ الإنسان وتشكُّلِ الحياةِ القرويةِ التي تتطلّب عمالةً للزراعةِ والصناعةِ ورعْي المَواشي، الأمرُ الذي جعلَ الرقّ، ومنذُ العصورِ القديمَة، يقومُ، على ثُنائيةِ وجودِ سيّدٍ قويٍّ وعبدٍ مُستَضعَفٍ يعملُ مِـن أجلِ سيّدِه، فإِذا بِها فكرةُ الاسترقاقِ تتغلغلُ إلى نفـوسِ أرْقى الناسِ والمفكرينَ والفلاسفةِ، أمثالِ أفلاطون، وأرسطو، وغيرِهُما.
أيّامَ حياتِها، رحِمها الله، كانت أمّي كثيرًا ما تعيدُ عليْنا سردَ حكايةِ فلّاح سألتهُ زوجتُه حولَ مائدةِ العَشاءِ عن العامل (القطْروز) الذي يعملُ لديهِم في الحقلِ، وِكم يتقاضى، فأجابها: "شغّلته بلكْمته" (بِلُقْمتِهُ)، فَما كان مِنها إلا أنْ اعترضتْ على ذلك قائلةً: (ما عرفتش تكطع (تقطع) عنهُ هذه اللقمة؟"!!
الآنَ أدْرِكُ سببَ تِكرارِ أمّي، لِروحِها السّلام، حكايةَ الفلّاحِ وزوجتِه، فعلى ما يبدو أنّ لدينا قابليةً استعبادِ النّاس إنْ لمْ يكُن هُناك ما يردعُنا، أوْ أنْ نخلِقَ بأنفسِنا داخلَ أنفسِنا هذا الرادِعَ دينًا وأعرافًا وقيمًا وعاداتٍ ومكارمَ أخْلاق.




فإنْ كانِ (قطْروز) واحِدًا (لا غيْر) أغرى المرأةَ الفلّاحةَ التي لَطالَما رافقت زوجَها للحقلِ وعمِلت معهُ وشرِبا معًا قربَ المرجِ شايَهما، أن تتحوّل إلى مُسْتعبدة (بِكسرِ البَاء)، فما بالَكم بحالِ مَن يَرى حولَه آلافَ المحتاجينَ لُقْمَتَه، المضطرّينَ إلى بعضِ فُتاتِه؟؟
وتخيّلوا، يا رَعاكم الله، عندما يتحوّل الأمرُ إلى ملايينَ الراضخينَ لِسلطان، الجاهلينَ حقوقَ الإنسان؟؟
فهلْ سببُ تَفَرْعُنِ الفِرعوْن صمتُ حاملي الصّخر، وصبرُهم على أنّاتِ أرواحِهم وقروحِ ظهورِهم؟؟؟
منذُ القرنِ الخامسِ عَشَر، البرتغالُ وإسْبانيا، قادَتا الغزوَ الاستعماريَّ الاحتلاليَّ لِلعالَم. لاحقًا جَرى تبادلُ أدوارٍ استعماريةٍ بينَ كلٍّ مِن ألمانيا والدّنمارك وبلجيكا وهولندا وإيطاليا، وغيرِها وغيرِها، إلى أنْ أصْبحت المحيطاتُ والبلدانُ (أوْ معظَمها على الأقَل)، مغتصبةً مِن القوّتينِ العظمييْن: فرنسا وبريطانيا.
أمّا الاستعماريةُ الأميركيةُ الشّماليةُ فهيَ ممّا لا تكْفيها مجلّدات، ولا تُزيل آثارَها مئاتُ السّنوات. لمْ يكتفِ الأوروبيونَ الذينَ حطّت رِحالُهم في بلادِ العمّ سَام، بإبادةِ شعوبٍ وقبائِل عَن بِكرةِ أبِيها، بل تمادَوْا في الأمرِ، فاقتادوا بشرًا مِن سكّانِ أفْريقيا (عبيدًا) (بعدَ أنْ كانَت أمهاتهُم قَد ولدتهُم أحرارا)، وقطَعوا بِهم المُحيطات والبِحار.
في مقالٍ نشرتْه صحيفةُ "نيويورك تايمز"، تكتبُ الباحثة في تاريخ العبودية، ماريا إيليوت، بمشاركةِ الكاتبةِ، ياسمين هاغيز، عن بعضِ مظاهرِ تاريخِ العبوديّة في الولاياتِ المتّحدة، وتلْقي الضوءَ على بعضِ الجوانبِ التي لا تتناوَلها مدارسُ بلادِها ولا جامعاتُها.
تقول إيليوت: "بعدَ مرورِ أربعمئةِ عامٍ على إحضارِ الأفارقةِ المستعبدينَ إلى فرجينيا في الولاياتِ المتّحدة، لا يزالُ معظمُ الأميركيينَ لا يعرفونَ قصةَ العبوديةِ كامِلة".
المقالُ يشيرُ إلى سفينةٍ برتغاليةٍ كانَت تحملُ عبر المحيط الأطلسي شحنةً مِن (العبيدِ) في وقتٍ ما مِن عام 1619، وكانَ هؤلاءُ (العَبيد) أفارقةً مِن أنْغولا في جنوبِ غربِ أفْريقيا.
وتضيفُ الكاتِبتان أنّ "الرجالَ والنساءَ والأطفالَ (ومعظمَهم على الأرْجح من مملكتيّ نوندو وكونغو) تحمّلوا عناءَ الرحلةِ المرعبةِ، وأنَ مَا يقْترِب مِن نصفِ الأَسْرى ماتوا بحلولِ الوقتِ الذي تمّ فيهِ الاستيلاءُ على السفينةِ بواسطةِ سفينتينِ مِن القراصنةِ الإنْكليز".
يقول الداعيةُ الطبيبُ الباحثُ المصريُّ، راغب السّرجاني: "بلَغَتْ تجارةُ العبيدِ الأوروبيَّةِ عبرَ المحيطِ الأطلسيِّ مَداها الأوضَعِ في القرنِ الثّامنِ عَشَر. ويُقَدَّر عددُ (العبيدِ) المُختطفين مِن القارَّةِ الأفريقيَّة، الذين وصَلوا أحياءً بِزهاءِ 40 مليونَ أفريقيّ، ماتَ، في المقابِل، ملايينُ آخرينَ مِنهم، خِلالَ رِحلةِ النّقلِ (الحيوانيّ) (اللاإنسانيّ) في السّفن".
السرجانيّ يُضيفُ إلى جريمةِ فرضِ العبوديةِ على الأفارِقة جرائِم أُخرى هيَ نهبِ ثرواتِ القارّة السوْداء، واستنزافِ موارِدها، واقترافِ أشنع جرائمِ القمعِ والقتلِ والتصفيةِ والتنكيلِ والإبادةِ بحقِّ كلِّ من كانَ يعترِض على كلِّ هذهِ الفظائِع، أوْ يحاولُ الدّفاعَ عن آخرِ قلاعِ إنسانيّتِه.


ولعلّ الشّهادةَ الأبْلغ تلكَ الآتيةُ مِن الجانبِ الاستعماريِّ نفسِه؛ حيثُ يوثّقُ المؤرِّخ البريطاني، بازيل ديفيدسون، في كتابِه الموسوعيّ "أفريقيا تحتَ أضواءٍ جَديدة" تجارةَ الرقيقِ الأوروبيَّة بقولِه: "فاقت تجارةُ الرّقيقِ بعدَ اكتشافِ السّواحلِ الأفريقيَّةِ أيَّ مدَى عرفتْه هذهِ التِّجارة منذُ القِدم، واتَّخذت مع الأوروبيِّين معنًى جديدًا؛ حيثُ شرعَت السّفن الأوروبيَّة في نقلِ الأفارقةِ من الدّاخل، ومنَ السَاحل، لتُدْمِي الحياةَ في القارةِ الأفريقيَّة، وأضْحت النِّخاسةُ على يدِ الأوروبيِّين تجارةً أشبهُ ما تَكون بالموتِ الأسودِ (الطّاعون)، الذي اجتاحَ أوروبَّا، فقضى على ثلثِ سُكَّانها، بلْ أسوأ؛ لأنَّ النتائجَ الاجتماعيَّةَ لتجارةِ العبيدِ في قارَّة إفْريقيا كانت أقْسى مِن الموْت؛ فالوباءُ الذي تعرَّض له الأوروبيُّون انْتهى وانْقضت آثارُه، لكنّ القهرَ الذي تعرَّض له الأفارقةُ، والذلَّ الذي عاشُوه، لمْ تكُن لِتنقضي آثارهُما رُغم مرورِ أربعةِ قرونٍ كاملةٍ على بِداية هذهِ المأْساة".
منذ مرحلةِ ما سُمّي الكشوفَ الجغرافيّة، وحتى يومِنا هذا، غرسَ الغربُ الاستعماريُّ، عن سبقِ إصرارٍ وترصّد، ميراثًا مهولًا من الكراهِيَة.




والحقُّ يُقالُ إنّها كراهيةٌ لا تقتصرُ على ما ارتبطَ بِها من تجارةِ رِقٍّ وتحويلِ القِنانةِ إلى شكلٍ من أشكالِ العُبودية، بل بِما أُضيفَ إلى كلِّ ذلكَ من نهبٍ ووضعِ يدٍ على مخزونِ بلادِنا من ثرواتٍ، وبِما شابَها من عنصريةٍ وإحساسٍ فوقيٍّ أنّنا لا نستحقُ خيرَ أرضِنا وخزائنِ مقدّراتِنا. بل وحتّى بسببِ ما رافَقها مِن ادّعاءاتٍ وحملاتِ تضليلٍ حوْلَ ما حَمَلوه معهُم من علومٍ وأسبابِ حضارةٍ وممكناتِ تطوّر.
فمسألةُ الاتّجارِ بالبشرِ، وعرضِ الرّجال والنّساء في سوقِ النِّخاسة، ممّا لا ندّعي أنّنا أبرياءُ مِنه براءةَ الذّئبِ مِن دمِ يوسف.
نعم عَرَفَت الجزيرةُ العربيّة، وعَرَفت صَحارينا، أشكالًا منمّطةً وغيرَ منمّطةٍ من استعبادِ بَني البَشر، خصوصًا، وكَما هُو حَال العبوديةِ الغربيَة، مِن بني أفريقيا. ولِيومِنا هذا لا تزالُ بعضُ مفرداتِنا تشِي بذلِك، وتكشفُ بعضَ دهاليزِ تاريخٍ أسوَد: (عبد أسود) التي تُقال في الإشارة إلى شخصٍ بشرتهُ سوداء. (عتيق) و(شوشان) بِالمعنى نفسِه في بعضِ اللهجاتِ المغاربيّة. وفي هذا السّياق، لعلّنا نوردُ خبرًا سعيدًا مفادَه أنّ القضاءَ التونسيّ حَكَمَ لمواطنٍ بشطبِ كلمةِ (عتيق) التي كانت تشوّه وثائقَه الشخصيّة، حيث يبدو أن بعض المدن التونسية، خصوصًا المدن الجنوبيّة، مثل مَدنين، وجزيرةِ جَربا، تَكتُبُ كلمةَ "عتيق"، أوْ "شوشان" (عبد) على أوراقِ العديدِ من السّكان ذَوي البشرةِ السّوداء، مَا يعْني أنَ أصحابَها يتحدّرونَ مِن عائلةٍ اُسْتُعْبِدَ أفرادُها في المَاضي. على أملِ أن يأخذَ قرارُ المحكمةِ التونسيةِ بُعْدَ التعميمِ في المستقبلِ القريبِ، ولا تعودُ تُشاهَدُ هذهِ الوصمةُ غيرُ اللائِقةِ في بلدٍ أحبّها (علْمًا أن تاريخَ الخبرِ الذي أُشيرُ إليْه هو 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، وهُو منشورٌ في موقِع قناةِ "الحُرّة" عن "فرانس برس").
ولعلّ مفردةَ (قطْروز) المتداولةَ، ربّما، في بلادِ الشّام (في اللهجتيْن الفلسطينيةِ والأردنيةِ على وجهِ الخُصوص) مِن المفرداتِ التي تقتربُ في مَعانيها ومظانّها من فكرةِ الاستعْباد.
ولا نودّ هُنا أنْ نشيرَ إلى بيتٍ شعرٍ كتبَه المتنبّي ذاتَ خيلاءٍ غيرَ وقورَة.
أصلُ الحكايةِ كما يتّضحُ هُنا له عُلاقة بالثقافةِ والمعرفةِ والقيمِ الأخلاقيّة، وأحيانًا بالموروثِ والمتداولِ والمسكوتِ عنْه.
أمّا حقيقةُ الحِكاية فهيَ أنّ الناسَ جميعَهم أحرارٌ، فإن بقيَ واحدٌ منْهم خارجَ نعيمِها (الحريّة)، فهذا ذنبُ الخلائقِ أجْمعين، الحكّامِ والمحْكومين، لا يُستثنى مِن جرمِ عبوديّتِه أَحَد.



العبوديةُ في السّينما..

من فيلم Tragic Jungle


عشراتُ الأفلامِ تناولَت موضوعَ العبوديّة؛ ليسَ بدءًا بفيلمِ "الجذور" (كونتا كينتي) المأخوذ عن روايةٍ تحملُ الاسمَ نفسَه للكاتبِ الأميركيِّ أليكس هيلي (1921 ـ 1992)، ولا انتهاءً بفيلمٍ شاهدتهُ قبلَ أيّامٍ عنوانهُ Tragic Jungle (2021)، الذي قَد تصحُّ ترجمتُه العربيّة بِـ"الغَابة المأساويّة".
الفيلمُ الذي أخرجتْه ودبّجت السّيناريو الخَاص بِه المخرجةُ المكسيكيةُ، يولين أولايزولا، يتّكئ أساسًا على أسطورةِ خاصّة بشعوب المكسيك الأصليّة (المَايا على وجهِ الخُصوص)، وهي الأسطورة الخاصّة بالأنْثى الشّيطان، أو الشيطانِ الأنْثى، أو لعلّها، بحسبِ متابعتي لِلفيلم الأنثى الفاتنةَ حتّى الموْت (الأنْثى القاتِلة). هذه المرأة اسمها بحسبِ موروثِ سكّان جزيرةِ يوتاكان: اكستَباي Xtabay (امرأةٌ خارقةٌ للطبيعةِ ترتدي ثوبًا أبيَضَ وتتغذّى على الرّجال في شبهِ جزيرةِ يوكاتان. يُقال إنّها تسكنُ في الغابةِ لإغراءِ الرّجالِ بِجمالِها الذي لا يُضاهى. وُصفت بأنّها ذاتُ شعرٍ أسودٍ لامعٍ وجميلٍ يسقطُ على كاحليْها).
البعدُ الأسطوريّ في الفيلمِ شكّل حاملًا جماليًا أخلاقيًّا لِسرديّتِه الأهَم والأعمقِ المتعلّقة بالاستعبادِ الذي مارسَته الرأسماليةُ العالميّة في تلك المناطقِ داخلَ أدغالِ أميركا الجنوبيّة والوسطى، عِندما يتحوّل من يقومون بجمعِ العِلكةِ، أو يحصدونَ المَوز، أوْ يحرسونَ المستعمِرَ الإنكليزيّ وكلبَه، إلى مجرّد عبيدٍ لا يستحقّون حتّى كفنًا ولا قبرًا يدفنونَ فيه عندَ (نفوقِهم)، فيلقونَ في نهرِ هندو بين المكسيكِ وبليز. الهيجانُ الاستعماريّ المختلّ وصلَ بِه الأمرُ في الفيلمِ إلى مطاردتِه للمرأةِ الأسطورةِ يريدُ قتْلَها، وبالتالي قتلَ كلِّ بعدٍ إنسانيٍّ يتحلّق السكّانُ الأصليونَ حولَه.
على كلِّ حالٍ، يحتاجُ Tragic Jungle، إلى وقفةٍ مطوّلةٍ في مادةٍ مستقلّة، وكل ما يمكنُ قولَه عنهُ، الآن، إنّه شكّلَ صيحةً واقعيةً سحريةً لتاريخِ العبوديةِ في تلكَ البُقعةِ مِن العالَم. كَما أودُّ أنْ أقولَ إنّ مخرجتَهُ الشّابّة، يولين أولايزولا (1983) Yulene Olaizola، تسيرُ بِخطى وئيدةٍ، ولكنْ مدروسةٍ نحوَ سينما مُثقّفةٍ مُختلفة، وهيَ الحاصِلة على زهاءِ 30 جائزةً عَن فيلِمِها الأوّل الذي جاءَ وثائقيًّا تحت عنوان "علاقات شكسبير بِفيكتور هوغو" (2009) (بعضُهم يترجِمُ العنوانَ: "حميميةُ شِكسبير وفيكتور هوغو"). وأشيرَ إلى أنَها أجادتْ في "الغابة المأساوية" توظيفَ أشعارِ الأديبِ والسياسيِّ المكسيكيِّ، أنطونيو ميديز بوليو (1884 ـ 1957)، بِما أضفى فتنةً وعُمقًا وحيويةً استثنائيةً على الفيلم:
"تحرَّرْ مِن لعنةِ إكستاباي
يا مَن لمْ تستطِع مقاومَتها
لَوْ كانَ هناكَ تعويذةً لأعطيتكَ إيّاها
أُشْفِقُ عليكَ مِنَ اسْتِدْراجِها
لَمْ تجدْها بَعد
تتخيّلها تخرجُ من جذعِ شجرةِ قابوق
لكنّها تخرجُ مِن أعماقِ قلبِك".
وتجنبًا لتكرارِ عشراتِ الموادِ الموجودةِ في الشبكةِ العنكبوتيّةِ، فلَن أعدّد الأفلامَ الأجنبيةَ والعربيةَ التي خاضتْ موضوعاتُها في العبوديةِ، وكلِّ ما يتعلّق بِها. وأكتفي بإيرادِ ملاحظةٍ أنّ النمطيةَ تسودُ هذا التِعداد والإحْصاء، فَتَسْقُطُ أفلامٌ مثل "البقرةُ الأُولى" (2020)، الذي سبقَ كِتابتي عنْه هُنا، رغمَ أنّ استرقاقَ البشرِ كان واضحًا فيه، ناهيك عن عبوديةِ البحثِ عن الذّهب، أو أحدِ أنواعِ الجلودِ، أو البنْدق، وَما إلى ذلِك (تحوّل الإنسانِ إلى عبدِ عملٍ، أو حاجةٍ، أو طمعٍ، أو حلمِ ثروةٍ.. إلخ). كما يَسقطُ فيلمٌ مثلَ "الكتابُ الأخضرُ" The Green Book (2018) الذي نالَ أوسكار عام 2019، رغمَ أنّ التمييزَ العنصريّ هوَ ذيلٌ من ذيولِ العبوديةِ التي جاءَ استهلالُنا هُنا أنّ الكونغرس الأميركيَّ ألغاها قبل 159 عامًا!
وحسنًا فعلَ الموقعُ الذي أدرجَ فيلم المصارع (2000) Gladiator بوصفِه فيلمَ عبوديةٍ، فهوَ بحقٍّ كذلك، يعرّي عبوديةَ الامبراطوريةِ الرومانيةِ بغضِّ النظرِ عن لونِ العبيدِ الذين كانوا يُقتّلون بعضَهم فوقَ الحلبةِ لِتسليةِ الامبراطورِ وَمن معَه.




طبعًا، الأدبُ، روايةً وقصةً قصيرةً ومسرحًا وشعرًا، لم يقصّر، في دورِه، في تناولِ وجوهِ العبوديةِ، وهتكِ أسرارِها. ومِن الطبيعيِّ أنْ تحضرَ في هذا السياقِ الروائيةُ الأميركيةُ من أصولٍ أفريقيةٍ، توني موريسون (1931 ـ 2019). ويكفي أنْ نعلمَ لإدراكِ تغلغلِ العبوديةِ في ثَنايا حضارِتنا أنّها الأميركيةُ الوحيدةُ من تلكَ الأصولِ (غيرِ نقيّة البَياض)، الحائزةُ على جائزةِ نوبل (حازَت عليها في العام 1993).
ولعلّ مِن المنصفِ إيرادُ بعضِ أسماءِ رواياتٍ عربيّة جالَت في الموضوعِ نفسِه وهَجَسَت بِه: "زرايبُ العَبيد" لليبيةِ نجْوى بِنت شتْوان؛ "فسْتق عَبيد" للروائيةِ الأردنيةِ سميحة خريس؛ "كتيبةٌ سوداء" للمصريّ محمد المنسي قنديل؛ "شوقُ الدراويش" للسودانيّ حمّور زيادة؛ "ثمنُ المِلح" للبحرينيّ خالد البسّام، ورواياتٌ أُخرى كثيرَة.
لا أدري إلى مدى تخلّص المُهدي (فرنسا)، والمُهدى إليْه (أميركا)، من هوسِهِم الأزليّ بالعبوديةِ. وبأيِّ معنى تجرّأت بلادُ الفرنسيس على إهداءِ تمثالِ الحريّة لأميركا، كَما لوْ أنّها راعيةُ قيمتِهِ وقدسيتِه، في الوقتِ الذي ظلّت تستعمرُ بلادَنا عشَرات الأعوامِ بعدَ نقلِه من باريس إلى نيويورك. وفي حالةِ الجزائرِ، على وجهِ الخصوص، احتاجَ أمرُ ربطِها بينَ دلالةِ التمثالِ وحريّةِ الجَزائرِ إلى 77 عامًا بالتّمام والكَمال، بينَ وصولِ التمثالِ إلى ما وراءَ المُحيطاتِ، وبين إدراكِها حقّ دولةٍ أقرب بكثيرٍ إِليْها جغرافيًّا ومتوسطيًّا بِحريّة ناجزةٍ وواجِبةٍ من دونِ تماثيلَ وَلا أَكاذيب.



يا لَهُ مِن أَنين..
هَا نحنُ ندورُ في فَلَكِ المحْظور، ونصرخُ بعالي الصّوت أنّ الغربَ في معظمه لم يتركْ لَنا ما نلْتقي حوْلَه معه، ولا ما نثقُ فيهِ مِن جِهتِه، إنْ كانَ هوَ مَن يجلسُ على الجهةِ الأُخرى من المائِدة.




ندورُ.. وندور.. بِلا محاذيرَ أوْ نُذور. مثلَ رقصةِ الأفريقيّ الأَخير..
وَيا لهُ مِن أنينٍ "أنينُ الذِّئابِ على جِنسِها"، كما قال الشاعر، وأَقول: أنينُ الحَياةِ عَلى عِتْقِها.
وَمَعْنا يَدورُ البُخُور..

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.