}

"متحف فيلليني".. مخرج سينما السحر والأحلام

وائل سعيد 27 أغسطس 2021
هنا/الآن "متحف فيلليني".. مخرج سينما السحر والأحلام
(فيديريكو فيلليني، getty)

كالجميع، تملكتني الدهشة لدى مشاهدة فيلم للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني لأول مرة. فإذا كنت لم تشاهد فيلليني بعد، جرب بنفسك! ثمة دهشة تلازمك في أثناء الفرجة على أفلامه فيلمًا بعد آخر، حتى وإن اكتشفت سر الخلطة الفيللينية بتكرار المشاهدة أو توهمت ذلك؛ الطبخات الكبيرة دائمًا لا تخضع لأسرار، حيث لا سر في الأمر، الحكاية وما فيها أسلوبية المُخرج المتكررة/ المتجددة في أعماله، والتي تحمل طابعًا خاصًا يطلقون عليه في بعض الأحيان "مدرسة"، وهو ما يُميز مخرجًا عن غيره.

في العام الماضي، احتفل العالم بمئوية ميلاد فيلليني (1920 – 1993)، وكان من المخطط ضمن الاحتفالية العالمية، افتتاح متحف باسمه، الأمر الذي تأخر ما يقارب العام حتى تم الانتهاء مؤخرًا من تحويل المنزل القديم إلى متحف برعاية هيئة السياحة بمقاطعة إميليا رومانيا، وهو المنزل الذي شهد ولادته وسنوات طفولته وتكوينه بمدينة ريميني في هذه المقاطعة الإيطالية الواقعة على ساحل البحر، وقد تم استدعاؤه في أكثر من فيلم، ولكن "أماركود، 1973" خُصص بكامله لسرد سيرة هذا البيت الصاخب بعائلته وجيرانه، وفيما بعد آل إلى أخت فيلليني التي قضت فيه حياتها مع زوجها حتى بدأ التخطيط لتحويله إلى متحف من قبل مؤسسة "Fellini Foundation" المعنية بحفظ التراث الفني للمخرج الإيطالي وترويجه وإتاحته عالميًا.

واجهت المؤسسة العديد من المشاكل مع بعض الجهات وأفراد من عائلة فيلليني نفسه، لعل أكثرها درامية واقعة "فرانشيسكا"، ابنة أخته، في ذكرى ميلاده التسعين عام 2010، حين استأثرت لنفسها بتماثيل جوائز الأوسكار بالإضافة إلى جزء كبير من مكتبته، معترضة على تجميد عضويتها في مجلس المؤسسة، مما أثار دهشة الإدارة التي لا يعلم أحد من أعضائها أي شيء عن هذا التجميد المزعوم.

على جانب آخر، عُرض فيلم "Nine" في نفس العام، المأخوذ عن رائعة فلليني "½8، 1963" بطولة نيكول كيدمان ودانيال دي لويس، إخراج روب مارشال. والطريف في موضوع الفيلم بعض الشائعات التي تؤكد وجود طيف "فرانشيسكا" وحادثتها مع إرث خالها.

جانب من متحف فيلليني  



"شهادة خضراء" للسيد فيلليني دون علمه

اتسمت أسلوبية فيلليني بأجواء من الغرائبية، ولو كان يعيش بيننا الآن لشاهد كرم الطبيعة فيما هو أكثر إذهالًا؛ سيناريو كوفيد 19 على سبيل المثال وفتراته المختلفة من حجر وتحورات وخلافه. لم يسمع السيد فيلليني من قبل عن المادة 3 المستجدة في الأحكام التشريعية الإيطالية وفق الوضع العالمي لفيروس كورونا، والتي تُلزم زائري المتحف بتقديم "شهادة خضراء" تُثبت تلقي الزائر للقاح، الإجراء المتبع في دول كثيرة مع السفر والتجمعات المغلقة.

يقدم المتحف خدمة غرف المعاطف، لكنه لا يسمح باصطحاب الحيوانات الأليفة باستثناء الكلاب المرشدة للمكفوفين. وكثيرًا ما ضرب فيلليني بالتشريعات والقوانين عرض الحائط، لم تُمنع من أفلامه الكثير ولكن معظمها أثار الجدل، إلا أن موضوع "الشهادة الخضراء" والمعاطف والكلاب يحتاج لوقفة، لماذا لا يحبون الكلاب وهل للشهادة الخضراء أي أجندات سياسية؟ أسئلة كثيرة في انتظار صاحب البيت القديم، ربما لن يجد لها إجابة مطلقًا، وربما ساعده أحد الزوار في مرة قادمة.

فتح المتحف أبوابه للجمهور مجانيًا على مدار ثلاثة أيام، من 19 آب/ أغسطس الجاري، وطرحت أولى التذاكر للبيع في اليوم الرابع، 23 آب/ أغسطس. يجمع المتحف في توثيقه بين ما هو سمعي بصري، فهناك مساحات مخصصة لإرث فيلليني من الرسومات، حيث اشتهر بالرسم ومارسه في شبابه لكسب العيش، وفيها العديد من المشاهد والشخصيات والديكورات المرسومة لمعظم أفلامه، إلا أن المجموعة غير مكتملة حتى الآن ويتم التفاوض لإكمالها مع ورثة زوجته، الفنانة جولييتا ماسينا، الذين يحتفظون أيضًا ببعض المخطوطات وعدد كبير من مكتبته الخاصة، فلم يترك فيلليني تقريبًا كتابًا إلا وسجل على صفحاته التعليقات والإشارات وبعض الرسومات أيضًا.

من ضمن محتويات المتحف فوتوغرافيًا الأفلام وكواليس التصوير، عروض فيديو قصيرة، تسجيلات نادرة، مشاهد مختارة، إلى جانب الأرشيف الشخصي للمخرج خلال حياته، ومكتبة بعدة لغات لباحثي السينما، تضم إرثًا ضخمًا مما كُتب عن فيلليني وسينماه، بما في ذلك دراسات أكاديمية ومقالات ودراسات والعديد من الحوارات والمقابلات.

عالم ضخم لم يشهده منزل ريميني من قبل، وإن شهد إرهاصاته الأولى في مخيلة الفنان، والآن تجترها الجدران التي تحمل سيرة الساحر، صاحب القبعة السوداء.

جانب من متحف فيلليني  



الساحر والقبعة السوداء

العوالم السحرية وموتيفاتها. تداخلات الحلم والواقع. التشكيلات البصرية. الحيوانات وخاصة الحصان. السيرك. الأقنعة والمساحيق الصارخة- توليفة كبيرة من المفردات يُقلبها فيلليني بين راحتيه في هدوء وصخب مجسدًا الهواجس والرغبات والظنون بين شخصياته، ولولا ذكاء فيلليني كمخرج لما استطاع تحريك طاقم العمل بخيوط كالعرائس، إذ كان ديكتاتورًا لأقصى درجة، وهاضمًا لأبعد الحدود،  كما يتضح من خلال الفيلم الوثائقي " I'm a Born Liar أنا مولود كاذب، 2002" للكندي داميان بيتيغرو، المبني على فيديوهات أخيرة لفيلليني دعيت بالاعترافات. كما يعترف فيلليني في أكثر من حوار معه بولوعه بالكذب أثناء الحكي، حين يُعيد بناء العالم من جديد أو هدمه ولكن كما يراه وليس كما حدث، من هنا أيضًا قدم رؤية مغايرة لمفهوم السيرة تتعامل مع الذاتية برحابة أكثر تخرج بها من الحيز الشخصي لأفق التأويل، "كازانوفا فيلليني – روما فيلليني – ساتيريكون فيلليني"، ثلاثة أفلام تحمل من الملكية الذاتية ما يتعارض مع التأريخ الرسمي، كأنها تقدم تاريخًا جديدًا سيبقى موازيًا إلى الأبد، بالإضافة إلى الطابع الكرنفالي والبناء الكاتدرائي في إقامة المستنسخات بالحجم الطبيعي لشوارع ومبان وميادين بديلا عن المناظر الخارجية، لذلك فضّل فيلليني الاستوديوهات في التصوير عن الطبيعة.

ربما أن كازانوفا وساتيريكون كانا أقصى ضربات فيلليني الصادمة عن خلق التاريخ من جديد، فنحن في الفيليمين إزاء شخصيات وفترات تاريخية معروفة لكنها ترتدي عباءة المخرج، ويظهر الجانب الضعيف الذكوري من الشخصية العاطفية القديمة، في حين تنفتح في ساتيريكون آفاق خلق العالم على رحلة البشرية في عمومها، رحلة تشبه "عوليس جويس، وجحيم دانتي، وألف ليلة ونظائرها، وميثولوجيات الشعوب والحضارات".. يستدعي فيلليني في الفيلم خليطًا من الحضارات واللغات ضمنها العربية عبر رحلة بطله الشاب، نرى من خلالها الدناءة المتأصلة في البشرية باختلاف ثقافتهم وميولهم وعبر كل العصور، ناهيك عن التشكيلات البصرية المهولة التي يزخر بها الفيلم وكل منها يمثل لوحة تشكيلية جمعت بين الحركة والثبات.

الفكاهة هي الأخرى لها نصيب كبير عند فيلليني، ويذكر أمير العمري في كتابه "فيلليني سينما السحر والأحلام" واقعة تسمية فيلم "½8" وحصيلة فيلليني وقتها ستة أفلام طويلة وفيلمان قصيران وفيلم مشترك مع مخرج آخر، اعتبره فيلليني نصف فيلم، ومن هنا جاءت التسمية.





البحث عن الزمن البندولي

يُقال عن ريميني إنها بلدة القليل من كل شيء، بمعنى أن زائرها مهما كانت طبقته الاجتماعية سيجد فيها ما يناسب كافة إمكاناته المادية، علاوة على طابعها الثقافي التوليفي بين القديم والحديث/ الأصالة والمعاصرة، وقد كانت مستعمرة سابقة للإمبراطورية الرومانية لذلك فهي معلقة بين الماضي والحاضر؛ الأمر الذي انعكس على أيديولوجية الأسلوب عند فيلليني في جل أفلامه، ثمة خط متكرر وطاغ قد يكون من أكثر السمات وضوحًا في الرؤية وهو الزمن البندولي المتأرجح. في المشاهد الافتتاحية لفيلم "الحياة حلوة، 1960" ينفتح الكادر على أطلال روما وتمثال المسيح تنقله طائرتا هليكوبتر تدلى في إحداهما بحبل، وفي الأخرى يجلس مارشيلو ماستروياني، الصحافي وزميله المصور يتابعان تغطية حدث نقل التمثال.

من خلال عدد وجيز من التقطيع - المونتاج- في المشاهد التالية، تستعرض الكاميرا رحلة نقل التمثال من أسفل، على أرض إيطاليا وكم من التغيرات العمرانية ومواقع العمل تشيد مباني حديثة في روما الجديدة ذروة الأحلام للمد الاشتراكي عالميًا في ستينيات القرن الماضي. رويدًا رويدًا يظهر بعض الأفراد في الشوارع والحارات ثم الميادين، تختلط المجاميع - وهي سمة من سمات فيلليني أيضًا- وفجأة تنتقل الرحلة لإيطاليا الأغنياء داخل حمامات سباحة مكشوفة أعلى ناطحات السحاب؛ وسيدات ينعمن بحمام شمسي قربت المسافة كثيرًا بينهن وطائرة الصحافي.

هذه البندولية بين الفئات الشعبية والغنية/ روما الفقراء والأثرياء، هي نفس الثنائية المستخدمة بصور وتنويعات مختلفة وضع حجر الأساس لها في ريميني داخل هذا الزمن المعلق. في نفس الوقت تعلو المساحات الرمزية حتى وإن كانت تهكمية؛ فالرمز وليد ثقافة القرية التاريخية للطفل الذي عاش هناك، وعيه الذكوري الأول نراه مرة أخرى – كما يقدم الفيلم- مع "مارشيللو – مدينة النساء 19" والانتقال في المشهد الافتتاحي بين صلابة ولوج القطار لنفق يسبقه عشب وترنح "البطل" الجالس في عربة من القطار متهالك يغالب النوم، وأمامه تجلس امرأة على عكس حالته في هدوء وقوة تراقبه في صمت وابتسامة ماكرة تشي بما ينتظره. 


فيديريكو فيلليني  خلال تصوير أحد أفلامه



سيرة الخجول غير الذاتية

الدهشة الأخرى مع فيلليني كانت في سيرته الذاتية، أنظر إليه وهو يراجع البروفات النهائية من سيناريو فيلم "ليالي كابريا Nights of Cabiria 1957" إنتاج فرنسي/ إيطالي - أوسكار نفس العام لأفضل فيلم- وفيه يتناول جزءًا من حياة إحدى العاهرات- "جيوليتا ماسين". كان فيلليني خجولًا بعكس كل أفلامه، وكما يذكر في مذكراته كان منطويًا أيضًا لا يحب التجمعات، رغم تكدس أفلامه بالمئات من المجاميع والكومبارس.

والحقيقة أن فيلليني لم يُجرب أو يحتك بعوالم أفلامه على أرض الواقع، لذا، كان عليه الاستعانة بأشخاص لهم دراية بذلك الواقع الحقيقي قبل تحويله على طريقته الفيللينية. الأمر هام وضروري في "ليالي كابريا"؛ حيث العالم ليلي وخاص يحتاج لممارسة عملية واحتكاك مباشر مع هذا الواقع. وكان الحوار من أكثر الأشياء التي تؤرق فيلليني؛ كيف يستطيع استدعاء حوارات من لحم ودم ثم يُعيد خلقها؟ اقترح عليه بعض المُقربين اسم أحد الشعراء وكتاب الرواية، وهو المخرج الكبير بيير باولو بازوليني.

عاب البعض على فيلليني عزوفه عن تناول الموضوعات السياسية في أفلامه، مكتفيًا بالهم الإنساني والطرح الذاتي الفلسفي في إطار يجمع بين الحُلم واليقظة. وقديما قالوا إن السياسة كملح الطعام لن تخلو منها أي وجبة فنية حتى ولو بكميات قليلة أو غير مباشرة، وهذا ما فعله فيلليني في الحقيقة داخل الإطار الفني والحياتي معًا؛ فبرغم عوالمه الخيالية، يُقر بواقعية الأمور بأحكام مبنية على النتائج الفعلية وليس التصورات، ويُسرب ذلك ببساطة طفولية لا تعتد بحسابات الكبار. وهو يقول في مذكراته "أنا فيلليني" حول التواجد الأميركي في بلاده أثناء الحرب العالمية: "احتل الأميركيون روما، كانت السجائر مفاجأة لنا، إذ لم ندخن مثلها في حياتنا. ولو دخنا تلك السجائر الأميركية ذات العلب الرائعة قبل الحرب، لعرفنا جميعنا أن أميركا لا تُقهر"!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.